خفقة القلب 59
أملأ القلم بدم الفكر، وأدعه يوقظ الكلمات النائمة ويسرح بها فتنساب على الورق لمصيرها : لن أدع رصيف بيتها يصدأ ..
حين تستسلم قدماي للطريق المؤدي إلى بيتها لأزور رائحتها ولأتجول داخل البيت وأخاطب جدرانه ، تبتلعني الأزقة التي توصلني إلى بيتها ،يصيبني حزن ثقيل، أشعر أنني غريب لدرجة البكاء، تتبعثر مشاعري على الزقاق المؤدي إلى بيتها، أعدّ بلاطات الرصيف، يخفق قلبي وترتاح نوافذه للهواء المحيط به، فيستيقظ حبها من جديد ! أجر قدمي وأسير بجوار منزلها وفي الحارات التي تراها نافذة بيتها ،تسبقني عيناي إلى نافذة بيتها ويرتمي بصري على الباب المحبب إليّ ، أتوقف فجأة كما لو كنت قد تذكرت شيئاً ، كأنما أحاول أن أستدعي ذاكرتي لاستجلاء طيفها ،أشم رائحة الماضي ، أستنشق عبير هواها من شقوق نوافذ غرفة نومها، أسمع صوت تنهداتها ولو لم يمرّ في أذني !
أرى أشعة الشمس على جدران بيتها تنفذ إلى القلب، تجدد مشاعري وعواطفي وتعيدها طازجة دافئة ، فأشعر بشيء يصعد إلى فكري ويستولي على جزء من عقلي ، وينحدر إلى قلمي بعد أن يغلي في القلب فيتبخر ويندفع !
أجد آلاف العصافير على رصيف بيتها، أستغرب ماذا تلتقط، لم أجد على الرصيف حبوباً لتلتقطها.. كانت العصافير تلتقط في مناقيرها تلك الكلمات الطازجة، الطرية الندية المتساقطة من شفتيها، وتذهب بها بعيداً لترضع صغارها وجبة من كلمات الحب والحنان، ثم تعود وتمّر على الكلمات المتناثرة المتبقية فتحولها إلى قصيدة! أصبحتُ أعرف قيمة هذا الرصيف ..لأنها تمرّ به ،لأنه مزرعة لكلماتها، وبستاناً لحروفها ،ومقاعد لهمساتها.
في صمت زقاقها الضيق المبلل بدمع العصافير والذي فقد روحه النابض ،رحتُ أبحث عن بقايا ضحكاتها، أمشي على مهل مستعيناً بظلي ، فتسرق قدماي جسدي لأقترب من منزلها، ترتبك قدماي لعلّهما تتعلمان السير ، الأرض تأكل قدمي ، أصطدم بالحجارة وكل ما في طريقي من كلمات دون أن أنتبه إلى آثار الجراح على قدمي ! ما أن يضمني الزقاق الذي يؤدي إلى بيتها حتى أنظر إلى نوافذ بيتها ، فأستنشق منها عبير هواها ،وأفتتُ ذرات شوقي وأهديها للريح لتذهب إليها ،ويرتعش جسدي حين تلامس يدي باب منزلها الذي يخفي وراءه جسدها.
في ذلك الزقاق أشم رائحة الماضي ونقاء الحياة. في ذلك الحي حيث كانت ترقص الأرض تحت قامتها وكلمات الحب تحيط بها. في ذلك الزقاق حيث تنزف دموعي وتبلل الرصيف ، كهطول مطر مفاجئ ، في ذلك الرصيف تسربتْ لحظات من عمري المحدود ،أستجمع كل إرادتي، وأشحن فمي بكلمات صنعتها لها ، وفصّلتها على مقاسات جسدها ،فلكل مكان على الأرض ذاكرة، لكن تبقى ذاكرة تلك الحبيبة وزقاقها وبيتها تجذب الشوق وترجعني إلى الماضي المحفور على جدران القلب !