داوُد عبدالسيّد فلسفة السينما
لم تكن محاورة المخرج السينمائي داوُد عبدالسيّد بالسهولة التي قد يبدو الأمر عليها، ربما وجدتني رغم حضور أفكاره وتسلسلها المنطقي تتلبسني لعثمة يحيى في فيلمه “رسائل البحر”. النتيجة واحدة وإن كان السبب مختلفا؛ كان يحيى غارقا في تساؤلاته وهواجسه ولا يقينه إزاء عالم يعشق الحدود المرسومة سلفا ولا يتوانى في تتبع خطى سابقيه، وكنت أتلعثم في حضرة عبدالسيّد لعجزي عن مناقشة أفكار كبيرة في كلمات قليلة؛ كل فيلم هو رحلة بحث وغوص في أعماق الذات والوجود؛ القدر والاختيار، الحرية والجبرية، الذات في كنهها وفي علاقتها مع الآخر، جوهر الوجود والفناء.. أنّى لي أن أستقصي كل تلك العوالم في جلسة قصيرة يغلب عليها الطابع الرسمي وتُحددها تصورات مُسبقة؟
كان الأمر أصعب ممّا توقعت وممّا خططت، ولا أدرى إلى أي مدى كان عبدالسيّد قادرا على استيعاب لعثمتي وهو النحات الماهر لخلجات النفس. على بعد خطوات من قصر الاتحادية الرئاسي، ذهبت إلى مقابلة عبدالسيّد في منزله بضاحية مصر الجديدة شرق القاهرة.. كان القدر يخُط مسارا لحوار هامشي حول أجواء قمع تُغلِف الأجواء وتخنق الأنفاس وتُهدد الإبداع كما تهدد كل مظاهر وبواطن الحياة الحرة.. في طريقي إليه كنت أتخيل غريغور سامسا بطل رواية كافكا.. إنسان تحوّل إلى حشرة، حوّلته حياته اللاإنسانية إلى مسخ ربما كان فيه منذ زمن لكنه كان غافلا عن إدراكه، مسخ شخص سار على الدرب كما ينبغي وكما خُطط له، لكنه أبدا لم يعرف نفسه خارج هذا الدرب الممسوخ.. كنت أشعر أنني بصدد مقابلة من أراد قتل غريغور سامسا مُحتمل عبر أفلامه، وأن يُطلق سراح الإنسان المُكبّل بقيود قد لا تحصى..
أردت أن أقول له الكثير حول ذلك، لكن هل لي أن أختزل كل الأعمال في فكرة واحدة وأغفل بحرا من المعاني؟ أحيانا يكون من عمق الإحساس بعمل فني أو أدبي أن تقول أنا أحبه ثم تصمت.. خلال ما يناهز ثلاثة عقود، أنجز المؤلف والمخرج السينمائي المصري تسعة أفلام شكّلت علامة فارقة في تاريخ السينما المصرية وفي وضع عبدالسيّد على خارطة السينما.. أعمال أعادت الاعتبار إلى جماليات الصورة السينمائية وجودة المضمون السينمائي الحامل بين طياته دلالات ذات مستويات عدة.
مسيرة بدأت بأولى انطلاقاته السينمائية عام 1985 بفيلم “الصعاليك” وانتهاء بفيلم “قدرات غير عادية” عام 2015.. سينما غير معتادة بأفكار وجماليات مُتقنة ينبغي على من يريد إدراكها أن يخلع تصوراته المُسبقة ويدخل ناسكا في محرابها، طالبا أن تمنحه بعضا من عطاياها. “الجديد” كان لها هذا الحوار مع داوُد عبدالسيّد حول بعض ملامح فنه السينمائي ومسيرته الفنية ورأيه في بعض المسائل المتعلقة بأوضاع السينما في الوقت الراهن.
قلم التحرير
الجديد: ثمة دلالات متباينة في أعمالك السينمائية يمكن ملاحظتها، لكن هل يمكن الحديث عن فكرة واحدة تُشكّل هاجسا لداوُد عبدالسيّد وتتوزع عبر أعماله بعدّة أشكال؟
داود عبدالسيد: أنا مُنشغِل بأسئلة وجودية ليست لها إجابات، أراها أشبه بأحلام تتداعى دون قصد. الأسئلة المهمة عن الحياة والوجود والموت تتعدد الإجابات عليها وتكثر التفسيرات لها من منظورات مختلفة، وهذا التعدد في الإجابات يعني في النهاية أنها أسئلة بلا إجابة. هذه الأسئلة هي المادة الأساسية للفلسفة والفن وحتى الدين الذي يُقدِّم مجموعة من التفسيرات حول سبب الخلق والحياة والموت، وهذه هي الأسئلة المهمة بالنسبة إليّ.
إشكالية القيود
الجديد: الإلحاح على مبدأ الحرّية يتجلى في أكثر من عمل لك بوجوه متعددة: الحريّة في مواجهة قمع السلطة والنفوذ، حرية الحب والجنس، حرية التفكير والاعتقاد.. هل تعتقد بأهمية إطلاق الحريّة بصورة كاملة أم أن ثمّة قيودا لا بد أن تخضع لها؟
داود عبدالسيد: كل فرد يضع القيود التي يقتنع بها على حريته، البعض يلتزم بحريته في إطار القانون، البعض الآخر يتصرف في حدود الدين أو العُرف المجتمعي. أحيانا يُبيح القانون شيئا لكن الدين يُحرّمه. بالنسبة إلي الحرية متعلقة بمدى الفائدة أو الضرر الذي يعود على الإنسانية بشكل عام جراء هذا الفعل، وهذه مسألة صعبة لأنها تحتاج إلى موازنة المشكلة والتفكير والمراجعة وبذل الجهد في التقرير.
انتقدت الحرية المقيدة بالقانون طبعا لأن القانون قد يكون متعسفا، كما أن قيود المجتمع وأعرافه قابلة للتغير باختلاف المراحل الزمنية. أما بالنسبة لحرية الجنس فأنا أراه أحد الأنشطة الأساسية في حياة البشر كما هو في حياة باقي الكائنات. ولكن هناك هجمة دينية متخلفة منذ حوالي ثلاثين أو أربعين عاما تهدف إلى التحول إلى مجتمعات مُحافظة، وهذا في رأيي قمع للبشر. الفكرة أنه لكي يحدث قمع سياسي فلا بد من القمع في أشياء أخرى تصل إلى حدّ قمع اختيارات الفرد، وأفضل نظام يصل له نظام قمعي أن يُخيف الناس من أفكارهم ومن احتياجاتهم الطبيعية. ولكن الحقيقة أن البشر من حقهم أن يستعملوا جسدهم بما لا يضرّهم أو يضرّ الآخرين.
في فرنسا مثلا عندما يوضع تصنيف عمري يُسمح لسن معين بمشاهدة كل ما يُريد مشاهدته بما فيها أفلام البورنو، وهناك لا تُعتبر أفلام البورنو أعمالا فنية ولا يُكتب عليها أسماء أبطال أو صناع، فهناك نظرة عدم احترام لها، ولكن في ظل الحرية الموجودة في المجتمع فإن هذه النوعية من الأفلام لا يدخلها سوى عدد محدود من كبار السن أو مشاهدين من العالم الثالث، أما الشعب نفسه فلا يهتم بها. ولكن هنا في البلدان العربية هناك محاولة متزايدة لبث الخوف ليس فقط من الفعل ولكن من الأفكار نفسها، وهذا موجود في الدين بشكل ما، أما أن يتحول إلى نظام اجتماعي أو سياسي فهذه كارثة.
أعمال العنف
الجديد: يقودنا هذا إلى سؤالك حول القيود التي تخضع لها سواء مضطرا لتجنب مقص الرقيب أو باختيارك حين تفرض على نفسك رقابة ذاتية نابعة من توجهاتك وقناعاتك.. هل هناك قيود محددة يمكن الحديث عنها؟
داود عبدالسيد: على مستوى الرقابة المؤسسية فهي أقرب إلى القوانين ونحن مجبرون على الالتزام بها، أحيانا أحاول تمرير بعض الأشياء وقد أنجح أو لا أنجح. أما على مستوى الرقابة الذاتيّة فمقياسي ألا أقدم شيئا يضر المشاهد وعلى رأس أعمالي تلك التي تدعو إلى العنف، ورغم أن الرقابة المؤسسية قد تسمح بتمرير مثل هذه الأعمال نتيجة لعدم وعي أو كنوع من أنواع التنفيس إلا أن ضميري لا يسمح لي بذلك.
أكثر ليبرالية
الجديد: الفيلمان الأخيران لك “قدرات غير عادية” و”رسائل بحر” يمكن النظر إليهما باعتبارهما توجها مختلفا يتعمق في أبعاد النفس الإنسانية بشكل أكثر تركيزا من الأفلام السابقة كما أن التركيز على خلفيات الواقع السياسي يخفُت فيهما بشكل ما.. لِم جاء هذا التحول؟
داود عبدالسيد: لا أعرف تحديدا. الأمر لا يكون نتيجة لخطط مسبقة. قد يكون السبب هو طبيعة المرحلة الاجتماعية والسياسية التي نمر بها، وقد يكون السن، أو أنني أصبحت أكثر ليبرالية وإيمانا بالحرية الإنسانية.
تغير المرحلة
الجديد: أفلامك مُحمّلة بالهم الإنساني والوجودي بأشكال مختلفة.. كيف تكوّن لديّك كل تلك الأسئلة التي تتوخى عرضها بلا إجابة في معظم الأحيان؟ هل هناك أحداث مفصلية مررت بها حرّكت لديك أسئلتك العالقة؟
داود عبدالسيد: الأسئلة والهواجس تتغير بتغير المرحلة الزمنية، مثلا فيلم “مواطن ومخبر وحرامي” يتعرّض لمسألة الفساد ليس بمعناه كمشكلة اجتماعية ولكن لحياة الفاسدين أنفسهم. ظهر هذا الفيلم في وقت استشرى فيه الفساد وسيطر على كل شيء. أما في فيلم “أرض الخوف” فهو تجربة أعتقد أنها تجربتي وتجربة جيلي، ليس في العمل كضابط بوليس أو تاجر مخدرات بالطبع، ولكن هي تجربة الجيل الذي كُلِف بمهمة ثم نُسي تماما. ولو تحدثت عن هاجسي هذه الأيام سيكون هو حالة القمع التي لم أر مثلها من قبل. وبالتالي فالأسئلة تتشكّل من داخل الموضوع، الفيلم لا يُقدّم إجابات جديدة لكنه يقدم شهادته عن التجربة.
شخصية واحدة
الجديد: أبطال أعمالك الذين تتكرر أسماؤهم في أكثر من عمل ربما يملكون الهواجس والأحلام ذاتها بتوجهات مختلفة.. ما أكثر شخصية تتقاطع معها بشكل كبير؟ وهل هناك شخصيات حقيقية تعاملت معها في الواقع وقررت تجسيدها سينمائيا؟
داود عبدالسيد: كل الشخصيات أتقاطع معها بشكل أو بآخر، أحيانا أشعر أنني أتناول شخصية واحدة بتجارب ومغامرات مختلفة وبمعايشة أناس جدد. البعد الذاتي في أفلامي كبير، وعندما أقرر تقديم شخصية ما أتقمصها وأعيش نفس ظروفها وحياتها وأسئلتها. وكل من يتعلق بفيلم يتعرف على نفسه في إحدى الشخصيات، ومن حسن الحظ أن البشر جميعا يتشاركون المشاعر ذاتها.
وبالنسبة لتجسيد شخصيات حقيقية، فأظن أنه لا يمكن تجسيد شخصية كما هي بكل تفاصيلها، ولكن تكوين الشخصية يأتي من عدة مشاهدات. يمكن أن يكون التجسيد لشخصيات حقيقية قد حدث في فيلم “الكيت كات”، فشخصيتا “الشيخ حسني” و”الهرم” حقيقيتان لكن إبراهيم أصلان هو الذي قدمهما في روايته وكنت مجرد ناقل لهما.
الرسائل المُضمرة
الجديد: مستويات دلالية عدّة تحملها أفلامك غير أنها في أغلب الأحيان تضل طريقها نحو المتلقي.. ألست منشغلا بمسألة وصول رسالتك كاملة إلى المشاهد؟ وهل ترى أن المشكلة كامنة في فساد الذائقة السينمائية في الوقت الراهن خصوصا مع غلبة الأفلام التجارية؟
داود عبدالسيد: هناك فرق بين الإدراك والفهم، الإدراك هو المرحلة الأولى بالنسبة للمُتلقي عندما يشاهد عملا فيدركه ولكن لكي يفهمه بشكل كامل فهذا يحتاج منه إلى بذل مجهود بشكل ما. أنا مسؤول أن تكون القصة في الفيلم واضحة لكن الدلالات وراء القصة متروكة للمشاهد فهي قراءته الخاصة، وأحيانا قد يصل المشاهد إلى دلالات لم أكن واعيا بها.
المشكلة أن البعض من المشاهدين يريدون أن تُقال لهم كل الرسائل بشكل مباشر دون أن يُرهقوا أذهانهم بالتفكير، والكثير منهم اعتادوا على مشاهدة أفلام ذات قصّة بسيطة ليس لها دلالات، هذا يعني أن هذه الفئة من الجمهور تحتاج إلى من يوجهها، ويظهر هذا بشكل آخر في ما يطلبه البعض من فرض للرقابة، وهذه مسألة لا أستطيع فهمها، إذا كان القانون يمنحك الحق في أن تدير شؤونك فكيف تطالب بفرض رقابة على ما تراه؟ هؤلاء الناس اعتادوا على العيش في حضانات وضعتهم فيها الأنظمة السياسية التي تولت مسؤوليتهم وهم غير قادرين على التمييز، ومن هنا يُصنع الدكتاتور من شعب لم ينضُج وعيه.
رضاء تام
الجديد: إلى أي مدى أنت راض عن تجربتك السينمائية ككل؟ وهل ينتابك الرفض أو الندم على تقديم أعمال ما خلال مسيرتك السينمائية؟
داود عبدالسيد: أنا راض تماما عن كل ما قدمته، أحيانا عندما أعيد مشاهدة أعمالي أفكر في أن بعض الأجزاء كان يمكن لها أن تظهر بشكل أفضل. ولكن أن أندم عن عمل كامل قدَّمته فهذا غير موجود، وغير محتمل أن أقدّم فيلما قد أندم عليه وإلا أكون خائنا لنفسي.
الواقعية الجديدة
الجديد: تُصنّف أعمالك وأعمال مجايليك ضمن اتجاه “الواقعية الجديدة” في السينما المصرية.. ما الذي جذبك بداية لهذا الاتجاه منذ فيلمك الأول “الصعاليك”؟ وما أوجه اختلافك عن مجايليك في الرؤية والتناول للاتجاه ذاته؟
داود عبدالسيد: أظن أن المسألة ليست اختيارا ذاتيا بقدر ما هي استجابة لظروف تاريخية، فكل جيل تتكوّن رؤيته في مُناخ ثقافيّ وسياسيّ ما. بالنسبة إلى جيلي فقد اكتمل وعينا مع هزيمة يونيو 1967 التي لم تكن مجرد هزيمة عسكرية، وكنّا نحمل همّا ليس فقط بقضية وطنية متمثلة في تحرير الأرض، وإنّما همّ شعوب ومجتمعات انهزمت حضاريا فضلا عن هزيمتها العسكرية. هذه الظروف ولَّدت نقدا للواقع الفعلي خصوصا مع الانحياز إلى قيّم كالاشتراكية والحرية الاجتماعية والقومية العربية والتحرر الوطني، قد تمخضت عنها الحقبة الناصرية وشكّلت وجدان الجيل الذي اتجه للبحث عن أسباب الهزيمة الحضارية لمجتمعه، ونتيجة لذلك جاء هذا التوجه في السينما أو الأدب.
أما بالنسبة لأوجه اختلافي عن جيلي في الرؤية، فهذه مسألة تُحدَّد من قِبل النُقاد المعنيين بمعرفة طبيعة الاختلافات الشخصيَّة بين كل مُخرج وآخر، لكنني لا أستطيع أن أرصد هذا بشكل واضح.
صعود طبقي
الجديد: في فيلمك الأول “الصعاليك” يبدو تأثير الظروف والتغيرات السياسية والمجتمعية بشكل تمكن ملاحظته إلى حد أن أدرجه البعض ضمن الأفلام التي ظهرت في تلك الحقبة منتقدة لسياسات الانفتاح في عصر الرئيس السادات.. هل تتفق مع هذا التحليل لأول أعمالك؟
داود عبدالسيد: ظهر فيلم “الصعاليك” في فترة كان يغلب عليها ظهور عدد من الأعمال التي تناولت فترة الانفتاح في عهد الرئيس الراحل السادات، لكنَّي أرى أن الفيلم لا علاقة له بالانفتاح. هو يتناول مسألة الصعود الطبقي لدى بعض الفئات وتأثير ذلك على علاقاتها الإنسانية، ومسألة الصعود الطبقي بدأت قبل عصر الرئيس السادات. وجاءت نقطة البداية في هذا الفيلم من حادثة قرأتها في إحدى الجرائد. وأعتقد بشكل عام أن النظر إلى أي عمل فني باعتباره رد فعل على مرحلة سياسة معينة يُشكِّل قيدا وسجنا للعمل.
مبادئ الاقتباس
الجديد: لك تجربتان في إخراج أفلام مأخوذة عن روايات: “سارق الفرح” و”الكيت كات”.. ما الفلسفة التي اعتمدت عليها في اقتباس النص الروائي خصوصا أن العملين جاءا مختلفين عن النص الأدبي؟ وما أفضل الأفلام المـأخوذة عن نصوص أدبية نالت إعجابك مؤخرا؟
داود عبدالسيد: لم تكن لديّ فلسفة أو رؤية غير أن أتصرف بكامل الحرية في النص الأدبي. ظهرت هذه الأعمال في وقت كان يغلب عليه فكرة النقل الأمين للأدب في العمل الفني لكن لم أكن مقتنعا بهذه الفكرة. أعتقد أن الاقتباس من الأدب لا بد أن يشبه “الافتراس″؛ بمعنى أن حيوانا مفترسا يأكل حيوانا آخر ثم يحوّله إلى طاقة في جسمه يستفيد منها لكنه لا يُقسّمه إلى أجزاء ويعيد ترتيبها. بالمعنى ذاته أظن أنه يجب التعامل مع النص الأدبي بكل حرية في فهمه وإعادة تقديمه بشكل مختلف.
في فيلم “الكيت كات” قرأت رواية “مالك الحزين” لإبراهيم أصلان وأعجبت ببعض الأشياء فيها، لكن الرواية بشكلها المتكامل لا تصلح أن تتحول إلى فيلم سينمائي؛ فهي مليئة بالشخصيات والأحداث وليس لها عمود فقري، ومن ثم كان لا بد من التعامل معها بحريّة وإعادة تقديمها في ثوب جديد. أما في “سارق الفرح” فقد كانت قصة قصيرة للراحل خيري شلبي ليس لها امتداد بطبيعتها، وهنا كان من الضروري تأسيس أحداث جديدة وشخصيات جديدة.
بالنسبة للأفلام الجديدة المُقتبسة من أعمال أدبية، ألمح مثلا الأعمال المأخوذة عن روايات الكاتب الشاب أحمد مراد، شاهدت فيلم “الفيل الأزرق” لكن لم أقرأ الرواية، لكني قرأت رواية “تراب الماس″ للمؤلف نفسه. أرى أن الاتجاه الذي يتبناه مراد متمثلا في الروايات المكتوبة جيدا بشكل مُسلّ وجذّاب، من المنطقي أن تتحول إلى أفلام تجاريّة مسليّة بعيدا عن الادعاءات العميقة. فيلم مثل “الفيل الأزرق” ليس به أفكار مهمة لكنه معتمد على ثيمة التشويق والجذب. هناك أيضا تجربة فيلم “عمارة يعقوبيان” المُقتبس من رواية بالاسم ذاته للروائي علاء الأسواني والتي لم يُدخل فيها تغييرات كبيرة في السيناريو بشكل مُختلف عن الرواية الأصلية، وهي مُهيّأة بالفعل، ومنطقي جدا أن تتحول إلى فيلم بسهولة.
في الفترة الأخيرة قرأت أعمالا روائية ممتازة لأجيال جديدة، أرى أن هناك حركة روائية لافتة في مصر ودول عربية أخرى مثل العراق. ولكن مسألة تحويل العمل الأدبي إلى فيلم تعتمد على مسائل أخرى غير جودة النص الأدبي. عادة العمل الروائي الذي أنبهر به لا أستطيع أن أحوله إلى فيلم لأنني أراه مكتملا ولن أستطيع التغيير فيه، هناك روايات أخرى قد تعجبني لكن لا تستوعبها السينما.
مصادر مختلفة
الجديد: هل ترى أن ثمة نُضجا في تعامل السينما مع النص الأدبي عن الماضي أم أن العكس هو الصحيح؟
داود عبدالسيد: الأدب أحد مصادر السينما، التي من المفترض أن تعتمد على مصادر مختلفة منها قصص الحياة العادية وحوادث الجرائد ومنها الأحداث التاريخية، كلما نضجت السينما تعددت مصادرها، وجزء من مصادرها الأعمال المؤلفة خصيصا للسينما. الفكرة الشائعة بأن الأدب يرفع مستوى السينما ليست صحيحة في رأيي؛ لأن ما يرفع مستوى السينما فعلا استعمالها لجميع المصادر المتاحة لها وألا تظل حبيسة منطقة ما. بالطبع عندما تتحول رواية جيدة إلى فيلم سينمائي فعلى الأقل يكون هناك ضامن لفكرة موضوع جيدة، ولكن عندما يتم تحويل رواية جيدة إلى فيلم سيّء فهذا ذنب لا يغتفر.
وبعيدا عن المصدر سواء كان من الأدب أو من غيره، فإن هناك فقرا في الرؤية لدى السينما المصرية؛ فمثلا رغم تعدد المحافظات بكل شوارعها وسكانها فإن السينما لا تُقدِّم سوى شوارع القاهرة وأحيانا الإسكندرية، ورغم تعدد المهن إلا أنه نادرا ما نشاهد أفلاما عن الفلاحين في القرى أو العمال أو غير ذلك. ورغم ما نمتلكه من تاريخ ثري إلا أننا لا نشاهد أعمالا تاريخية. هناك زاوية شديدة الضيق في الرؤية السينمائية.
سينما طبقية
الجديد: إلام ترجع هذا الفقر في الرؤية؟
داود عبدالسيد: الأفلام يتم عرضها في مولات ومنها تأتي الإيرادات، هذا يعني أن السينما في مصر طبقية. فمع وصول التعداد السكاني إلى ما يقرب من 100 مليون نسمة لا نجد أكثر من 500 صالة عرض لا يزورها سوى طبقات معينة أما باقي الناس فليس لديهم إمكانية شراء تذاكر السينما التي تعد باهظة الثمن بالنسبة إليهم.
بالطبع يمكن الوصول إلى حلول تتمثل في إنشاء صالات وقاعات أرخص ولو كانت بإمكانيات أقل. جزء كبير من المسؤولية يقع على عاتق الدولة على الأقل بمنح المساعدات لتنفيذ ذلك، لكن ما يحدث هو أن الدولة تتخلى عن هذه المسؤولية بل إن تمويلات بمبالغ كبيرة تأتي من قِبل جهات سيادية للمنتجين الذين بدورهم -حفاظا على فرص التربح- لن يفكروا في إنتاج أي فيلم يحمل أيّ مخاطرة أو مكسب أقل، من ثم هناك رؤية للإفساد وليس للإصلاح كي يتحول الكثير من الأمر إلى دعاية للنظام السياسي.
سينما المؤلف
الجديد: قمت بتأليف وإخراج معظم أعمالك متبنيا توجُّه “سينما المؤلف”.. ما الذي دفعك إلى هذا الاختيار؟ وهل فكرت من قبل العدول عن التأليف خصوصا عقب أي نقد موجّه للسيناريو في أفلامك؟
داود عبدالسيد: لديّ رؤية سينمائيّة ما أرغب في تقديمها، ومن ثمّ كان الأنسب أن أقوم بكتابتها، ولكن ليس لديّ مشكلة في أن يكتب لي أحد سيناريو أحبه ومن ثم أستخدمه، لا أرى أن كتابة السيناريو شرط، ولكن الحديث عن انتقادات للسيناريو بسبب عدم وصوله إلى الجمهور فأراه مسألة غريبة، فما دامت القصة واضحة وأحداث الفيلم منطقية فليس هناك غموض.
تأثر طبيعي
الجديد: هل من تأثيرات أو أفكار بقيت معك منذ عملك الأول في الأفلام التسجيلية وكمساعد مخرج؟
داود عبدالسيد: المسيرة التي بدأت بالعمل في الأفلام التسجيلية وكمساعد مخرج أظنها مسيرة عادية، في ذلك الوقت كان من الصعب العمل في الإخراج مباشرة فور التخرج. السينما التسجيلية مهمة وتفتح آفاقا على العالم. مثلا فيلمي التسجيلي عن “الناس والأنبياء والفنانين” كان عن فنان تشكيلي يرسم أنبياء وتطرقت من خلاله إلى علاقة الفن بالمجتمع؛ حدود تأثير فنانين على درجة من الثقافة ولديهم إنتاج جيد في مُجتمع يُعاني من الأُمية أو محدودية الثقافة. وكان هذا الفيلم متعمقا في التعرض لهذه المسألة. أظن أن مسألة التأثر طبيعية دون حاجة إلى تحليلها أو التعمق فيها، من الطبيعي أن الأعمال التي تخرج مني تؤثر مستقبلا بشكل ما.
تحقيق رؤية
الجديد: ما الذي يجعلك تولي في أكثر أعمالك الأهمية لعناصر الصورة والتشكيل البصري كمكوّن سردي؟ هل هو تمرد على التصورات المألوفة للسينما؟
داود عبدالسيد: أنا لا أتعمّد أن أتفلسف أو أعقد الأمور، ومن ثم فإن ما أهدف إليه هو تحقيق رؤية ما عادة تكون عن الحياة من خلال السينما. لديّ أفكار وهواجس تتبلور تدريجيا من خلال أفلام أسعى منها للتأثير في الناس. لا أفكِّر بطريقة شكليّة إنما أريد أن أقدّم عملا مؤثرا وجدانيا وجماليا.
نقطة مضيئة
الجديد: بعد سبع سنوات من ثورات الربيع العربي.. كيف طالعت عدستك ما مرّت به البلدان العربية منذ اندلاع الثورات وحتى الآن؟ وما تأثير كل تلك المتغيرات على السينما برأيك؟
داود عبدالسيد: كانت الثورات حدثا مهما وقويا استدعت مقاومة شديدة من الأنظمة والقوى الاجتماعية والسياسية. الآن يُنكّل بقوى الثورة لكن السؤال هل سينجحون في إلغاء تأثير الثورات؟ أشك في ذلك. ستظل هناك نقطة مضيئة، لا يوجد أحد مرَّ بهذه المرحلة وفقد كل شيء، قد يكون خائفا أو مسجونا أو مهاجرا، إنما ستظل هناك جذوة بداخله هي رغبته في التحرر. هذه مسيرة من تاريخ الثورات لن تنتهي بالقمع.
أما تأثير تلك الفترة على السينما، فقد ضعفت حركة الإنتاج في الفترة ما بعد الثورة، الآن الإنتاج كثير ولكن المشكلة في نوعية الأفلام المُقدّمة، نحتاج إلى تقديم أنماط مغايرة يفرزها مناخ من الحريّة.
مفهوم عام
الجديد: هل حركتك الأحداث خلال تلك الفترة للتفكير في تناولها سينمائيا بشكل ما؟ وكيف تُقيّم الأعمال السينمائية التي تبارت للتعبير عن الأحداث في هذه الفترة؟
داود عبدالسيد: في رأيي الأحداث التاريخية لا يمكن تناولها بهذه السرعة، خصوصا وأننا لا نعرف الوقائع الحقيقية بل نعرف فقط ما أريد لنا معرفته. الاتجاه نحو تصوير أفلام تتناول الثورات عقب حدوثها مباشرة أو بعد فترة وجيزة لا يتعدى كونه انطباعا وأشبه بفيلم تسجيلي لكن لا يوجد مفهوم عام للحدث، ولكي يتكوَّن هذا المفهوم بشكل واضح لا بد من وجود مسافة زمنية تضمن الابتعاد عن الانفعال.
توجه أخلاقي
الجديد: كيف تنظر إلى التوجه الأخلاقي في السينما أو “السينما التوعوية” والذي تأثر بأفكارها بعض المخرجين وظهرت أعمال تحاول أن تقدم مضامين هادفة باشتراطات أخلاقية ودينية؟ وما تفسيرك لتوغل ذلك الهوس الديني في المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة؟
داود عبدالسيد: أنا لا أطيق هذه النوعية من الأفلام المباشرة. الفن دوره أن يتحدّث عن البشر لا عن المشاكل التي قد تحضر في الفيلم لكنها ليست الهدف. بالنسبة إليّ أحاول النظر في سيكولوجية الشخص الواقع تحت تأثير مشكلة، وليس البحث عن حل للمشكلة الاجتماعية. لا أرى أن هذا فن جيد. نفس الشيء ينطبق على الأفلام ذات التوجهات الدينية فهي تجارب غير ناضجة برأيي.
الهوس الديني له أسباب عدة، ربما أهمها فكرة الهزيمة التي دفعت للرجوع إلى مصدر الأمان ممثلا في الأمجاد التاريخية والدينية، هذا إلى جانب محاولات فرض الدول البترولية لقيم مجتمعاتها على المجتمعات الأخرى، كما أن الأنظمة السياسية تشجع على ذلك.
سينما المرأة
الجديد: لديّ سؤال مزدوج يتعلق بالسينما والمرأة. أولا هل هناك سينما تصنعها المرأة في العالم ولها ملامح وسمات خاصة؟ الجانب الثاني كيف تنظر إلى تطور حضور المرأة في السينما عموما، وهي سينما يصنعها أساسا الرجل؟
داود عبدالسيد: في رأيي، مصطلح سينما المرأة يحمل قدرا من السخافة. مبدئيا لا أحب أعمال المشاكل، صحيح أنه من الطبيعي أن يحمل العمل هموم صناعه، ولكن برأيي مشاكل المرأة هي مشاكل الرجل، وكل منهما انعكاس للآخر في قضاياه وهمومه، حرية المرأة وجه آخر لحرية الرجل، فالرجل الذي يقمع امرأة ليس حرا. ولكن بشكل عام أنا لست ضد تواجد هذا النوع من السينما. أما من جهة حضور المرأة فطبعا يوجد تطور كبير وملحوظ ليس فقط في السينما ولكن في كل المجالات، وحضور المرأة في العمل السينمائي ليس فقط من حقها، لكنه واجبها أيضا.
مجلة الجديد اللندنية