خيوط دور «الموساد» باغتيال بن بركة
لم يكن معروفًا أن اغتيال المناضل المغربي المهدي بن بركة في العام 1965 كان وراء نشوء واحدة من أخطر وأشد الصراعات بين أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية.
ويظهر التحقيق الذي نشرته «يديعوت أحرونوت»، الجمعة الماضي، أن رئيس الحكومة الإسرائيلية في حينه ليفي أشكول أمر بالتحقيق في دور «الموساد» في اغتيال بن بركة، وشكل لجنة خاصة لهذه الغاية. ويكشف التحقيق جوانب التعاون الإسرائيلي مع المخابرات المغربية وعدد من «المأجورين» في المخابرات الفرنسية في عملية الاغتيال.
في البداية، يشير التحقيق إلى أن إسم الشيفرة الذي أعطي لقضية التعاون مع المخابرات المغربية بهذا الشأن كان «بابا بترا»، وهو ما ظهر أولًا، في 23 آذار العام 1966، في رسالة تكليف لجنة التحقيق التي كان في عضويتها رئيس الأركان الأسبق الجنرال يجئال يادين وعضو الكنيست زئيف شرف. وتشكل رسالة التكليف ذروة الأزمة في المؤسسة الاستخباراتية الإسرائيلية التي نبعت من اكتشاف الدور الإسرائيلي في اغتيال بن بركة على الأرض الفرنسية.
وتبدأ القصة بالإشارة إلى أن رئيس «الموساد» في حينه كان الجنرال مئير عميت، الذي كان في ذروة قوته. فهو الرجل الذي أعاد تنظيم «الموساد»، ورتَّب علاقته بشعبة الاستخبارات العسكرية التي كان يرأسها قبل ذلك. والأهم أنه في عهد عميت نفذ «الموساد» سلسلة عمليات مشهورة، بينها «عملية الألماس» التي تم فيها إغراء طيار حربي عراقي بالفرار بطائرته من طراز «ميغ 21» إلى إسرائيل.
ووفَّرت «بابا بترا»، وهو اسم كما يبدو مأخوذ من أول حرفين في اسم «بن بركة»، فرصة لاندلاع «حرب» في المؤسسة الاستخباراتية الإسرائيلية بين معسكرَين متناحرَين. وبدأت القصة من قصر الملك الحسن الثاني في الرباط مرورًا بمؤتمر القمة العربية في الدار البيضاء، وانتهاء باغتيال بن بركة في باريس وانفجار الصراع في أروقة الحكم الإسرائيلي. وكانت «السفير» نشرت أمس الأول الجانب المتعلق ببدايات وتطور العلاقات بين الاستخبارات الإسرائيلية والمغربية.
وكان المهدي بن بركة زعيمًا يساريًّا ومعارضًا شديدًا لحكم الحسن الثاني، وله تأثير في المغرب والوطن العربي. وبعد ملاحقات، لجأ إلى أوروبا متخفيًا، ولم يفلح قائدا الاستخبارات المغربية محمد أوفقير وأحمد الدليمي في تحديد مكانه والعثور عليه، خصوصًا بعد أن صدر حكم غيابي بإعدامه. ونظرًا للخدمات التي قدمها المغرب لإسرائيل في القمة العربية في الدار البيضاء في أيلول العام 1965 طلب الدليمي وأوفقير من مئير عميت خدمة للملك، وهي المساعدة في اكتشاف مكان بن بركة والتخلص منه.
وينقل التحقيق عن مئير عميت قوله: «بدا طلب المساعدة في التخلص من الرجل أمرًا طبيعيًّا في نظرهما. ينبغي التذكير بأن منظومة القيم لديهم تختلف تمامًا عنا. وواجهتنا معضلة: أن نساعد فنتورط، أم نرفض فنعرض للخطر انجازًا قوميًّا من الدرجة الأولى. كان القرار حازمًا: التمسك بمبادئنا وعدم التورط في مساعدة غير توفير الأداة، ودمج الموضوع ضمن منظومة نشاطاتنا المقبولة معهم.. وبالفعل تصرفنا بمسؤولية كاملة، ولم نتخطَّ الحدود التي قررناها لأنفسنا».
وكانت مهمة «الموساد» الأولى اكتشاف الرجل الذي تعذر على المغاربة اكتشافه. ووصلت معلومات لـ «الموساد» أن بن بركة يشترك في سلسلة مجلات أجنبية، بينها مجلة يهودية بريطانية تدعى «The Jewish Observer» . وبسبب كثرة تنقلاته وضع عنوانًا بريديًّا لنفسه كشكًا في جنيف اعتاد المرور عليه بين حين وآخر لجمع بريده. وسلم «الموساد» عنوان الكشك إلى الدليمي. كل ما كان على المغاربة فعله هو مراقبة الكشك إلى أن يظهر المطلوب.
لكن المخابرات المغربية بعد ما قدمته لإسرائيل في القمة لم تكتفِ بعنوان الكشك، وطلبت من رجال «الموساد» في باريس مساعدتها في استئجار شقة وتوفير أدوات تمويه، وجوازات سفر مزورة. كما طلبت من إسرائيل مراقبة الكشك من أجلهم ونصحهم في كيفية التخلص من بن بركة.
وحسب المحاضر، فإن عميت لم يبلغ رئيس الحكومة بما يجري إلا في 5 تشرين الأول. وبغية تلطيف الأمر عرض عميت ما حصل عليه «الموساد» من معلومات قيمة من المغاربة عن القمة العربية، وروى له أن المعلومات هذه تفيد أن الجيوش العربية ليست جاهزة لحرب ضد إسرائيل. وبعدها انتقل للقول إن المغاربة يريدون مقابل هذا شيئًا بسيطًا وهو المهدي بن بركة. «لقد اكتشفوه في باريس والملك الحسن أمر بتصفيته. جاؤوا إلينا وقالوا: أنتم محترفون، إلى الأمام! لا نريدكم أن تفعلوا ذلك، لكن نريد العون منكم». في ختام الاجتماع اتفق الإثنان على عدم تقديم عون مباشر لعملية الاغتيال، لكن المساعدة «في إطار التعاون المقبول بين أجهزة الاستخبارات».
وقال بعدها مئير عميت إنه رغم إطلاع أشكول على شبكة العلاقات بين الدولتَين، إلا أنه لم يتحمس، لكنه أعطى موافقته ولم يمنع، وكان حَذِرًا «من أن يكون لنا دور مباشر». وأشار عميت إلى أنه قال لأشكول إن «الموساد» سيحاول «جرجرة» الموضوع لكسب الوقت إلى أن يتبخر الموضوع. وقال إن أشكول قال إنه لا يستطيب الموضوع وحذر من العواقب. ورد عميت بأنه لن يفعل شيئًا من دون إطلاعه. عمومًا وفر «الموساد» للمخابرات المغربية خمسة جوازات سفر، وتعاون معهم رغم أن عميت نفسه يقول: «ليس هناك نصف حمل، والخلاصة لا تشاركوا».
لكن المغاربة لم «يجرجروا» الموضوع. وفي 12 تشرين الأول طلب الدليمي من إسرائيل لوحات سيارة مزورة وسما قاتلا. رفضت إسرائيل تقديم لوحات مزورة، واقترحت استخدام سيارات مستأجرة تستطيع تقديم وثائق مزورة لها. وفي 25 تشرين الأول وصل عميت إلى الرباط في زيارة روتينية، وهناك فاجأه الدليمي قائلًا: «العملية تتدحرج» وصار لزامًا على «الموساد» التجند لتقديم العون.
وفق بحث الدكتور يجئال بن نون، الخبير في العلاقات المغربية – الإسرائيلية، فإن الخطة كانت اختطاف بن بركة ووضعه أمام خيارين: قبول منصب وزير التعليم والاعتراف بحكم الملك أو محاكمته علنًا بتهمة الخيانة. لكن أبحاثا أخرى تشير إلى أن القصد من الاختطاف سلفًا كان القتل. وبعد يومَين من ذلك، عاد الدليمي إلى باريس للإشراف على العملية، حيث كان في استقباله في المطار أحد رجال «الموساد». وشكل «الموساد» خلية في باريس لحمايته، كان من بين أعضائها زئيف عميت ابن عم مئير عميت. واتفق الدليمي مع «الموساد» على أن يكون رجالها في باريس جاهزين للمساعدة في حال الطوارئ.
وكان المغاربة ومأجورون من المخابرات الفرنسية والشرطة المحلية جاهزين لاصطياد بن بركة حال وصوله إلى باريس. وبالفعل وصل بن بركة حاملًا جواز سفر ديبلوماسيا جزائريا في 29 تشرين الأول للقاء صحافي فرنسي، كان طعمًا قدمته له المخابرات المغربية. وقرب المطعم الذي كانا سيلتقيان فيه طلب منه شرطيان فرنسيان مأجوران من الدليمي مرافقتهما. وتم اختطافه إلى الشقة السرية حيث قام الدليمي شخصيًا بتعذيبه بقصد الحصول على معلومات، وبطرق فظيعة من الكي بالسجائر إلى المس الكهربائي. لكن التعذيب الذي قتل بن بركة كان غطس رأسه في الماء إلى أن يختنق. وظل بن بركة حيًّا إلى الأول من تشرين الثاني، حيث قُتِل بين أيديهم، فلجأوا إلى «الموساد» أيضًا من أجل العون.
ويقول أليعزر شارون، الذي كان مدير مكتب «الموساد» في المغرب، إن المغاربة أبلغوه لاحقًا أنه في كل مرة كان يخرج فيها رأس بن بركة من الماء كان يبصق في وجه الدليمي ويشتم الملك، مضيفًا إن بن بركة قُتِل في الشقة من التعذيب، حيث كانوا يشددون تعذيبه في كل مرة.
وكان مسؤول «الموساد» في باريس رافي إيتان هو الذي تعاون مع الدليمي، وأرسل له من يعينه على التخلص من جثة بن بركة. وقد حمل رجال «الموساد» الجثة ونقلوها إلى غابة قريبة من باريس حيث دفنوها. ومن أجل التغطية على الجريمة ألقوا على الجثة مادة كيميائية تتفاعل بشدة مع المياه لتذويب الجثة. وقد سقطت في الليل أمطار كثيفة على المنطقة. وبعد ثلاث سنوات من ذلك شق الفرنسيون في المكان طريقًا، ولم يعثر حتى الآن على جثة بن بركة.
صحيفة السفير اللبنانية