خفقة القلب الأولى (6)
الخفقة الأولى لها سحر تجعل مخيلتنا وأحلامنا تسرح في عالم الخيال الذي لا حدود له. لا تسألوني كيف أحببتها دون أن أعرف عنها شيئاً.. أحببتها هكذا ؟! الحب الحقيقي هو أن تحب شخصاً وأنت لا تعرف لماذا تحبه !! وحده الحب يعرّينا. بتُّ أفهم فيها كل شيء، ولا أعرف عنها شيئاً، لكني أصبحت أعرف منها وبها كل الأشياء! هذا هو حب العمر كله بلا جدال!
نظراتها غيّرت مجرى حياتي، نظرتُ إليها نظرة طويلة وتأملتها وكأنني أرى وجه فتاة لأول مرة، وسرعان ما اختزنت صورتها في مقدمة ذاكرتي. النظرة الأولى تنطبع بالذاكرة بطريقة خاصة وغامضة ، تلك النظرة هي بطاقة التعارف بيننا ، جعلتني أتذوق طعم الحياة والقدرة على السعادة، وشعرتُ كما لو كنت قد ولدت من رحم جديد غير رحم أمي !
كاد الفرح يذهب بعقلي ،إنه إحساس عجيب لا يتكرر مرة أخرى. كانتْ أشبه ببرق خاطف يحط على صفحة السماء أحرفاً وأسطراً نورانية، وكمتعة اكتشاف الأشياء الأولى في حياتي، فالفرصة لا تأتي للإنسان مرتين في الحياة !! مرّتْ فترة صمت وأنا أختلس النظر إليها، محاولاً أن أملأ عيني من وجهها، ففي الصمت أمام مطر النظرات يسقطُ الكلام وتخرسُ الكلمات وتموتُ أحرف الأبجدية! عادتْ نظراتي لتستقر على عينيها، والتقتْ عيناي بعينيها مثل قمرين، ورأيتُ فيهما حقول القمح والزعتر البري والياسمين البلدي والفلّ والورد الجوري، فاستسلمتُ لنظراتها، وسجّل قلبي تاريخاً في حياة القلوب ! واكتشفتُ أنني لم أكن قد جئت للحياة قبلها، وبدأتُ أحسّ بشيء يطفح داخل صدري، وبموجات حارة ترتفع وتصل حتى رأسي، ووجدتُ متسعاً من الفرح أمامي وكأنني أمتلك كنوز الأرض والسماء، فكيف يكون الإنسان فقيراً وهناك من يحبه؟!
وقفتُ في مواجهة شيء ما لم أعرفه من قبل، شيء في رأسي قد اختلّ وأفقدني عقلي… شيء واحد أعلمه هو لست أدري من أنا ! الضباب يلّف عقلي ويسحبني إلى قعر الغيبوبة وكأن روحي غادرت جسدي. شعرتُ بلحظات من اللاوعي لأستفيق بعدها. وقفت أنتظر استرداد حواسي ومشاعري، ونسيتُ كل ما يحيط بي. أيقظت ذاكرتي، ابتلعتُ ريقي وتجمدّت حركتي كما لو كانت قدماي قد تسمرتا في الأرض، أصابني صمت مفاجئ وكأنني قد فقدتُ صوتي ، وأحسستُ أني أكاد أذوب أمام نظراتها وكأنها شعاع ينفذ إلى أعماقي ويستولي على مشاعري وكياني !
عينان قاتلتان فيهما نداء ، ما أطيب الهزيمة أمام عينيها! هي هدية للعين والأذن والقلب، و سرعان ما فتحتُ لها باب قلبي ودخلت حياتي ! أما هي فقد خفضت عيناها، وتسمّرتْ في مكانها وشعرت بارتباك أنوثتها، وحاولتْ أن تخفي مشاعرها، ووجدت صعوبة في التغلب على خجلها… ودعت الدم من جميع أطرافها إلى خديها، فتوّرد خداها حياء، وارتعش قلبها، واستسلمت لنظراتي. ابتسمتْ ابتسامة خفيفة كتبت بها أول كلمة في قصة حبي، وأنا ابتسمتُ ابتسامة لا شكّ عندي أنها كانت أصدق ابتساماتي على الاطلاق، وراحت ترتعش بشعور لذيذ لم تعرفه من قبل في حياتها، وتسارعتْ نبضات قلبها، واضطربتْ خطواتها في حياء العذارى وهي تحاول إخفاء عواطفها ولا تسمح لرغباتها بالظهور أو التعبير الصريح حتى لا تتورط في علاقة حرجة، وارتعشتْ أهدابها وراحتْ تنظر إليّ بعاطفة تكاد تصرخ بحبها لي. حقاً عندما تحب المرأة تزداد أنوثتها، فخفقة القلب للفتاة هو تاريخ جديد لحياتها وتفكيرها !
أفقتُ بعد لحظات حسبتها سنوات، صدري يعلو ويهبط، وأنفاسي تلهث مسرعة، وكأن دمي استحال نفطاً يمدّ قلبي بألسنة من لهب ! قلبي يخفق بعنف فقد بلغ الآن سن الرشد! سمعتُ صوت نبض قلبي لأول مرة وكأنني لم أكن أملك قلباً من قبل، وبسرعة حطّت طائرة حبها في مطار قلبي، واستيقظ في داخلي شعور لم أعرفه منذ أن ولدت، أشبه بنسمة صيف تهبّ من فوق الجبال حاملة البرودة والانتعاش، وكموجة زرقاء على شاطئ بحر عاري! وقفتُ صامتاً منصتاً إلى أعماق ذاتي أحاول استنطاق ذاكرتي، كدتٌ أشك في حقيقة وجودي رغم أنني أدركته بحواسي، يداي تتحسسان جسدي..هل أنا في حلم أم في يقظة؟ رحتُ أقرص جلدي وأتلمس كل شيء حولي للتأكد من أن الأشياء كلها حقيقية وأني لست في حلم، وبأنني لا زلتُ أقيم في جسدي ! لا أدري كيف أتصدى لأشواقي وأوقفُ سيل العواطف ونهر الحب الصامت؟ فمن أصعب الأمور في الحياة وجود كلمات في القلب لا تستطيع النطق بها !
رحتُ أحتال على مشاعري خشية الوقوع في أول حفرة حب نسائية تصادفني، وأنا الذي عملتُ طوال حياتي على تحصين قلبي ، ولكن دون جدوى. لم أستطع إخفاء إعجابي الشديد بها، وبدأت أختلق الحجج لألتقي بها وأتعرف عليها ،هكذا هي الحياة.. البعض تراه لحظة تذكرها طوال العمر ويحتّل فيها قلبك ! حين وقع نظري عليها لأول مرة ،عرفتُ الحب بنظرات العيون، لم أستطع أن أمنع نفسي من الاهتمام بها ووجدتُ نفسي أفكر فيها ،خانتني قدماي، لم أملك سوى أن أتبعها وأسير وراء نداء القلب، وتركتُ نصف الوعي يركض خلفها، و سمحتُ لقدميّ أن تحملني حيث تريد ، ووجدتني ألحق بها، واحتدم السباق بين قدميّ ونبضات قلبي، أجرُّ قدميّ إلى حيث لا أدري، أمتّع ناظريّ بها ، أتقاسم معها الهواء وكثيراً من صمت الأسئلة، وذهبتُ نحو تورط عشقي ، شيء لا أعرف توصيفه يكبر داخلي، وتساءلت هل الحب شيء غير ما أعاني ؟
هل هو شيء غير هذا الفرح السماوي الذي تطرب له النفس والدنيا جميعاً ؟! أيكون هو الحب الذي يحمل إليّ هذه الأحاسيس الغامضة؟ أتراني أذهب نحو الحب ؟! أجيب سريعاً دون أن أمنح عقلي الفرصة ليحاور قلبي : نعم أحببتها، وبحبها أعترف ، لن أخفي حبي لها ، لن أخجل منه ، لن أرحل عنه ، ولن أتركه .. وألفظ هذا البلاغ العشقي: إنه الحب كالرعد الذي يفجّر الينبوع من بطن الأرض، اخترقَ جسدي وقدّم لي أوراقه الثبوتية ،وأوقعني تحت سطوة وجنونه واستسلمت له، ووضعته موضع التنفيذ، ومنحتها تأشيرة الدخول إلى بطاقة ذاكرتي.