دجايلي حمدو أمل: الله يحبّ «الصابرات»؟
وصول الكاتبة الكاميرونيَّة دجايلي حمدو أمل إلى القائمة القصيرة لجائزة «غونكور» في دورتها قبل الأخيرة (2020) من خلال روايتها «الصابرات» ومن ثم فوز الرواية بالجائزة المتفرّعة عن الجائزة الأم والمخصَّصة لطلبة المدارس الثانويَّة حصراً، سلَّطا الضوء مجدَّداً على الرواية الأفريقيَّة، التي تحظى باهتمام أكبر في العالم. ومواكبةً لما أفرزته الجائزة في دوراتها الأخيرة من أسماء جديدة بالنسبة إلى القارئ العربي، قدَّمت «دار الفارابي» أخيراً لقرّائها ترجمات عربيَّة للكتّاب الفائزين بـ «غونكور» من بينها «الصابرات» (ترجمة ممتازة للسورية لينا بدر ـ تصميم الغلاف جبران مصطفى).
تتناول الرواية العنف الجسدي والمعنوي الذي يُمارَس ضدّ المرأة في بعض المجتمعات الأفريقيَّة ومنها مجتمع «الفلّاني» الذي تنتمي إليه الكاتبة، واستغلال الذكور لبعض العادات والتقاليد المنسوبة زوراً إلى الدين للتغطية على جشعهم الذي تدفع ثمنه النساء غالباً على شكل زواج مبكر وقسري ظاهره الستر وباطنه المصالح الشخصيَّة.
تتعقَّب الكاتبة مصير ثلاث نساء يتناوبن على الحكي: رملة التي تجبَر على ترك حبيبها والزواج من رجل بعمر والدها خدمة لمصالح والدها وأعمامها، وشقيقتها هندو التي تجبَر على الزواج من ابن عمّها المدمن على الكحول والمخدرات، وسفيرة التي تجبَر على كبت انفعالاتها الطبيعيّة إزاء وجود ضرّتها الجديدة وانصراف زوجها عنها. ضرّة ليست سوى رملة نفسها!
تمنّي رملة نفسها بالزواج من أمينو صديق شقيقها أمادو، وأن تسافر معه إلى تونس حيث يدرس الهندسة لتحقق حلمها بدراسة الصيدلة، وتسير الأمور على ما يرام إلى أن يراها الحجي عيسى «الرجل الأكثر أهميّة في المدينة» أثناء عرض مدرسي ويعجب بها، فيقرّر أن يجعلها زوجته الثانية. يقف الجميع ضدّها حتى والدتها الخائفة على نفسها، والطامعة بفقئ عيون الضرائر بهذا العريس الاستثنائي الذي يحلمن بمثله لبناتهن. حتى أمادو الذي يساند شقيقته ويؤمن أنَّ الزمن تغيَّر، يتوقف أخيراً عن محاولة إقناع والده بعد أن يشعر أنَّ زواج والديه مهدد. وإذ تتيقَّن رملة من انسداد السبل في وجهها بعد فشل تهديدها بالانتحار في تحقيق خرق في موقف والدتها، تقرّر الانصياع لقرار العائلة وتكبت أحزانها في قلبها، قبل أن تجد نفسها في مواجهة ظلم أكثر فداحة على يد ضرتها التي أفقدتها الغيرة صوابها وأجبرتها على أن تكون شريرة لا حدود لضغينتها.
أمَّا هندو التي تجبَر بدورها على الزواج من ابن عمّها مبارك رغم معرفة الجميع بسلوكيَّاته وأخلاقه، من إدمانه على الكحول وتعاطيه المخدرات وصولاً إلى إقدامه على اغتصاب خادمة والده، فستكون أكثر جرأة من رملة. إذ ترفض هذا الزواج بشدَّة، متوسلة والدها الذي لا يعير أهميَّة لحركاتها الصبيانية ويأمر بنقلها بالقوة إلى جناحها الجديد في دار العائلة الذي أقيم في مكان حظيرة الأبقار ولم تغادره بعد رائحة نزلائه السابقين. لا تنفع الرضوض والكدمات والأورام التي تضاف يوميّاً إلى سابقاتها في جسد هندو في تحريك مشاعر العائلة. فالضرب حق بديهي من حقوق الزوج على زوجته! وحده استقدام مبارك لعشيقته إلى مخدعه الزوجي أمام عيني شريكته، سيتسبّب في غضب العائلة أخيراً، ولكنَّه غضب موجَّه إلى هندو لتركها منزلها الزوجي بعد أشهر قليلة على زفافها وفي وضح النهار، مخالفة العادات والتقاليد وآداب السلوك!
ولا تبدو سفيرة رغم جبروتها الظاهر كزوجة أولى للحجّي عيسى تتمتَّع ببعض الصلاحيَّات الاستثنائيَّة أفضل حالاً. هي مجبرة بدورها، بعد سنوات طويلة من الحياة الزوجية الهادئة، على الاستغناء عن مكانها لصبيَّة في عمر ابنتها، بل إظهار أقصى درجات الترحاب واللياقة في استقبالها. كل هذا سيدفعها إلى أمكنة لم تتخيَّل أن تجد نفسها فيها يوماً، فالتخلص من غريمتها سيدفعها إلى تمنّي الموت لها أو لزوجها أو لكليهما، وارتماؤها في أحضان صانعي السحر الأسود لمساعدتها في تحقيق حلمها سيرتّب عليها أكلافاً باهظة لا يمكن تغطيتها إلا عبر سرقة مال زوجها، وصولاً إلى سرقة مبالغ أكبر لاتهام ضرّتها بسرقتها.
القواسم المشتركة بين النساء الثلاث كثيرة، تبدأ من تشابه مظلوميتهن في أسبابها ومآلاتها، وصولاً إلى تقاطع مصائرهن عبر دخولهن مرغمات على دائرة من القسوة تطحن الجميع، فرملة كانت شريكة من حيث لا تقصد في آلام سفيرة، وسفيرة لم توفر فرصة لإلحاق الأذى برملة، وهندو في محاولتها الفرار لإنقاذ نفسها من القتل على يد مبارك تسبّبت في الأذى لوالدتها التي تحمَّلت ظلماً تبعات تصرّف ابنتها. تُضاف إلى هذا كله حكايات أخرى تحفل بها الرواية لنساء من العائلة ابتلعتهن الدوامة نفسها. أمَّا أبرز القواسم المشتركة، فهي تلك النصيحة التي لا يملك جميع من حولهن غيرها الصبر»!
«صبراً بنيّاتي. هي ذي القيمة الحقيقيَّة لديننا، لعاداتنا، للشعب الفلّاني، البُلاكو. ادمجاه في حياتكما، احفراه في قلبيكما، واعملا على ترديده في عقليكما» يقول الأب لابنتيه رملة وهندو قبل أن يرميهما في فم التنين.
فهل هو الصبر الذي ينضج الحجر، والفن الذي يجب أن نتعلمه بصبر، والذي يأتي بعده الفرج، ويلاقي الصابر في نهايته السماء، ذاك الذي عجَّت به المواعظ المنثالة من ألسنة عرَّابي هذا الجحيم في آذان الضحايا، أم أنَّه «الخضوع» وقد أُلصِق به اسم مستعار لا يشبهه؟ وهل العنف ضدّ النساء الذي تحكي عنه الرواية والشروط المتحكّمة بالنساء في منطقة الساحل الأفريقي والتي تكاد تنتمي إلى زمن الوأد هي إرادة الله فعلاً؟ وهل يحبّ الله «الصَّابرات» على هذه الشاكلة فعلاً؟