خفقة القلب الأولى (3)
الأحداث التي مررت بها ما زالت طازجة في عقلي ،فوهة الحب مفتوحة ، زخات من الأشواق تقرع نوافذ قلبي ، وراحت تتراقص الكلمات على شفتي. فم القلم لمس الورقة لكنه لم يتحرك من مكانه ، ولم يكتب شيئاً ، وبقيت الورقة بيضاء.. لعلّه أصيب بنزلة برد وتخثر حبره ..حاولتُ تحريكه ، رجوته ، فلم يستجب ،لا يجوز لهذا القلم أن يصمت ، وشعرتُ لأول مرة أن قلمي يعصيني ولا يجد ما يقوله على سطور أوراقي ! قال لي: لكي أكتب لا بد أن تزودني بدم الحب مثلما تزود عقلك بدم القلب، اعصر اسفنجة عقلك واسقيني ، أغمضت عيني على طيفها.. زارني الشوق إليها، ما أجمل أن تشتاق لذكريات تعاقبت عليها كل الفصول.. لحظات من الصمت الثقيل..استيقظ الماضي والشوق بداخلي .. قتلتني الأشواق وبدأتْ عواطفي تغلي من جديد ..لم أعد أدري هل أنا ما زلت أعيش أم في عداد الأموات ؟ لم أكن أعرف بأن هناك نوعاً من المشاعر يتجاوز بها الانسان اللذة ..إلى ما فوق اللذة..إلى مرحلة الأمان والسكينة وتجعله يحلّق في عالم الروح..فما من لذة تفوق لذة الموت في الحب! ابتسمتُ لشيء لا قدرة على تفسيره ، بعض الذكريات تستيقظ وتقفز في ذاكرتنا، تجعلنا نبتسم لا لسعادة بل لأن شيئاً ماضياً جميلاً زارنا ..لا أستطيع أن أقاوم شهوة الاستسلام لنداء الماضي.. أفكاري تنهمر بغزارة..تتسابق الحروف وتتمايل بغنج ودلال.. تركض الكلمات كفرس جامحة لا قدرة لأحد على إيقافها ولا رغبة لها بأن تتوقف..رحتُ أكتب عنها محاولا استبطاء أفكاري للحاق بقلمي..إنها فلفلة الروح..ابنة الجيران ..حواء قلبي..احتلت فكري ..اقتحمت حياتي دون استئذان..إنها الفتاة الوحيدة التي دقّ الحب باب قلبها ووجد طريقه إلى قلبي..تعيش معي في رحم أوراقي.. قلبي امتلأ بحبها وأخذ يقرع جدار قلبي، رحتُ أشرب من شفاه حبها .. أسكبُ إليها من صحن عمري .. إنها مزيج من روح أيامي وألم تجربتي وصيد تأملاتي وسجل ذاكرتي ..هي حبيبتي ..هي من أسرت قلبي ..هي الأقرب إلى قلبي وروحي..دخلت زوايا قلبي ولمست كل أوتاره وحركت دولاب أفكاري ..إن سألوني عنها يوماً..سأقول لهم: إنها كانت حياتي ! الحديث عنها مشوّق يفتح شهيتي للكتابة ، يشق صدر الحروف ويروي ظمأ الأوراق ، ويمنح كتاباتي نكهة الثمار الناضجة التي تترك طعمها على اللسان وبين الشفاه !
بقي اسمها على لساني ينتظرني كما ينتظر الربيع ولادة الورد، ألفظه ولا أكتبه ، ما بين نبضة وأختها يذكر قلبي اسمها، فما أعذب اسمها في حلقي ،له طعم في الحلق أحلى من السكر، لم أكن أدرك أن الأسماء تمنحنا حميمية ولذة لا تقدّر بثمن ، حين أذكر اسمها أتذكر قلبي !
في الحب نفقد القدرة على تمييز الأسماء فلا نذكر ولا نكترث إلا للأسماء الأولى، على أربعة أحرف يقوم اسمي واسمها ، ألبست ثوب اسمها إحدى قريباتي ، حروف اسمها تقفز من بين الصفحات ،تريدون أن تعرفوا اسمها؟ لا لن أذكر اسمها.. لأن اسمها لي وحدي .. ولأنني لا أريد احراج الفتاة التي أحببتها أو أكشف أوراقها ، ولا أحب استباحة ما أؤتمن عليه ! عليّ ستر الأمانة العاطفية ، والاستعداد للذود عن شرف الحبيبة بكل طيبة، ومواصلة الوقوف بجانبها حتى بعد الفراق، ولو ُطلب مني أن أختار اسم لها لسمّيتها: نسمة صيف ! كنت أتمنى أن يكون في اسمي واسمها حرف مكرر كقطع غيار فقد أحتاج إليه أثناء السير على الطرق الوعرة، وما أكثر تلك الطرق !
كان حبي لها عنيفاً، هل قلت كان ؟! أعتذر وأصحح : هو حب قوي يهزّ القلب ، حب بكل ما فيه بين عاشقين من فرح وألم وتسامح ! استدرجني طيفها إلى دهاليز الذاكرة، استجمعتُ الخيوط في ذاكرتي منذ كانت أول نظرة ، وأتتني الأفكار دفعة واحدة ففي مناسبات كهذه لا تأتي الكلمات بالتقسيط ، فهذه اللحظات هي أخصب فترات حياتي في الكتابة ، لقد أخذتْ كل تفكيري ،وسال لعاب فكري، فرح القلم و فجأة اتجه للكتابة عنها، وابتسم وسال حبره بعذب الكلام، وركض على السطور وهو يلهث تعباً، كم كان سعيداً ومحظوظاً لأنه يكتب إليها، وراح يقود يدي بدلاً من أن أقوده ، فلم تستطع أصابعي أن تقاوم عضلات قلمي ، القلم الذي بيدي التي ترتعش الآن لا ينصاع كل يوم لأصابعي مثلما انصاع هذا اليوم ، ينساب حبر القلم برشاقة على الصفحات التي تحكي قصة حبي، أجدني ألاطف الأوراق وأراودها فتزغرد أمامي فرحة ، أرى حبر دمي يسيل عنوة عني ، ففي داخلي طوفان من الكلام لا يستطيع قلمي اللحاق به ، تنسابُ الكلمات بسهولة تحت ضغط المشاعر، يأخذ بعضها برقاب بعض، تطاوعني المفردات كخيطان الغزل حين تتحول إلى قميص نوم أو ثوب، كلماتي لا تحتاج إلى مراهم لشد حروفها أو تليين مفاصلها ! يبدأ عناق الحروف فتحبل لتولد بالكلمات كولادة كل نفس بعد مخاض عسير، تولد هذه الجبال من الكلمات كولادة الزعتر البرّي على التلال ، أضع هذه الولادة من الكلمات الآن بمشاركة قلمي وأصابعي وأنفاسي وجوارحي ورعشة قلبي، تُرى ما سرّ هذا الحب؟!
بدأتُ أملأ السطور والصفحات التي أمطرتْ فجأة بهذه الكلمات المنتزعة من حياتي، والتي فقدت أعصابها بعد أن امتلأت بها جيوب قلبي وحجرات ذاكرتي ، عواصف من الأفكار القادمة من بئر الذاكرة! اكتشفت وأنا أكتب وأفرغ جيوب قلبي وحقائب ذاكرتي كم كنت ثرياً بها ! لماذا في الليل فقط يعود الزمان إلى الوراء ؟! كلما أطفأت النور كي أنام أوقد التفكير شموعه ، فسهرتُ حتى نام القمر، ولم يعطف عليّ النوم إلا قبيل الفجر وقبل أن توقظ الديكة الشمس، فقد أنفقتُ الليل إلا أقلّه مع أنفاس الظلام دون أن أنتبه لنفسي، ولم يبق من سواده إلا بقايا أسطر يوشك أن يمتد إليها لسان الصباح الباكر!