دار الأدباء بالقاهرة .. لم يبق منها إلا رائحة الراحلين (د. لنا عبد الرحمن)
د. لنا عبد الرحمن
ابن عربي قال 'المكان إذا لم يكن مكانك لا يعول عليه'.
بيت عتيق يعود بناؤه إلى نحو مائة عام أو يزيد، تكسو جدرانه الشروخ وعلامات الزمن التي قد تتسبب في سقوطه على رأس من فيه في أي لحظة، فضلا عن سوء حالة الحوائط والأرضيات. وكذلك المرافق من كهرباء ودورات مياه هكذا أصبحت حال واحدة من أقدم الجمعيات الأدبية في مصر وتسمى بـ "دار الأدباء" الآن، وهي بالنسبة لكثير من الكتاب مجرد لافتة حديدية صدئة يرونها عندما تدفعهم ظروف الحياة إلى شارع قصر العيني وينظرون اليها بحسرة. والشائع عن أعضائها – الآن – أنهم من مغموري الأدباء والمشاهير.
والبيت الذي تحتله الدار أشبه بقصر عتيق تاريخي أنيق بناه تاجر مصري في بداية القرن العشرين وأهداه لعبدالرحمن فهمي العقل المفكر لثورة 1919 ليدير منه النضال الوطني ضد الاحتلال الانجليزي، وفيه دار العديد من الحوارات وعقد العديد من الجلسات التي مهدت لثورة 1919.
وتحتل "دار الأدباء" موقعا فريدا في وسط القاهرة، فتقع في 104 شارع قصر العيني فأمامها مباشرة مجلس الشوري وكذلك تقع بالقرب من ميدان التحرير ومجمع التحرير والجامعة الأميركية وغيرها من المؤسسات والهيئات العلمية والصحفية، والدار رغم سوء حالتها المعمارية تعد مقرا لمنظمة الكتاب الإفريقيين والآسيويين. بالإضافة إلى أنها كانت تستضيف كل أربعاء "ندوة ثقافية" يحضر إليها كبار الكتاب والشعراء والمثقفين من مصر وبعض الدول العربية والأجنبية غير أن ذلك لم يثر شهية أحد منهم في التنبيه إلى خطورة ما آلت إليه حال مبني دار الأدباء أو الدعوة إلى إعادة ترميم المبني وتأهيله ثقافيا حتى يليق برواده من الكتاب والمثقفين.
دار الأدباء أو جمعية الأدباء أسسها يوسف السباعي سنة 1957، وترأسها كما ترأس نادي القصة واتحاد الكتاب وجمعية الكتاب الافروآسيويين، وبعده ترأسها ثروت أباظة, قبل أن يخلفه الشاعر محمد التهامي منذ ثلاثة أعوام.
يقول الشاعر محمد التهامي: إن هذ القصر من المباني الأثرية في القاهرة لذلك يقال إن وزارة الثقافة سوف تضمه إلي المباني الأثرية، فهذا هو الحل الأمثل لمثل هذا المكان أو يظل كما هو؛ لأن وجوده على حالته تجعلنا نفتش في أعماق تاريخنا. مع العلم بأن وزارة الثقافة أرسلت لنا منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات مجموعة من المستشارين والمهندسين قاموا بعمل خريطة ومشروع لإنقاذ دار الأدباء من حالها التي لا تسر أحدا ولكن مع الأسف لم تنفذ هذه الخطة حتى الآن.
وأوضح التهامي: إننا نستطيع أن نقوم بإصلاحه أو ترميمه دون مساعدة وتدخل وزارة الثقافة؛ لأنها مسئوليتها إلا أننا قمنا بطلاء واجهة دار الأدباء من الخارج كما عرضت علينا مساعدة من منظمة الكتاب الإفريقيين والآسيويين لإحياء الدار؛ لكننا رفضنا؛ لأنهم كانوا يريدون أن يقيموا مقهي وإنترنت داخل الدار .. وهذا لا يليق بتاريخ هذا المكان ودوره الثقافي.
ويعترف التهامي بأن هناك تقصيرا في النشاط الثقافي لدار الأدباء، لأنه يوم واحد فقط في الأسبوع لا يكفي لذلك أنا غير راض عن المستوى الذي وصلت إليه الدار؛ فكثيرًا ما أعترض علي هذا الوضع وأقدم اقتراحات أثناء اجتماعات مجلس الإدارة لكن الأعضاء لا يسمعون مني شيئا ويرون أننا أفضل بكثير من الجمعيات الثقافية الأخرى من حيث عدد الحضور بالرغم من حالة المكان المتدهورة.
• في أحسن حال!
وعلى النقيض من رأي الشاعر محمد التهامي يرى د. يسري العزب سكرتير عام الدار؛ إنها في أحسن حالتها الآن منذ خمس سنوات فقد كانت مكانا لا يصلح لأي نشاط من الاهتمام والغبار الذي يحط علي الجدران حتى حصلنا علي دعم من وزارة الثقافة وكذلك من اتحاد المقاولين العرب لترميم وإحياء الدار وإنقاذ ما يمكن انقاذه. مشيرا لضرورة إعادة النظر إلى هذا المكان بسبب ما فقده بسبب الاهمال وتعديات الزمن.
ويضيف العزب: إن دار الأدباء منذ تأسيسها كانت أول مركز لتنظيم الحركة الثقافية المصرية, فمن الجمعية ظهرت فكرة تأسيس المجلس الأعلى للفنون والآداب الذي تحول إلى المجلس الأعلى للثقافة، وكذلك فكرة جوائز الدولة السنوية التي تمنح للادباء والنقاد في مختلف مجالات الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية, كما صارت الدار مقرا لاتحاد الادباء العرب منذ تأسيسها في الخمسينيات حتى المقاطعة العربية بعد توقيع الرئيس السادات لمعاهدة السلام مع اسرائـيل, وما زالت لافتة اتحاد الكتاب العرب موجودة بدار الأدباء حتي اليوم .. كما كانت دار تحتفي وتستقبل كل المبدعين العرب، ولم تكن تغلق أبوابها في أي وقت حتى جاء توقيع الرئيس السادات لمعاهدة السلام الذي أبعد الناس عنها، حيث استولى عليها الأمن ووضعت عليها حراسة وأهمل المبني، وظهر ورثة عبدالرحمن فهمي الذين يزعمون أحقيتهم في "مقر الجمعية" رغم أنهم من الجيل الرابع من أحفاد عبدالرحمن فهمي, وبعد معاناة قضائية طويلة حصلنا على حكم يقضي بحق الجمعية في الانتفاع بالمبني منذ عام 2001 ومن هذا التاريخ وأعضاء مجلس الادارة يحاولون إحياءها عن طريق مواصلة ندوتها الأسبوعية وإقامة مسابقة أدبية سنوية وتأسيس فرقة مسرحية تابعة لها .. وقد حصلنا على دعم من وزارة الثقافة وقمنا بترميمها.
كما أن الشاعر الراحل نزار قباني ألقى قصائده على الجمهور المصري لأول مرة في "دار الادباء" في ستينيات القرن الماضي.. وكذلك الشعراء بلند الحيدري وسعدي يوسف وهارون هاشم الرشيد ومعين بسيسو وعبدالعزيز المقالح وعلوي الهاشمي وغيرهم الكثير .
أما الشاعر أحمد سويلم فيقول: إن جمعية دار الأدباء أنشئت عام 1958 تعد من أقدم الجمعيات الأدبية في مصر التي كانت تضم أكبر الشخصيات الأدبية إلا أن تدهور حالها منذ رفع ورثة عبد الرحمن فهمي قضية ضدها ـ ويري أن عدم التفكير في اصلاح المكان واحيائه من جديد أو الاهتمام به يرجع لنقص الموارد المادية لجمعية دار الأدباء والظروف التي تمر بها.
ويوضح سويلم أن الجمعية تأخذ دعما محدودا للغاية من صندوق التنمية الثقافية؛ للنشاط الثقافي الذي نقوم به سواء لاصدار المجلة ومجموعات من الكتب والندوات واللقاءات التي تنظمها الدار .. مشيرا إلى أن هذا الدعم غير مخصص لترميم أو لاحياء المبنى من جديد .. مؤكدًا أنهم قاموا بطلاء الدار من الخارج وكذلك القاعات بالإضافة إلي بعض التجديدات البسيطة واصلاح الدور الأرضي المهجور والمنهارة أجزاء منه الذي كان صالونا أدبيا وثقافيا ومكتبة تضم أروع الكتب.
ويضيف: يبدو أننا لا نملك سوى الانتظار لتبرع رجل من رجال الأعمال لإحياء هذا المكان وعودة الروح الثقافية إليه من جديد؛ لذلك أرى أن الحل الآخر لذلك هو اقناع الدولة بدور دار الأدباء وما تقدمه من نشاط ثقافي لدعمها والاهتمام بها، حتى يتم توصيل الحركة الثقافية التي نقدمها حتى تظل دار الأدباء متنفسا ثقافيا للجمهور والأدباء أيضا.
• ليست مهجورة لكن!
أما الكاتب الروائي رفقي بدوي فله رأي آخر؛ حيث يقول: إن دار الأدباء ليست مهجورة ولا ينقصها شيء فمنذ فترة قصيرة شهدت الدار ترميمات واصلاحات، فحال الدار اليوم أفضل بكثير جدا عما كانت عليه قبل زلزال عام 1992 الذي تسبب في تصدعات وشروخ وانهيار أجزاء منها مثل الدور الأرضي الذي كان في عهد يوسف السباعي تحفة معمارية. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي يجعل شباب المبدعين لا يشاركون في فعاليات وأنشطة دار الأدباء؟ إن معظمهم يعتبرونه مكانًا لا يستوعب التجديد والتجريب الذي يقوم به كاتب أو شاعر شاب، فهو بالنسبة لهم معقل مهمل لرموز التقليد والتبعية لوزارة الثقافة، وبعض المشاهير يستكثرون موقع الدار ومبناها عليها، وبرونها جديرة بملتقي أو مجلس ثقافي مؤثر ومشارك بفاعلية في الحياة الثقافية.
والبعض يذهب إلى أن القائمين على الدار أشبه بموظفين الحكومة من حيث كلاسيكيتهم وعملهم الروتيني، وأنهم مواهب ضعيفة، والأدب الحقيقي بمعزل عن هذا، والأديب الحقيقي يبتعد عنها لأنه ليس من المعقول أن يتولى تقييمه من هو أقل موهبة .. بالاضافة إلى المصالح المكشوفة التي تحكم هذه الأماكن، لذا ينفر الأدباء الحقيقيون من الاتجاه اليها او التعامل معها.
• جدوى المكان
الكاتب والشاعر شعبان يوسف سألناه: هل أصبح لوجود دار الأدباء جدوى؟ فأجاب: دار الأدباء مجرد مكان، الحقيقة أنا لا أتردد عليها، لكن أعتقد أنها تلبي حاجة بعض الشعراء الذين يذهبون إليها وينشدون فيها، أظن ذلك، المفترض أن يتم تفعيلها، أنا ألا أعرف من يشرف عليها الآن، فهي تحتاج إلى تفعيل، وليس دار الأدباء فقط، لكن كافة أشكال العمل التطوعي أصبحت مهددة بالانقراض أو التقصير أو الحصار، ولا أعرف هل المشرفون على النشاط يتقاضون مكافآت أم لا؟ لكن أرى أنها تلبي حاجة – حسبما أسمع – لأنني لا أتردد عليها، وهذه الأماكن من المفترض تفعيلها نشاطها؛ لأن هناك صيحة موجودة في الحياة الثقافية بإغلاق أبواب بعض المنتديات، وأنا ضد دعوة إغلاق بعض المنتديات حتى ولو كانت ضعيفة، ليس هناك خبرة في إدارة النشاط الثقافي .. الناس تتجه الآن إلى الأنشطة ذات العائد وذات التمويل في منظمات ممولة .. كذلك فإن الأنشطة الحكومية مثل الثقافة الجماهيرية والمجلس الأعلى للثقافة وهيئة الكتاب أصبحت منافسًا قويًا لكيانات مثل دار الأدباء أو الأتيليه أو جمعية محبي الفنون الجميلة.. مثل هذه الأماكن تحتاج إلى ترشيد وتفعيل مرة أخرى، وربما بقيادات أخرى.
وعن العقبات التي تحول دون قيامه بدورها في خدمة الأدباء قال شعبان يوسف: الإدارة خاملة في دار الأدباء، إدارة قديمة وخاملة، لكن أعتقد أن هناك أصواتًا كثيرة تذهب إلى دار الأدباء تنشد الشعر، لكن هناك إهمالًا في إدارتها ولا يوجد أفكار جديدة، هي هي نفس الأفكار منذ زمن بعيد، مع العلم بأنه كان أحد روادها في فترة من الفترات شعراء مثل: أمل دنقل، محمد إبراهيم أبو سنة، محمد عفيفي مطر، ومجموعة أخرى من الشعراء كانوا قديمًا يترددون على دار الأدباء، وكون أن دار الأدباء غير قادرة على استيعاب أو استقطاب شعراء مميزين أو كبار أو شعراء جدد فهذا يرجع إلى تغير المناخ الثقافي، وتوجُّه المثقفين إلى كيانات أخرى وإلى عدم قدرة تشغيل الإدارة بشكل جيد.
• عقبة التمويل
وفي رأي الناقد والروائي محمد قطب أن جمعية دار الأدباء جمعية عريقة وموجودة منذ الستينيات، وشهدت هذه الجمعية أنشطة كثيرة ومتوالية منذ نشأتها، وتوالى نشاط دار الأدباء وتجمع عددًا من الأنشطة المختلفة سواء الشعر الفصيح والشعر العامي والقصة الرواية والنقد الأدبي، وهي حريصة على تقديم هذه الأنشطة يوم الأربعاء من كل أسبوع، ولقد استطاعت هذه الجمعية بتدبير مالي من صندوق التنمية الثقافية أن تستمر بأنشطتها، وأن تصدر مجلة بعنوان "الأدباء" وقدمت أنشطة مختلفة ومتنوعة .. وقد اعتادت الجمعيات الثقافية أن تقوم بدور فعال، وهذا الدور الفعال يقتضي تمويلًا ماليًا حتى تستطيع هذه الجمعية وغيرها من الجمعيات أن تمارس دورها، التمويل هو العقبة الرئيسة في جميع الجمعيات، ومن المضحك المبكي أن تعين وزارة الثقافة هذه الجمعيات بمبلغ ضئيل من الجنيهات، وهذا أمر غير مقبول، إن مؤتمرًا ثقافيًا تعقده وزارة الثقافة يتكلف آلافًا من الجنيهات، ثم تأتي الوزارة والأجهزة المنوط بها الأنشطة الثقافية، وتعود على هذه الجمعيات بالمال الذي يساعدها على تقديم رسالتها للحياة الثقافية، قس رأيي أن كل جمعية أدبية يحتاجها المجتمع، وكل منها منوط بها اكتشاف المواهب وتقديمها إلى الحياة الأدبية والثقافية العامة حتى تستطيع أن تقوم بدورها في خدمة المجتمع المدني والثقافي.
أما الروائي أحمد الشيخ في رأيه أن دور دار الأدباء قد تم اختزاله واختصاره، وقد كانت في وقت من الأوقات في الستينيات والسبعينيات دارًا تجمع كتابًا كثيرين وفيها برامج متواصلة، المفترض والطبيعي أن يكون هناك نمو، وليس تقليص الدور أو تقليله، أنا طبعًا لم أذهب إليها كثيرًا، من المؤكد أن هناك اجتهادات شخصية، لكن ماذا تفعل في هذا المناخ؟ تحتاج تمويلًا وتحتاج إمكانيات، النشاط الثقافي يحتاج إلى أحد يتبناه ويصرف عليه ويدعمه، أنا أرى أن الشكوى دائمًا من عدم وجود اعتمادات كافية.
وعن الدعم المالي للنشاط قال الشيخ: حتى لو هناك عناصر فعالة، هناك عقبات إدارية وبالتالي لا يستطيع أحد القيام بواحد من عشرة مما يريد أن يفعله، وبالتالي من الممكن أن يغادر المكان، إن الثقافة ليست شيئًا هزيلًا حتى لا ينفق عليها بشكل كافٍ، الثقافة مثل الإعلام والصحة، لها دور كبير في تكوين المجتمع، إذا لم يشعر الكاتب أن هناك جدوى مما يقول، ومردودًا لما يكتبه، سوف يشعر بأنه غير آمن وأن هناك ما يقلقه، أنا أذكر دار الأدباء أيام يوسف السباعي كان فيها نشاط كبير، ولكن تقلص ذلك لأن الدار ليس لديها اعتمادات كافية مخصصة لها. هذه هي المشكلة.. الاعتمادات قليلة والناس تتكاسل في الذهاب للدار أيضًا، ربنا يقوي المثقفين والمبدعين على ما هم فيه!
وترى الروائية سلوي بكر إن هذه الأماكن فقدت بريقها، لأنه كما يقول ابن عربي "المكان إذا لم يكن مكانك لا يعول عليه" فهذه الأماكن يصنعها البشر, وبقدر ما يكون المنتمون للمكان فاعلين ويقومون على رفعة هذا المكان يصبح للمكان مكانة والعكس صحيح .. إن دار الادباء مكان لم يبق منه إلا رائحة الراحلين الكبار. (خدمة وكالة الصحافة العربية).
ميدل ايست أونلاين