داوود مهنا: البحث في خفايا الروح عن بيدر
في «لماذا تنوح البلابل؟» (دار البنان) لداوود مهنا، يأتي العنوان كسؤال يقرِّر أنّ البلابل تنوح، ويطلب معرفة سبب نواحها، ما يعني أنّ هذه المجموعة تقدِّم معرفة شعريّة بهذا السبب.
الغلاف: عصافير تطير، وتحيط برأس رجل مغمض العينين، يعتمر لبّادة، ويعزف على شبّابة في فضاء قاتم. العصافير لا تقف على الأغصان وتنوح، وإنّما تطير، والرجل يعزف، فهل يعني هذا أنّ العصافير ناحت وهاجرت، وأنّ الرجل هو من بقي يواصل النواح؟ ما يرجّح الإجابة بنعم هو الإيقاع النصّي المتمثّل بثابت هو: صور أربعة عصافير تطير على الصفحات المفردة وصورة الفضاء القاتم على الصفحات المزدوجة.
الفقد هو ما يفضي إلى النّواح، فأيّ فقد هو هذا الذي تنوح عليه بلابل هذه المجموعة الشّعريّة؟
في الإهداء: «إليكِ، حتّى اَخر قطرة في النبع» ما يفيد أنّ فقداً حدث، وهو إنما يسعى إلى تعويض هذا الفقد إلى اَخر قطرة في النّبع.
النّبع، هنا، دالٌّ على القدرة/ العزم… وضمير المخاطبة، في إليكِ، قد يكون ضمير امرأة أو قضيّة… وأياً تكن المُهدى إليها، فإنّ الإهداء يفيد أنّ السعي إلى تعويض الفقد مستمر إلى نفاد اَخر قطرة في النبع، أي إلى جفاف النبع وفقد الخصب، والتصحُّر، فهل هذا هو سبب نواح البلابل؟
يفيد ما تقدّم أنّ بنية هذه المجموعة هي بنية طلب معرفة، وهذا يقتضي السعي إلى تحصيل هذه المعرفة وتقديمها، فكيف تمّ ذلك؟
وضع الشاعر محمد علي شمس الدين عنواناً لمقدمته لهذه المجموعة هو: «شاعر التأمل والإشراق». والتأمل هو إعمال العقل في معطيات الإدراك: الحسي والوجْدي يفضي إلى تحصيل معرفة، والإشراق هو فيض هذه المعرفة تلقائياً كما يفيض العطر من الزهرة. المصطلح الأول ذهني فكري، والمصطلح الثاني حدسي صوفي، ما يعني أننا إزاء فاعليتين تمثلان السعي الكياني إلى المعرفة. نحاول الإجابة عمّا أثرناه من أسئلة، في ما سبق، من طريق قراءة ما فاض به الينبوع، أو ما أشرقت به التجربة الشعرية الكيانيّة.
نقرأ القصيدة التي تحمل المجموعة عنوانها. ترسم هذه القصيدة لوحة بصرية سمعية، مكوناتها: زقزقات الغصون، همس الجداول، رقصة الشمس في هجير السنابل، هتاف الأعشاب يذكي صبوة النهر في ارتعاش الأنامل، هدوء المكان… توقظ هذه الصورة حلماً مثل أحلام بابل. ويقرر الشاعر أن كل همس صدى انكسار آتٍ، ويسأل: ألهذا تنوح البلابل؟
تمضي القصيدة إلى التشكل في أربع حركات: الأولى تصوير سردي يشكل لوحة تؤدي وظيفة سردية هي تشكيل حدث، والثانية هي الحدث الذي تم تشكيله، وهو حلم مثل أحلام بابل، ويفضي هذا الحلم إلى تقرير، والثالثة هي هذا التقرير، وهو أن كل همس هو صدى لانكسار آتٍ، ما يطرح السؤال: ألهذا تنوح البلابل؟ وبهذه الحركة الرابعة يكتمل تشكل بنية القصيدة، وهي بنية سؤال أضيفت إليه علامة تعجب، في حين انتهى السؤال في عنوان المجموعة بعلامة استفهام فقط.
الحركة الأولى/ اللوحة البصرية السمعية تمثل جمال الطبيعة، فلم تشكل حلماً مثل أحلام بابل؟ أحلام بابل هنا دالٌّ على فقد جمال طبيعي وإنجاز حضاري من معالمه جنائن بابل المعلقة، فلم تشكل هذا الحلم؟ يجيب الهمس في الحركة الثالثة عن هذا السؤال، فثنائية الحاضر- اللوحة الماضي- حلم بابل دال على انكسار اَتٍ، وهذا الانكسار الآتي هو سبب النواح.
التجربة الشعرية الكيانية، كما يبدو، تشكل رؤية مفادها أن الانكسار/ الفقد هو الآتي، وهو حقيقة/ جوهر هذا الوجود، منذ القديم إلى ما تعرفه الطبيعة والحضارة الإنسانية من حضور وتجدُّد لهذا الحضور، وهذه رؤية نجد حضوراً لها في شعر أبي العلاء المعري وكثير من شعراء التأمل والإشراق، أو الشعراء المفكرين.
السؤال الذي يُثار هنا هو: هل هذا هو سبب نوح البلابل، والبلابل، هنا، دالّ على الذات المدركة لهذا الفقد، فالنواح هو إيقاع هذه الذات.
هذا الإيقاع نجده في الإيقاع المهيمن في هذه القصيدة، والمتمثل في قافيتها. وقديماً قال النقاد: القصيدة كلها قافية. قافية هذه القصيدة تتمثل في حركة/ فتح، فحرف لين، فحركة/ كسر، فساكن، وهذا التشكل الإيقاعي دالّ على تحرك بنطق يعلو صرخة/ ندبة، ينكسر، ويقطع.
وتفيد قراءة قصائد المجموعة بأن هذا الإيقاع ثابت من ثوابت مكوناتها، ومن نماذجه: «اب»، «اه»، «اها»، «ياه»، «لا»، «ات»… كما أن صوت اللين «ا» يتكرر في ثنايا متن كثير من القصائد.
وهذا جميعه يعني أن التجربة الشعرية تملي الرؤية وتمثلها، وهو ما ينطق به إيقاع «النوحة» الممتدة من أعماق الذات، وهذه الرؤية إلى جوهر الوجود هي رؤية وجودية صوفية، ولكنها رؤية تكتفي بتبين الفناء، ولا تكمل إلى البقاء، وما يقتضيه هذا من سعي إلى الحلول والكمال، فالعودة إلى النعيم الذي فقدناه منذ بدء الخلق بأن كان أبونا اَدم يفتقر إلى العزم، فكان علينا، كما يرى الصوفيون، أن نعوض الفقد، ونمتلك هذا العزم، بعدما نمر بأحوال تفضي الى تعويضه، والحلول في البقاء.
بلابل/ طيور داوود مهنا تذكر بطيور الشاعر الصوفي فريد الدين العطار، الطائرة تبحث عن «السيمرغ»، وفي طيرانها إليه، تمر بمراحل الكمال. طيور مهنا تبحث، في خبايا الروح، عن بيدر، يقول: «والطير مالئة نواح الحقل/ تبحث، في خبايا الروح ، عن بيدر» (ص.١١٦). فهل «بيدر» طيور مهنا يعادل «سيمرغ» العطار، ولكل منهما فاعليته الجمالية الدلالية؟
ويبدو أن طيور مهنا لا تزال في الأحوال الأولى، فهي تبحث في خفايا الروح عن بيدر يمدّها بالغذاء الذي يتيح لها مواصلة السعي والوصول، بعد المرور بالأحوال.
هذه المجموعة تضم سبعين نصاً شعرياً، تتوزع بين قصائد ومقطوعات، وبين شعر شطرين وشعر تفعيلة، وتعرف تلاعباً دالاً بالتنضيد، تبحث عن المعنى في صومعة الفكر، وتمثل بلغة شعرية: الثوب الأحلى، الإدراك الآتي من غيب الصومعة، فكي تدرك ذاتك/ لا تنظر/ أغمض عينيك (ص 24). فيض بيدر خفايا الروح يؤتي الإشراق الدائم، ففي انتظار الفيض/ الإشراق الآتي، أقول لداوود: كاشف إشراقك في عالم يظل في حاجة إلى الكشف.
صحيفة الأخبار اللبنانية