دراسة| داعش وأخواتها وإعادة تدويل المسألة العراقية
توطئة
فرض الشاعر أبو العلاء المعرّي عزلة ذاتية على نفسه بعد عودته إلى حلب من بغداد، حين شعر بانكسار نفسه ووطأة همومه وأحزانه، خصوصاً بعد وفاة والدته، واستمر في ذلك أربعين عاماً، وأطلق على نفسه لقب “رهين المحبسين”.
الموصل اليوم تعيش رهينة المحبسين، فقد اختطفها المسلحون، وهي غارقة في همومها ومعاناتها وشعورها بالحيف والتهميش الذي لحقها، لكن ما حدث خلال يومي 11 و12 حزيران (يونيو) 2014 وما أعقبه لم يكن تأثيره منحصراً في الموصل فحسب، بل أن امتداداته ستشمل الدولة العراقية وتاريخها ومستقبلها، ناهيكم عن تأثيراته الإقليمية والدولية.
لم يحدث في تاريخ الدولة العراقية، التي تأسست في العام 1921، أن تعرّضت كيانيتها للتصدّع كما هي الآن، فقد بقيت قوية وهيبتها كبيرة على الرغم من العواصف والتحدّيات والحروب والحصار وبعض عناصر الضعف التي عانت منها، لكنها استطاعت الحفاظ على وحدتها وتماسكها بغض النظر عمّن حكمها، لكنها اليوم مهدّدة بالتشطير والانقسام والتفتيت.
وبكل الأحوال ما كان لداعش وأخواتها إحداث مثل هذا الشرخ العميق في كيانية الدولة العراقية لولا الضعف الذي اعتراها والهزال الذي أصابها، وخصوصاً بعد الاستيلاء على الموصل وصلاح الدين وتلعفر وأجزاء من ديالى والتلويح بالتوجّه صوب بغداد “العاصمة”، وكانت تلك مفاجأة كبرى وغير متوقعة، أما المفاجأة الثانية فهي إعلان دولة الخلافة وتنصيب أبو بكر البغدادي خليفة للمسلمين، وكان ظهوره العلني في جامع النوري الكبير في الموصل مفاجأة أخرى، لإظهار قوة التنظيم وتحدّيه لحكومة بغداد،. ولعلّ هذا التطور الدرامي الذي كانت صدمته الأولى في الموصل يعتبر الحدث الأبرز الذي شهده العراق بعد الانسحاب الأمريكي نهاية العام 2011.
أولا- ستراتيجية جديدة لداعش!
يشكّل احتلال الموصل انتقالاً حاسماً في ستراتيجية تنظيم داعش وبقية الجماعات الإرهابية التي كانت خطتها لسنوات غير قليلة تقوم على المداهمات والتفجيرات والمفخخات، وإحداث ما تستطيع من أذى بالدولة العراقية ورعب بالمجتمع العراقي مادياً ومعنوياً، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً ونفسياً، وذلك هدف أي جماعة إرهابية، ولكن داعش ذات التنظيم الحديدي والحركة الزئبقية انتقلت إلى ستراتيجية الاستيلاء على الأراضي ووضع اليد على الإدارات والمؤسسات والمرافق والبقاء فيها والتمدّد بعدها إلى احتلال مناطق جديدة، وصولاً إلى إعلان “الدولة الإسلامية” وتسمية خليفة للمسلمين الواجب طاعته وفرض قواعد حكم تنسجم مع التوجهات الآيديولوجية “الإسلاموية” لداعش كتنظيم متطرف وفكر متعصب لا يؤمن الاّ بالعنف ويخوّن الجميع، ويكفّر من لا يدين بالولاء له.
إن هذا التطور في ستراتيجية داعش جاء في أعقاب نتائج الانتخابات النيابية التي جرت في 30 نيسان (ابريل) 2014، وعشيّة انعقاد الجلسة الأولى للبرلمان العراقي الجديد، الذي سينتخب رئيساً له ورئيساً للجمهورية، وهذا الأخير يسمّي رئيس الوزراء من الكتلة الأكبر لتحظى بتصويت البرلمان، وهي المسألة الجدالية المستمرّة حول تجديد الولاية الثالثة لرئيس الوزراء أو تمديدها، وفي الوقت نفسه، إنها انعكاس لأزمة الحكم المستفحلة وللإنقسام السياسي والطائفي والإثني الحاد الي أعقب الاحتلال الأمريكي للعراق منذ العام 2003 ولحد الآن.
تأتي ستراتيجية داعش الجديدة بالانتقال من أعمال الارهاب والعنف العشوائية، التي تستهدف ساحات عامة ومناطق تجمع سكاني وأسواق ومحال تجارية ومدارس وجوامع وكنائس، إلى ستراتيجية احتلال مناطق جغرافية واسعة وإدارتها، والامتداد خارجها، والتهديد بالتوجّه إلى بغداد، وذلك في تطوّر جديد وغير مسبوق.
قد تكون خطوة داعش تلك مغامرة جديدة للتنظيم أقرب إلى العمل الانتحاري الجماعي بعد أن درجت على الأعمال الانتحارية الفردية، لكن تطوّرات المشهد السياسي والبيئة الحاضنة كانت عنصر تشجيع له للقيام بتغيير مسارات ستراتيجيته، إضافة إلى تعاون جماعات سياسية معه محسوبة على النظام السابق، بعضها من العسكريين وآخر من الطريقة النقشبندية، وثالث من حزب البعث المحظور، كما جاء على لسان ممثله خضير المرشدي، حين اعتبر داعش أحد الفصائل المعارضة للمالكي(1) ، ومع أنه رفض تضخيم دورها، لكنه اعترف بوجود تحالفات مباشرة أو غير مباشرة معه، ومع مجموعات وتنظيمات إسلامية أخرى، على الرغم من أن قرار داعش بإعلان “الدولة الإسلامية”، كان إحراجاً للجميع وفي مقدمتهم من أراد التحالف معها سرّاً أو علناً أو سكت عن استيلائها على الموصل وعن مشروعها السياسي والحربي التكفيري وهو ما اعتبرته “هيئة علماء المسلمين” المعارضة، أمراً خاطئاً، فضلاً عن أنه غير ملزم للمسلمين، وذهب الأزهر الشريف وهيئات دينية عربية وإسلامية إلى التنديد بإعلان داعش (2) .
قد يكون استبدال ستراتيجية داعش من الارهاب المباشر إلى السيطرة على مناطق واسعة وإعلان دولة الخلافة الإسلامية الواجبة الطاعة، جاء بسبب الشعور بهشاشة الكيانية الرخوة للدولة العراقية، وبلوغها درجة من التفكك ناجمة عن الانقسام السياسي من جهة، وتفلّت اقليم كردستان من هيمنة الدولة الاتحادية، إضافة إلى تصديره للنفط دون موافقة بغداد، من جهة ثانية، إضافة إلى اتساع نطاق حركة الاحتجاج في العديد من المحافظات، مستقطبة مطالب شعبية ومشروعة في الغالب، في حين ظلّت الحلول المطروحة لتلبية تلك المطالب قاصرة ومبتورة، وفي أحسن الأحوال لم تكن مرضية أو مقبولة من جانب فئات واسعة في العديد من المحافظات المعترضة، وخصوصاً في غرب العراق وشماله.
وإذا كان ثمة أمل في إحداث تغيير في الانتخابات، حسبما راهن كثيرون بما فيهم بعض الأطراف المشاركة في العملية السياسية أو خارجها، إلاّ أن النتائج التي جاءت بها كانت مخيّبة لآمال “داعش” وللعديد من القوى التي كانت تعوّل على إمكانية حدوث تصدّع في تركيبة الحكم، وخصوصاً لدى تيار “الشيعية السياسية”، وهو الأمر الذي لم يحصل على الرغم من الخلافات بين أطرافها واتساع نطاق الجهات المناوئة لتجديد المالكي لولاية ثالثة.
ولكن من جهة أخرى فقد أثار الحدث تداعيات مختلفة، فليس من المعقول أن يستطيع بضعة آلاف من المسلحين احتلال محافظة الموصل دون مواجهة تُذكر، والتوجه بعدها إلى محافظة صلاح الدين ومركزها مدينة تكريت ثم التحرك صوب تلعفر وبعض بلدات محافظة ديالى، فلم يكن أحداً يتوقّع ذلك، خصوصاً وأن ما هو معروف ومتداول عن بناء الجيش “الجديد” وما صرف عليه من تمويل وتجهيز وتدريب كان كبيراً جداً، فكيف حصل مثل هذا الانهيار وبهذه السرعة الفائقة؟
ثانياً – خطايا وتواطؤ
لقد حلّ بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق (13 أيار/مايو 2003-28 حزيران/يونيو 2004) (3) ، الجيش القديم الذي تأسس في العام 1921 مع تأسيس الدولة العراقية المعاصرة، وتلك خطيئته الأولى والأساسية بعد الاحتلال، حيث ترك البلاد للفوضى والارهاب والعنف والفساد المالي والإداري، وباستثناء نواتات من القيادات العسكرية السابقة، فقد تم بناء جيش جديد من خلال قبول أفراد من الميليشيات المعارضة لنظام صدام حسين سابقاً من لواء بدر الذي تأسس في طهران أيام الحرب العراقية –الإيرانية، وذلك بعد قيام المجلس الإسلامي الأعلى العام 1982، وقوات البيشمركة، التي كانت موجودة أصلاً في كردستان بصورة رسمية منذ أواخر العام 1991 حين سحبت الحكومة العراقية إدارتها وموظفيها وقواتها من كردستان، وقامت البيشمركة بملء الفراغ، خصوصاً بعد قرار دولي للدول الثلاث (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا) لإعلان منطقة ما فوق الخط 32 ملاذاً آمناً Save Heaven. (4)
واضطرّت الحاجة إلى مواجهة الإرهاب بناء جيش كبير بعد أن كانت خطة الأمريكان تقضي وجود جيش عراقي محدود العدد والعدّة، وخصوصاً بعد إلغاء التجنيد الإلزامي، لاعتبارات تتعلق بالصراع العربي- الإسرائيلي، ولكن للضرورة أحكام كما يقال، فقد بلغ قوام الجيش الآن “نحو مليون جندي عراقي”، فكيف حصل ما حصل، بحيث ترك الضباط والجنود أسلحتهم ووحداتهم وفلّوا هاربين “ذهبوا خفافاً”، الأمر الذي يطرح أسئلة مشروعة وتحتاج إلى مساءلات واسعة فكرية وسياسية وقانونية وتاريخية ونفسية، علماً بأنه يقدّر عدد أفراد الجيش في الموصل وحدها نحو 50 الف جندي أو ما يزيد عليه، وكذلك ما يزيد عن 20 الف شرطي؟
قد يكون هناك نوع من الخدر وضعف اليقظة والتواطؤ، بانشغال الفرقاء، وخصوصاً من دولة القانون بترتيب موضوع الوزارة وتشكيلاتها بعد الانتخابات، حيث أن الصراع الطاغي والمحموم كان ولا يزال ينصبّ حول موضوع الولاية الثالثة لرئيس الوزراء، وهو الأمر المحتدم والمتأجج بامتياز منذ شهور، لكن مثل هذا الاستنتاج لوحده غير كاف، ذلك أن ما حدث كان أحد نتائج الاحتراب السياسي، وغياب الرؤية المشتركة للفرقاء، ومحاولة كل طرف الحصول على المكاسب وتهميش الآخر، فلم تنجح الحلول الأمنية والعسكرية من القضاء على أزمة الفلوجة المستفحلة منذ نحو بضعة أشهر، إضافة إلى تلبية مطالب المحتجّين المشروعة في الأنبار والموصل وصلاح الدين وديالى وكركوك ومناطق حزام بغداد وغيرها، وهي مطالب يعترف بها رئيس الوزراء وأركان الحكم على اختلاف توجهاتهم، لكن المسألة أعقد من ذلك بكثير وهي تتعلق بتجفيف منابع الإرهاب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية والمذهبية، والأمر له صلة بالفقر والجهل والبطالة، إضافة إلى سياقات العلاقة بين المجاميع العشائرية والقبلية وبألغام الدستور وبالممارسات السلبية، وبالأساس بضعف الثقة وانعدامها أحياناً، ناهيكم عن استمرار نهج التهميش والإقصاء بسبب قانون اجتثاث البعث الذي استبدل بقانون ” المساءلة والعدالة” والمخبر السرّي وقضايا إطلاق سراح المعتقلين، وهي مطالب تكاد تكون موحّدة للجهات والمناطق المحتجّة!
ثالثاً – الدولة من سياقات الوحدة إلى احتمالات التفكك
الخشية اليوم هي في تفكّك الدولة العراقية، التي أطيح بالعديد من مؤسساتها بفعل الاحتلال الأمريكي العام 2003، واستمرت كيانيتها في حالة من الانقسام لدرجة التشظي أحياناً، بفعل المحاصصة المذهبية والإثنية ونظام التقاسم الوظيفي، الذي كرّسه بول بريمر، سواء في قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية لعام 2004 أو في الدستور العراقي الدائم في العام 2005 الذي قام على ما سمّي بالمكوّنات، في حين تقوم الدولة الديمقراطية العصرية في العالم وعلى اختلاف مستوياتها على مبدأ المواطنة بالاستناد إلى المواطنين الأفراد وحقوقهم وليس على اعتبارات أخرى.
وباتت الدولة اليوم مهدّدة وتحت ضغط عاملين الأول هو جنوح اقليم كردستان باتجاه توسيع صلاحياته التي هي أقرب الى الكونفدرالية، وصولاً إلى كيانية مستقلة، وهو ما عبّر عنه رئيس الاقليم مسعود البارزاني بقوله: إن ما حدث في العراق خلال الأيام الماضية خلق واقعاً جديداً، وإن الأحداث أكّدت إن الشعب الكردي عليه أن يغتنم الفرصة الآن ويحدد مستقبله، وهو الأمر الذي يضع مسألة الدولة الكردية موضوعياً على بساط البحث أكثر من أي وقت مضى، وانعقدت النيّة على إجراء استفتاء بشأن حق تقرير المصير الذي سبق أن صوّت لصالحه 98% في العام 2005 (ولم يكن مثل ذلك الاستفتاء ملزماً، بل كان هدفه رسالة إلى القوى الأخرى وجس نبض لردود فعلها) وكذلك استفتاء بخصوص كركوك لتخيير سكانها بين الانضمام إلى اقليم كردستان أو البقاء في وضعها السابق.
أما ضغط العامل الثاني، فهو ارتفاع المطالبات في المناطق الغربية من العراق وشماله بالتحوّل إلى أقاليم وفقاً لصيغة إقليم كردستان، وهو الأمر الذي جاء على ذكره الدستور، وذلك ” أملاً” من سكان هذه المناطق بالتحلل من القبضة القوية للحكومة الاتحادية، والتمتع بصلاحيات حكم أنفسهم بأنفسهم في إطار “استقلالية” أشبه “باستقلالية” إقليم كردستان.
وإذا كان سكان محافظتي الأنبار وصلاح الدين، والقوى السياسية التي يطلق عليها “السنّية السياسية” قد رفضت الدستور أو عارضته أو تحفّظت عليه في العام 2005 لأنه احتوى على الفيدرالية، وإن الموصل كادت أن تسقط الدستور (طبقاً لأحكامه فيما إذا لم تصوّت لصالحه ثلاث محافظات) فإنها اليوم الأكثر اندفاعاً إزاء موضوع الفيدرالية، لشعورها بالحيف والتهميش.
ولعلّ المفارقة تتجلّى في إن المحافظات الجنوبية “والشيعية السياسية”، وخصوصاً المجلس الإسلامي الأعلى ورئيسه آنذاك السيد عبد العزيز الحكيم، التي كانت من المؤيدين لفكرة الفيدارلية وحاولت مع الكرد تمريرها في الدستور، هي اليوم الأكثر تحفّظاً على “استقلالية” المحافظات الغربية والشمالية التي عنوانها ” الفيدرالية”، بل إنها تقرأها باعتبارها “انفصالاً” و”تقسيماً”، حسب خطة بايدن أو توسيعها إلى أكثر تشظياً بزيادة الوحدات الفيدرالية (5) لتشمل عدد آخر من المحافظات التي يمكن أن تتحوّل إلى إقليم.
لقد وجدت المحافظات الغربية والشمالية في خطة داعش الهجومية فرصة في ضعضعة الدولة وإظهار هشاشة حكومة المالكي، وبالتالي فهي تنتظر النتائج التي سيمخض عنها الصراع مع بغداد، بل إن بعض قيادات من العشائر اجتمعت في أربيل وأعلنت أنها مع هجوم داعش على بغداد، لوضع حد لتسلط حكومة المالكي، ولعل اليأس من إجراء تغيير وإعادة ترتيب العلاقة الجديدة على أسس مختلفة ومراعاة مطالب سكان هذه المناطق، هو الذي يدفع بعض ما يسمى برؤساء العشائر وقوى سياسية ودينية إلى تأييد داعش، وإن كان بشكل مؤقت أو ظرفي، لكنها ترتكب خطأ تاريخياً كبيراً سيلحق ضرراً بالدولة العراقية وتاريخها، لاسيّما تأييد قوى إرهابية تكفيرية.
رابعاً- قراءة غير تقليدية
بعد سيطرت داعش على الموصل بدأت بإرسال تهديداتها بالتمدّد نحو بغداد ومؤخراً إعلان “الدولة الإسلامية” وتنصيب أبو بكر البغدادي خليفة للمسلمين وجبت طاعته والامتثال لإرادته باعتباره ” ولي الأمر“، وهكذا أخذت تختلط أوراق السياسة والمصالح والاتفاقات، بالأوراق العسكرية والأمنية والدينية والطائفية لدرجة معقّدة، خصوصاً بتسلّل قوات داعش واحتلالها مناطق شاسعة من شمال العراق وغربه، وسط ذهول وقلق عالميين وإقليميين، وحالة ذعر عراقية لا تزال مستمرة، صاحبها ارتفاع أسعار المواد الغذائية وشحّ بعضها وارتفاع أعداد النازحين، وتدهور ثقة المواطن بالدولة المتدهورة أصلاً.
والسؤال الذي يواجهه الجميع: كيف استطاعت قوات داعش أن تسيطر بهذه السرعة الخاطفة على الموصل وتكريت وتتوغّل شرقاً وجنوباً مهدّدة بالوصول إلى بغداد ومناطق أخرى، لاسيّما بعد النصر السهل الذي حققته؟ ثم ماذا بعد اعلان خلافتها ” الكونية”؟ الأمر بحاجة إلى قراءة غير تقليدية للوقائع، نحاول تلمّس بعض عناصرها من خلال:
1- إن قيادة قوات داعش مدرّبة ونواتها الأساسية ” عقائدية”، وقد تمكّنت من غسل الكثير من الأدمغة والتأثير على العقول مستغلة أوضاع الحراك الشعبي وازدياد النقمة على الحكم للتوسع والانتشار، فضلاً عن البطالة والفقر والتخلّف، فقامت بتجنيد العديد من الشباب من الأوساط الشعبية المتدنّية والساخطة. وتتألف القيادة من 10 أعضاء وهم في غالبيتهم الساحقة ضباط في الجيش العراقي السابق.
2- تعود أصول تنظيمات داعش إلى تنظيمات القاعدة، حتى أن أبو بكر البغدادي واسمه الحقيقي (إبراهيم عواد إبراهيم علي البدري السامرائي من مواليد العام 1971 والذي كان خطيباً في أحد جوامع بغداد والذي أصبح خليفة المسلمين) كان معتقلاً في سجن بوكو من جانب الأمريكان، وأطلق سراحه في ظرف غامض وملتبس، الأمر الذي يثير علامات استفهام كبيرة حول نشاطه وحركته، وبالتالي المهمات التي اضطلع بها وهي مهمات كبيرة جداً وتحتاج إلى معرفة وتمويل وإمكانات لوجستية غير قليلة، فما بالك حين يحتل الموصل وتكريت ويعينّ محافظين للمحافظتين من أنصار النظام السابق، وممن كانوا في المسؤولية سابقاً، إضافة إلى إدارته لهذه المناطق بعد انسحاب الجيش منها، وذلك منذ 10 حزيران (يونيو) 2014. وهناك تساؤل غير بريء حول إطلاق سراح البغدادي على الرغم من معرفة المخابرات المركزية الأمريكية الـ CIA بخطورته.
3- تفيد تسريبات The intercept إن البغدادي كان قد درس في بغداد ولديه تحصيل علمي (ماجستير ودكتوراه) من الجامعة الإسلامية، ومن هواياته لعبة كرة القدم، وكانوا يشبهونه بليونيل ميسي اللاعب الارجنتيني الشهير، وقد عاش نحو عشرة أعوام في غرفة ملحقة بأحد مساجد منطقة الطوبجي (مدينة الحرية) قرب مدينة الكاظمية حتى العام 2004، ويعتبر ظهوره في جامع النوري الكبير في الموصل هو أول ظهور علني له حيث وصل إليه بموكب ضخم، وبعدد كبير من سيارات الدفع الرباعي السوداء المزوّدة بالعديد من الأسلاك وأعمدة الاتصال اللاسلكية، التي يعتقد أنها سيارات للتشويش على إرسال الهواتف المتنقلة، التي توقفت قبل ساعة من وصوله إلى الجامع وخلال مدّة بقائه وبُعيد خروجه منه.
4- الطريف في الأمر إن إدوارد سنودن الأمريكي المتعاقد السابق لدى وكالة المخابرات المركزية CIA يشير إلى أن وكالة الأمن القومي الأمريكي وبالتعاون مع نظيرتيها البريطانية M16 والموساد الإسرائيلية مهّدت لظهور ” تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” داعش، والهدف حسب موقع The Intercept هو استقطاب متطرفين في مكان واحد في عملية يرمز لها بعش الدبابير، وذلك لرفع شعارات إسلامية متطرفة، والهدف هو خلق عدو قريب موجه ضد الدول الإسلامية ذاتها وليس ضد إسرائيل حسب وثائق سنودن، وهناك إشارات وردت على لسان سنودن إلى أن البغدادي كان قد تلقى تدريباً عسكرياً ودورات في الخطابة وفي علم اللاهوت على أيدي تلك الجهات وبخاصة الموساد (6) .
5- قد يتصوّر البعض أن القوة التي تستطيع وضع يدها على مقدّرات الدولة العراقية في محافظة كبيرة مثل الموصل بعدد سكانها الذي يقارب الأربعة ملايين وفي مدينة الموصل وحدها الذي يصل عدد نفوسها إلى أكثر من مليون وسبعمائة ألف نسمة، لا بدّ أن تكون كبيرة جداً، لكن حقيقة الأمر إن تعداد قوات داعش في العراق لا يتجاوز الـ 5 آلاف مقاتل، وقد تأسست في نيسان (ابريل) 2013 باتحاد تنظيمات “القاعدة في بلاد الرافدين” و”جبهة النصرة” السورية التي تضم نحو 7-8 آلاف مقاتل، وإن كان العدد قليلاً والرقم ضئيلاً قياساً للجيش العراقي، لكنها وجدت أرضاً صالحة في المناطق السنّية، بسبب الشعور بالتهميش والعزل، بحيث شكّلت هذه المناطق تربة خصبة لتفقيس بيضها وعلى الأقل سهّلت عملياً مهمتها أو لم تتعرّض لها في البداية، خصوصاً لمحاولتها التصدّي لحكومة المالكي، وبذلك وجدت فيها بعض الأوساط أداة لتحقيق أهدافها المشتركة.
6- إن وجود بيئة حاضنة لتنظيمات داعش، لم يكن وليد اللحظة، بل سبقه بأشهر وربّما سنوات لوجود مسلح لتنظيمات القاعدة التي تمكّنت الصحوات من إنزال ضربات موجعة بها، إضافة إلى أنها كانت على مدى عام ونيّف تتقاضى “أتاوات” من المواطنين في الموصل، وتفرض نفوذها السياسي والمعنوي على الناس دون أية مساءلة من جانب القوات المحلية أو الاتحادية، التي كانت تتحاشى الاصطدام بها، خصوصاً وأن مناطق كثيرة كانت تخضع لسيطرتها، ولاسيّما في الليل حيث تقوم هي ببسط نفوذها واستعراض قوتها أمام المجتمع الموصلي.
وقد وجدت داعش فرصة تاريخية لها لاختراق مفصل مهم من مفاصل الدولة العراقية، ولاسيّما باحتلال ثاني أكبر مدينة بعد العاصمة بغداد، فالموصل حاضرة الشمال العراقي لما تمتلكه من غنى وعمق واتساع مدني وتجاري وتاريخي، والأغلبية الساحقة من سكانها هم من العرب وفيها أقليات كردية ازدادت خلال السنوات الأخيرة، كما أن أكثرية السكان من المسلمين، لكن فيها قرى وبلدات مسيحية بالكامل مثل القوش وتلكيف وباطنايا وبعض مناطق سهل نينوى، ويطالب بعض قياداتهم بحكم ذاتي أو إقليم حسبما يتردّد أحياناً في الإعلام.
في ظل الأجواء التي وفرتها البيئة الحاضنة حصل نوع من “التخادم” بين داعش وقوى مخلوعة من أنصار النظام السابق وبعض ضباط الحرس الجمهوري، وتواطؤ من جانب بعض الضباط في الجيش الاتحادي وقسم من هؤلاء من الحرس الجمهوري سابقاً، الذين فضلوا الانسحاب، بل إنهم انسحبوا باتفاق ليس بعيداً عن إشارات مسبقة، مع موقف “متفرج” من جانب الإدارة الكردية.
7- “داعش” وجدت فرصة لها لتحالفات محلية مع قوى سياسية، والقوى السياسية المخلوعة وجدت فرصة لها استخدام داعش ضد حكومة المالكي، وهكذا كلُّ طرف أراد استخدام الطرف الآخر، في إطار نظرة قصيرة الأمد، لاسيّما إزاء المخاطر المستقبلية، وخصوصاً ما قد يصيب كيانية الدولة العراقية والوحدة الوطنية من تصدّعات محتملة.
ومثل هذا الخطأ الفادح والجسيم وقعت به بعض أطراف المعارضة العراقية سابقاً، ضد صدام حسين التي اعتقدت إن الهدف المشترك بينها وبين القوى الدولية هو الإطاحة بالنظام، ولا يهمّ إن تعاونت مع الأمريكان أو غيرهم، طالما هناك مصلحة مشتركة ، ويمكن حلّ موضوع التخلّص من الأمريكان والمحتلين لاحقاً، وهو ما دفع العراق ثمنه باهظاً ولا يزال منذ 11 عاماً ونيّف، وهو الأمر الخاطئ الذي يتكرّر بخصوص التعاون مع داعش أو غضّ النظر عن مخاطرها، بتبرير الوقوف ضد حكومة بغداد ذات التوجهات الشيعية.
لقد كانت التعويلية ولا تزال خطراً على القوى السياسية ذاتها التي تفقد استقلاليتها وهويتها حين تغامر بالتعاون مع القوى الخارجية للوصول إلى أهدافها، إذ أن مثل هذا الخطر يمتد إلى الدولة وكيانيتها، ذلك أن القوى الدولية لها مصالحها وأهدافها، وهي ليست مشروعاً خيرياً، حسب الطلب، وإنما لها أهدافها المعادية لتطلعات بلداننا وشعوبنا والمتعارضة معها.
خامساً- داعش وكردستان والدولة الكردية المنشودة
بعد احتلال الموصل من جانب قوات داعش وترك الجنود والضباط أسلحتهم ووحداتهم، حصل نوع من الارتباك في كركوك أيضاً، وكان احتمال حصول فراغ عسكري وارد جداً، بسبب حالة تردّي المعنويات، وهنا حاولت قوات إقليم كردستان (البيشمركة) إملاء الفراغ بشأن كركوك، وذلك في إطار المناطق المتنازع عليها، وقد وجدت الفرصة مناسبة لمدّ نفوذ الإقليم إلى هذه المناطق المُختلف عليها، وهو وإن بدا حالياً أمرٌ مسكوتٌ عنه، لكن الصراع سيأتي بشأنه لاحقاً لا محال سواء بين الحكومة والإقليم، أو بين داعش والإقليم.
وقد ظلّت كركوك مصدر نزاع داخلي وإقليمي ودولي منذ عقود من السنين، خصوصاً وأنها تمثل خليطاً فسيفسائياً وتنوّعاً موزائيكياً من الأديان والطوائف والقوميات، ففيها المسلمون وهم أغلبية السكان سنّة في أكثريتهم وشيعة أيضاً، وفيها المسيحيون، ويقطنها العرب والتركمان والكرد، وتعرّضت خلال نظام البعث السابق، إلى محاولة لتغيير التركيب السكاني والديموغرافي سواء بتهجير الآلاف من أبنائها من الكرد والتركمان، وتشجيع العرب بالانتقال إليها وإعطائهم أفضليات في العمل والوظيفة والسكن وغير ذلك من الامتيازات.
والأكثر من ذلك، فقد أصدر مجلس قيادة الثورة السابق قراراً في 6 أيلول (سبتمبر) 2001 يقضي بإمكانية تغيير القومية إلى العربية في حالة حصول خطأ في تسجيل هوّية الأحوال المدنية، ولم يعط مثل هذا الحق للكرد أو للتركمان، الأمر الذي يعكس مدى التمييز ومحاولة تغيير الطابع القومي للمدينة بشكل خاص والمحافظة بشكل عام (7).
وقد ظلّت كركوك مصدر نزاع بين الحركة الكردية والحكومات المركزية، فلم يتم الاتفاق عليها في إطار بيان 11 آذار (مارس) العام 1970 بين الحكومة العراقية برئاسة أحمد حسن البكر والثورة الكردية بقيادة الملاّ مصطفى البارزاني، وتم تأجيل البت بمستقبلها، وعندما شرّع قانون الحكم الذاتي العام 1974الذي كان واحداً من أسباب اندلاع القتال بين الطرفين، ظلّت كركوك على وضعها (8).
وحتى عندما تم التفاوض بين قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني وحزب البعث العام 1984 بعد أحداث بشتاشان، لم يتم “التحرش” بما كان عليه الأمر بشأن كركوك، وهو الأمر الذي استمر بعد الانتفاضة العام 1991 في الشمال (كردستان) وفي الجنوب، حين تم التفاوض بين قيادة الجهة الكردستانية، ولاسيّما بين مسعود البارزاني وجلال الطالباني، وبين الحكومة العراقية، حيث ظلّت كركوك خارج دائرة الاتفاق، وإن كان الكرد لا يتركون مناسبة الآّ وذكّروا بكرديتها، في حين يذهب التركمان إلى تأكيد تركمانيتها، وبفعل الوجود العربي فيهاـ فإن عرب كركوك، سواء الأصليين أو الذين تم إسكانهم بعد العام 1970 يميلون إلى بقاء كركوك في إطار الحكومة الاتحادية (المركزية) وهو الأمر الذي ظلّ مصدر خلاف عشية إقرار قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية وفيما بعد في الدستور.
لقد أعلن رئيس الإقليم مسعود البارزاني أن المادة 140 التي تم ترحيلها من المادة 58 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية لعام 2004، من الدستور المتعلقة بمصير كركوك، قد انتهت بعد انتظار طويل من الكرد، ولا بدّ من استفتاء حول مستقبل كركوك التي يعتبرها الكرد “قدس الأقداس” وهو ما سبق أن جاء ذلك على لسان رئيس الجمهورية جلال الطالباني الغائب منذ سنتين عن المشهد السياسي لأسباب صحية.
وتقضي المادة 140 بتطبيع الأوضاع وإعادة المهجرين وتعويضهم وإجراء استفتاء سكاني، لكن ذلك لم يحصل، بل ازداد الشعور بالغبن لدى جميع الفرقاء واتسعت الهوّة بينهم، ولعلّ ما حصل سيزيد الطين بلّة ويؤجج المشاعر القومية إلى حدود كبيرة، وقد عبّر عن ذلك التركمان برفضهم الاستفتاء في هذه الظروف وفعل ذلك عرب كركوك أيضاً، في حين كان كرد كركوك والمناطق الأخرى قد أعربوا عن تأييدهم لهذه الخطوة وللاستفتاء في إطار حق تقرير المصير وصولاً لإعلان الدولة الكردية المنشودة (9)!
سادساً – من هي داعش؟
لقد أثارت عملية احتلال الموصل أسئلة كبرى سياسية وعسكرية وأمنية، فمن تكون داعش بحيث تستطيع احتلال مناطق واسعة من العراق، وكيف نشأت وإلى ماذا تنتمي ومن هم حلفاؤها وما هو سر حركتها ومن أين تمويلها؟ ومثل هذه الأسئلة ازدادت راهنية بخصوص الدولة الإسلامية وخليفتها أبو بكر البغدادي.
تأسس تنظيم داعش في نيسان (ابريل) العام 2013 وذلك بعد اتحاد ” دولة العراق الإسلامية” التابع لتنظيم القاعدة، الذي اعتبر فرعاً مستقلاً منذ تشرين الأول (اكتوبر) العام 2006، وتنظيم المجموعة الإسلامية في سورية المعروف باسم ” جبهة النصرة”. ولم يحصل الاندماج دون قتال وضحايا، فقد اندلعت الحرب بين الطرفين وخصوصاً في مطلع العام الجاري، إلى أن تم الاتفاق على توحيد التنظيمين.
وكان من أولى قرارات داعش هي التحلّل من الالتزامات السابقة مع تنظيم القاعدة، ولاسيّما من قيادة أيمن الظواهري الذي كان رأيه اقتصار عمل القاعدة ودولة العراق الإسلامية على العراق وحده دون سواه، في حين تكون ساحة جبهة النصرة هي سوريا.
أما الامتداد الأبعد لتنظيم داعش، فقد بدأ منذ وقت مبكر يوم حاول أبو مصعب الزرقاوي الذي قتل في العراق على أيدي الأمريكان بتعاون إيراني – عراقي- أمريكي في حزيران (يونيو) العام 2006، الاستقلال بالتنظيم والعمل على بناء خاص باسم ” جماعة التوحيد والجهاد” منذ العام 2004، وذلك قبل مبايعة أبو مصعب الزرقاوي زعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن الذي قتل في 2 أيار (مايو) 2011، ليصبح اسم التنظيم ” القاعدة في بلاد الرافدين”.
ولكن ماذا حلّ بالتنظيم بعد اغتيال أبو مصعب الزرقاوي؟ لقد تم معالجة أمر القيادة والفراغ الذي تركه الزرقاوي بعد فترة قصيرة باختيار ” أبو حمزة المهاجر” وحين أعلن قيام ” دولة العراق الإسلامية” وقع الاختيار على أبو عمر البغدادي الذي قتلته القوات الأمريكية في العام 2010، كما قتلت مساعده أبو حمزة المهاجر، ولكن التنظيم استمر في العمل واختير أبو بكر البغدادي زعيماً له.
إن هيمنة داعش على الموصل الحدباء، وهي ثاني مدينة في العراق بعد بغداد وتكنّى بـ “أم الربيعين” يضع علامات استفهام كبيرة حول الصراع الدائر وأفقه وتواطؤ بعض القياديين من العسكريين أو السياسيين لتسهيل مهمة هؤلاء، وقد كان تأثير ذلك كبيراً على معنويات أفراد القوات المسلحة في مناطق أخرى، ناهيكم من انعكاساته على الجانب الشعبي إضافة إلى تدهور مكانة الدولة العراقية على المستوى الاقليمي والدولي، فعلى مدى السنوات الأحد عشر ونيّف الماضية، وخصوصاً منذ إجلاء القوات الأمريكية من العراق، في أواخر العام 2011، والدولة العراقية تواجه ممانعات ليست بالقليلة، مثلما كانت تواجه عدم قبول في السابق من دول الجوار العربي بشكل خاص والبلدان العربية بشكل عام، ويعود ذلك للانقسام السياسي الحاد وضعف الهوّية العراقية، وجوانب أخرى لها علاقة بالموقف المذهبي والطائفي، ناهيكم عن علاقة بغداد بطهران التي لا تلقى ارتياحاً عربياً، وخصوصاً بعد ما حصل في سوريا وتوجه دول الخليج والولايات المتحدة للاطاحة بالنظام السوري، بعد اندلاع المواجهة السلمية المدنية التي تحوّلت إلى صراعات مسلحة هي أقرب إلى مصارعة على الطريقة الرومانية التي لا تنتهي إلا بموت أحد الطرفين ووصول الطرف الآخر إلى درجة من الإعياء والإنهاك أقرب إلى الموت.
وحسبما تشير بعض المعلومات إلى أن بعض القياديين في القوات الرسمية سهّل المهمة للقوات الداعشية من خارجها للسيطرة على مواقع عسكرية مهمة، وهو ما دعا رئيس الوزراء نوري المالكي لاتهام البعض بالخيانة، بل وإقدامه على إحالة بعضهم للقضاء لمحاكمتهم، فضلاً عن إحالة الكثير منهم على التقاعد، وهو أمر يستحق التوقف عنده جدياً لإعادة تقييم عمل الجيش والقوات المسلحة، لاسيّما من حيث مهنيتها وحرفيتها وولاءها للوطن، خارج نطاق الانحيازات الحزبية أو العقائدية أو المذهبية أو الإثنية أو غيرها، لأن ذلك سيؤثر على توجهات الدولة وكيانيتها.
إن وصول الطبقة السياسية في غالبيتها باستثناء دولة القانون إلى قناعات من أن استمرار الوضع كما هو ودون تغيير سيؤدي إلى تفتّت الدولة، وقد يصل إلى الحرب الأهلية التي سيكون التقسيم بعدها حلاًّ مُرضياً، حتى وإن كان سيئاً، لكنه سيتم تبريره بـ إيقاف نزيف الدم ووقف القتال، كما أن دولة القانون هي الأخرى تنادي بالتغيير، لكن رؤيتها تتركز على إنهاء شكل المحاصصة القديم، والإتيان بحكومة أغلبية سياسية، وهو ما يعتبره غالبية القوى المشاركة في العملية السياسية تجاوزاً على مبدأ الشراكة، الأمر الذي يثير مخاوف القوى الأخرى الذي تعتبره زيادة في عملية التهميش ومبرّراً جديداً للاقصاء والعزل، فضلاً عن ذلك فإن العديد من القوى العربية التي لها علاقة بالملف العراقي والمناوئة لحكومة المالكي تعتبره غير مُطمئِن عربياً، وخصوصاً من جانب دول الخليج، إضافة إلى الولايات المتحدة، وما فتئ هؤلاء يطالبون بغداد بتشكيل حكومة موسعة وجامعة، وهو ما ذهب إليه وزير الخارجية الأمريكي جون كيري لدى زيارته لبغداد .
تمتلك داعش قدرة جبائية عالية من السكان المدنيين، وتعتبر أغنى منظمة ارهابية في العالم، وتقدّر ملكيتها بحوالي ملياري دولار، حيث استولت على 430 مليون دولار من المصارف الموصلية وحدها كما حصلت على نحو 140 عربة وعدد من السيارات المصفّحة ونحو 4 آلاف صاروخ وأسلحة خفيفة ومتوسطة وعتاد بكميات كبيرة. وكانت داعش قد تأخّرت لنحو 24 ساعة عند انسحابها من حلب وفتح ممر آمن لها وللمدنيين، نظراً للخلاف حول الأموال التي بحوزتها، وتلك التي استولت عليها من أسواق حلب من النقود أو الذهب أو غيرها، وقد اندلع قتال بين القوات النقشبندية وبين قوات داعش بعد احتلال الموصل بأيام، وأساسه هو وضع اليد على الأموال والاستحواذ على مناطق النفوذ.
وخلال نحو عام كانت داعش تتحرك في الموصل وفي غيرها من المناطق الغربية لتقوم بجباية الأموال من أصحاب المهن والمصالح، وكان السكان يضطرون لدفع الأتاوات إليها، خصوصاً بغياب مؤسسة الدولة ورقابتها ومساءلتها.
سابعاً- كركوك مرّة أخرى ووفاة المادة 140
إن المشكلة ستزداد تعقيداً بخصوص كركوك التي وضع الكرد اليد عليها بعد انسحاب القوات الاتحادية، وسواء تم القضاء على داعش أو استمرت لحين، لكنه سيكون عسيراً عودة القديم إلى قدمه، فهذه مسألة صعبة للغاية إن لم تكن مستعصية، وقد تحتاج إلى عملية جراحية، لكن هذه الأخيرة قد لا تكون ناجحة، فضلاً عن ذلك غير مقبولة داخلياً وإقليمياً ودولياً، أي اللجوء إلى الحل العسكري، الأمر الذي سيضع البلاد كلّها في أتون حرب طاحنة أو حالة من التشتت والتفتت التدريجي.
وقد دعا رئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني إلى إعلان وفاة المادة 140 التي كانت معطّلة، وأن الكرد عملوا على تطبيقها بطريقهم، وخصوصاً بعد ما حصل للقوات الاتحادية في الموصل ومناطق أخرى متاخمة، كما طالب الأمم المتحدة بالمساعدة في إجراء الاستفتاء، لتقرير مصير كركوك بالانضمام إلى إقليم كردستان، وهو أمر سيثير خلافات حادة وقد يؤدي إلى احترابات ربما لا يمكن وقفها بمضايقات معينّة سياسية واقتصادية.
لقد عرضنا وضع محافظة كركوك ومحاولة تغيير الطابع الديموغرافي لها وتغيير معالمها السسيوثقافية- القومية، وبتقديري إن ما تحتاج إليه كركوك هو حوار مجتمعي سياسي ومدني وديني بين التنوّعات الثقافية الإثنية والدينية واللغوية والسلالية، وصولاً إلى ما هو مشترك لتقرير مصيرها، وهذا الحوار ينبغي أن يشمل الجميع في ظل تقديم المزيد من الخدمات لها ولأهلها وتطبيع الأوضاع فيها وتعويض المتضررين في السابق والحاضر، وعدم الاعتراف بالتغييرات الديموغرافية التي قام بها النظام السابق أو التي حصلت لاحقاً، تمهيداً لإجراء استفتاء سكاني في ظل ظروف سلمية وطبيعية (10).
ويمكن أن تساعد على ذلك الأمم المتحدة وبما يضمن احترام إرادة السكان الطوعية والسلمية وبما يحفظ حقوق الإنسان ولا يؤدي إلى انتهاكات تحت أي سبب كان وسيكون التفاهم بشأن مستقبل كركوك مسألة ضرورية، إذْ إن استخدام القوة أو اللجوء إلى العنف من أي طرف كان سيؤدي إلى نتائج كارثية على الجميع، ومن حق سكان كركوك الاختيار سواء بالانضمام إلى إقليم كردستان مثلما يطالب الكرد أو البقاء كما هي متعايشة في إطار تكوينات متنوعة على أساس التفاهم والتعاون والتعاضد، أو التحوّل إلى إقليم مستقل يحتفظ بعلاقات متساوية ومتكاملة مع جميع الأطراف. والمهم ألاّ تنزف قطرة دم واحدة وألاّ تزهق روح إنسان واحد والاّ يتم التجاوز على حقوق أية جماعة بشرية، حتى وإن كانت ممثلة بشخص واحد.
وحتى لو تم استعادة الموصل واستعادة صلاح الدين وكذلك الأنبار، وخصوصاً الفلوجة المستعصية منذ بضعة أشهر، وديالى التي لا تزال منطقة ساخنة بامتياز، وحزام بغداد الذي يشكّل منطقة اختراق للعاصمة، فإن استعادة وحدة الدولة العراقية سيبدو أمراً في غاية الصعوبة، بعد تعمّق انعدام الثقة ونهج التربص واستثمار الفرص للايقاع كلٌّ بالآخر، حتى ما بين الحلفاء، فما بالك بالفرقاء أو ” الشركاء” رغماً عنهم، وقد عادت نغمة تقسيم العراق إلى ثلاث “دويلات” سنية وشيعية وكردية، حسب وصفة جو بايدن إلى طاولات البحث ووسائل الاعلام.
وقد طرح مسعود البارزاني رئيس الإقليم على برلمان إقليم كردستان، التهيئة للاستفتاء على مبدأ حق تقرير المصير، وذلك باستكمال المستلزمات الضرورية لذلك، مؤكداً على تمسكه بكركوك والمناطق المتنازع عليها، معلناً أن الدولة العراقية بكيانيتها السابقة أصبحت من الماضي، وان حقائق جديدة تولّدت ما بعد 10 حزيران (يونيو) 2014، رادّاً على رئيس الوزراء نوري المالكي الذي اعتبر أن هذه المناطق “عراقية” وأن حق تقرير المصير لا أساس له في الدستور الذي وافق عليه الكرد، وأن المادة 140 لا تزال قائمة، وأنه لا بدّ من إعادة الوضع إلى ما كان عليه بعد هجمة داعش.
إن مستقبل الدولة العراقية وقضايا النفط وكركوك والدولة الكردية لم تعد قضايا داخلية صرفة، بقدر ما هو قضايا إقليمية تخص إيران وتركيا والخليج والولايات المتحدة وليس بعيداً عن ذلك ” إسرائيل” المستفيدة الأولى من أي تفتيت لأي بلد عربي، فما بالك حيث تذبل الدولة العراقية وتتشظى، فإنها ستكون في غاية السعادة، لما يملكه العراق من إمكانات سياسية واقتصادية وعسكرية وحضارية آنية ومستقبلية.
إن الاحتدام الطائفي ازداد سعاراً سواءً باحتلال داعش للموصل وتهديداتها ووعيدها بالانتقام والثأر أو برد الفعل إزاء ما حصل، خصوصاً بانخراط عدد هائل من المتطوعين للدفاع عن الوضع القائم، كجزء من واجب “شرعي” كما جرى تبريره، حين أصدرت مرجعية النجف الفتوى الخاصة ” بالجهاد الكفائي”، التي دعت فيها إلى حمل السلاح دفاعاً عن الممتلكات والأرواح ضد الارهابيين والمتطرفين.
ولعلّ تحوّل العراق إلى غابة من السلاح قد يؤدي إلى مواجهات في إطار الشحن الطائفي حتى وإن لم يرغب بها بعض أطراف العملية السياسية، لكن الاندفاعات ليس من السهل لجمها، كما حصل إبان الفتنة الطائفية والاحتراب المذهبي في العام 2006، وذلك بعد تفجير مرقدي الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء، وهناك فصائل إسلامية مسلّحة استعرضت قوتها في العديد من المدن العراقية مثل كتائب حزب الله التي قامت بدور بارز في مقاومة الأمريكان منذ العام 2007 (11)، وعصائب أهل الحق ولواء بدر وبقايا جيش المهدي وقوات دينية أخرى حظيت بتأييد العديد من رجال الدين.
ولعلّ ذلك يطرح من جديد دور الدولة وحقها في احتكار السلاح، وهو الأمر الذي لن يتم دون أن تمارس كامل صلاحياتها وتبسط نفوذها على الجميع وتقوم بوظيفتيها الأساسيتين وهما حماية أرواح وممتلكات الناس، وحماية النظام والأمن العام.
ثامناً- صراع دولي وتقاطع المصالح
لعلّ عوامل الانقسام والتشظي التي كانت قائمة في المجتمع العراقي اتسعت على نحو شديد منذ الاحتلال، بفعل ضعف الدولة وتدهور العلاقة بين السلطة الاتحادية وسلطة الإقليم وسلطات المحافظات، إضافة إلى تدهور علاقة الأطراف السياسية بعضها بالبعض الآخر، ومثل هذا الأمر يتضاعف عشرات المرّات في بعض المناطق التي تشكل بيئة حاضنة، خصوصاً في غرب العراق وشماله، بالضد من توجّهات الحكومة وقيادتها، ولاسيّما لرئيس الوزراء بسبب الشعور بالتهميش والغبن والحيف، فالصراع أصبح يشمل مساحة جغرافية تتخطى الحدود وهو يمتد من الرقة إلى الموصل وهو صراع دولي بامتياز، وخصوصاً ما يشتبك به من قوى ودول ومصالح.
فلم تعد المشكلة السورية، سورية فحسب، مثلما هي المسألة العراقية، بل إن كل مفصل من مفاصلها أصبح إقليماً دولياً بنفوذ تركيا ودول الخليج من جهة وإيران من جهة أخرى، إضافة إلى الوجود الأمريكي كلاعب أساسي دون نسيان لاعب موجود في المنطقة وهو “إسرائيل” التي تغذي جميع عوامل الانقسام في المنطقة، ولا أدل على ذلك ما ذهب إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من تأييد قيام الدولة الكردية وإبداء آيات التقدير للشعب الكردي، الذي لا أظن أنه حريص عليه وعلى مبدأ حق تقرير المصير الذي كان عليه أن يعترف به للشعب العربي الفلسطيني الذي يغتصب أراضيه ولا يعترف له بحق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة، بل يتنكر لجميع قرارات الأمم المتحدة وللمجتمع الدولي الذي يقف مع الشعب الفلسطيني وحقوقه العادلة والمشروعة.
إن النفاق الإسرائيلي بشأن “الدولة الكردية”، وهي حق مشروع للكرد مثله مثل سائر الأمم والشعوب، وليس منّة أو هدية أو هبة من أحد، بل إن ذلك مكفول في إطار مبدأ حق تقرير المصير الذي يتضمنه ميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي والشرعة الدولية لحقوق الإنسان، ولذلك فإن هدف إسرائيل من إعلان تأييدها لحقوق الشعب الكردي، إنما يستهدف بالدرجة الأساسية تفكيك عرى الصداقة التاريخية بين الشعبين العربي والكردي، وإضعاف لحمة التآخي العربي – الكردي (12) الذي كان شعاراً للحركة الوطنية العراقية منذ الخمسينات، وهو الأمر الذي يحتاج إلى إعادة تأسيسه وفقاً للظروف الجديدة وعلى أسس صحيحة وفي إطار الاحترام والاعتراف المتبادل بحق تقرير المصير والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة.
أما إسرائيل فإنها تستهدف إضعاف علاقة الكرد بعرب العراق اولاً وبالعرب عموماً، وذلك بتشجيع ما هو مختلف ومتعارض وطارئ على حساب المشترك والثابت والستراتيجي، وقد دفعت الحركة الكردية الثمن باهظاً تاريخياً، حين خذلتها القوى الدولية، ولاسيّما واشنطن وطهران، وهو ما عبّر عنه بمرارة الزعيم الكردي الكبير الملاّ مصطفى البارزاني وذلك في رسالته إلى هنري كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة، بعد اتفاقية 6 آذار (مارس) 1975 بين صدام حسين وشاه إيران، حين كان كيسنجر قد فرّق بين السياسة والأخلاق، الأمر الذي يعتبر أحد دروس الحركة الكردية التي لا ينبغي أن تُنسى.
لقد كشف إعلان دولة الخلافة الإسلامية والخلافات بين داعش وحلفائها الذين شكلوا غطاءً سياسياً هشاشة علاقة التخادم بينها وبين بعض القوى السياسية والدينية التي سرعان ما انفجرت، فداعش تريد من الجميع تقديم الولاء والطاعة لها ولا تقبل رأياً آخر، بل إنها أمرت بخمسين جلدة لمن لا يبايعها وكان ظهور أبو بكر البغدادي في الجامع النوري الكبير في الموصل وإلقاء خطبة الجمعة محاولة لإظهار قوة داعش وسطوتها، ولعلّ ذلك ما جعل واشنطن وطهران وموسكو والرياض وأنقرة والقاهرة وغيرها من العواصم تقف أمام خطر داعش ليس على العراق فحسب، بل على عموم دول المنطقة، بل على العالم أجمع.
وإذا كان هناك رغبة ومصلحة دولية وإقليمية في مكافحة الإرهاب والخوف من امتداداته لدول المنطقة والعالم، خصوصاً بانفجار الوضع العراقي، الأمر الذي قد يعود بالمسألة العراقية مرّة أخرى إلى طاولة التدويل، سواء بالدور الأمريكي أو الحضور التركي أو النفوذ المعنوي والمالي لبعض دول الخليج، ولاسيّما للمملكة العربية السعودية، إضافة إلى النفوذ الإيراني المتعدّد، حيث أكدت إيران على نحو واضح استعدادها للدفاع عن المراقد المقدسة، إضافة إلى فتح باب التطوّع، حيث انخرط فيه بضعة آلاف للدفاع عن العراق ضد داعش وأخواتها، وهو الأمر الذي يجعل واشنطن تقف حائرة أمام ظاهرة الإرهاب الدولي التي تشكل خطراً لا على العراق وحده، بل على عموم دول المنطقة، وعلى العالم كلّه بما فيه الولايات المتحدة.وكانت الرياض قد أدرجت منذ أسابيع داعش على قائمة الإرهاب الدولي.
لقد اعترفت العديد من الأوساط الغربية أنها أمام تيار تكفيري خطير وهو مدرّب ومجهّز وغني، لذلك فإنها لأول مرّة ترغب في التعاون والتنسيق بينها وبين أعداء أحياناً أو “أعدقاء” فيما يتعلق بستراتيجية مكافحة الإرهاب وخطر داعش بالتحديد، ولعلّ الدول المدعوة لمثل هذا التعاون هي إيران وتركيا والمملكة العربية السعودية وسوريا واليمن والكويت والإمارات ومصر وغيرها من دول المنطقة، بغض النظر عن خلافاتها السياسية، وليس بعيداً عن ذلك دور روسيا التي حذرت من الارهاب التكفيري الذي ضرب العراق بعد سوريا، وهو العدو الأول لموسكو، حيث جرّب الروس وصوله إلى الشيشان وجورجيا وإلى قلب موسكو، ولذلك فإن الظاهرة الدولية الجديدة قد تؤدي إلى تفاهمات على قضايا أخرى عنوانها “محاربة الارهاب”، وهو الأمر المطروح على واشنطن وحلف شمالي الأطلسي والاتحاد الأوروبي ودوله المؤثرة مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا.
وعلى الرغم من أن الخطوات الروسية- الإيرانية، لا تزال تصطدم بمواقف أمريكية – أطلسية، تلك التي تريد تنازلات داخلية عراقية للتنسيق الأمني لمكافحة الإرهاب، وبالتحديد إبعاد نوري المالكي من رئاسة الوزارة وتعزيز الحضور السني في المفاصل الأساسية للدولة، وإن كان ذلك قد يصل إليه محور إيران- روسيا، لكنهما يريدان ضمانات بخصوص وحدة العراق والقضاء على داعش وعدم الذهاب صوب التقسيم، ولعلّ المسألة الأولى لمثل هذه التفاهمات ستنعكس على تطويق داعش وعدم السماح لها بالتمدّد خوفاً من مفاجآت أمنية غير محسوبة.
وإذا كانت داعش وأخواتها ليست بعيدة عن أنظار واشنطن، سواء عندما كانت في القاعدة أو عند خروجها، فإنها ليست مضمونة بالكامل، خصوصاً بتسرّب بعض عناصرها وذهابهم بعيداً وخارج نطاق السيطرة، وهو ما حصل في السابق كثيراً، فأبو مصعب الزرقاوي الذي أريد أن يبقى في العراق، تمدّد إلى الخارج ونسب لنفسه أو قام بالفعل بتفجيرات الفنادق في عمّان وفي تفجير شرم الشيخ وهدّد حزب الله اللبناني، الأمر الذي دفع واشنطن وطهران إلى القلق الشديد، وقد جرت عملية تبادل معلومات استخبارية عبر بغداد، بين واشنطن وطهران، حتى جاءه الصاروخ مباشرة في كتفه ليضع حداً لتلك المرحلة.
تاسعاً- حذر واشنطن
إن واشنطن التي اضطرت إلى الانسحاب من العراق في أواخر العام 2011، اكتفت بعد اندلاع أزمة الموصل بتأكيدات عامة حول إن جميع الخيارات مفتوحة أمامها، وعلى الرغم من قلقها من خطورة استشراء الظاهرة الارهابية الجديدة، لكنها لا تزال متردّدة بشأن ارسال قوات أمريكية أو القيام بعمليات عسكرية على الأرض، فقد كلفتها الحرب نحو 4800 قتيل وما يزيد عن 26 ألف جريح وأكثر من تريليوني دولار أمريكي (13) ، ناهيكم عن نقمة الرأي العام الأمريكي والغربي بشكل عام، وعداء وكراهية من جانب شعوب المنطقة وهو ما يجعل الرئيس أوباما كثير التردّد والحساسية إزاء أية خطوة يخطوها للمشاركة في أية حرب في المنطقة، لا في العراق فحسب، بل إن موقفه في سوريا منذ العام 2011 ولحد الآن اتسم بهذا القدر من التردد والحذر، ناهيكم عن الأزمة المالية والاقتصادية التي ضربت الولايات المتحدة بالصميم. وكان كيري وزير خارجية واشنطن قد عاد إلى تخطئة شن الحرب على العراق العام 2003، مثلما فعل ذلك قبله الرئيس جورج دبليو بوش قبيل إنهاء ولايته.
وتعرف الأجهزة الأمريكية ماذا يعني إرسال قوات إلى المنطقة من تجربتها في لبنان والعراق وأفغانستان ولذلك اكتفت بإرسال 300 مستشاراً إلى العراق، وهي لا تزال تدرس خيارات أخرى، وذلك بسب بالخلافات الحادة والمستمرة طيلة العقدين ونيّف الماضيين، بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وبين من يؤيد إشعال الحروب وإرسال القوات واستخدام القوة الخشنة، وبين من يريد استخدام القوة الناعمة لتحقيق الأهداف الأمريكية، وهو الأمر الذي يشغل واشنطن منذ تورّطها في الحرب على العراق، وهكذا تراها تتقدم خطوة وتؤخر خطوتين فبعد ثلاث سنوات قررت دعم المعارضة السورية بنصف مليار دولار وكانت كثيرة التردد إزاء إرسال أسلحة متطورة لها كما تطالب، خوفاً من وقوعها بيد قوى إرهابية متطرفة غير صديقة لواشنطن، وعلى الرغم من انحسار دور المعارضة المسلحة، فإن وجود داعش جعل واشنطن تعيد الكثير من حساباتها بشأن الجماعات الإرهابية والمسلّحة عموماً.
واشنطن تريد تعاوناً مع طهران بشأن داعش وقد يكون ذلك واحداً من الترتيبات الجديدة للمنطقة، لا بخصوص العراق، بل بخصوص سوريا والملف النووي الإيراني والعلاقات الإيرانية- الخليجية وغيرها أيضاً، تلك التي تريدها إيران، كسلّة كاملة أو جزء من ترتيبات متواصلة، على الرغم من إن الأمر ليس سهلاً، لكنه جزء من الصراع في المنطقة التي اتجهت إلى التدويل، بما فيها الصراعات الداخلية.
إن الأزمة الحالية قد تطول وقد تكون استعصاءً، خصوصاً وأن عودة القديم إلى قدمه ستكون صعبة وقد تحتاج إلى عملية جراحية (أي حل عسكري) لكنها غير متوفرة، سواء بالنسبة لكركوك أو غيرها أو غير مقبولة، وإذا كانت داعش وأخواتها لا تستطيع تحقيق كامل أهدافها للإطاحة بالحكومة العراقية وإقامة الدولة الإسلامية وإقليم “القاعدة” فيها بغداد، فإنها قد تكتفي للمطالبة “بالحقوق” لسكان المناطق التي تستولي عليها وتعني بها على المدى المنظور ” فيدارلية” أو فيدراليات للموصل وللأنبار وصلاح الدين وديالى وغيرها ، أما القوى الحليفة لداعش فهي تعمل على الإطاحة بالمالكي، على أمل قيام تحالف أوسع يشركها في الترتيبات السياسية الجديدة، لكن إعلان الدولة الإسلامية وتولية أبو بكر البغدادي خليفة لها يعتبر من التطورات السياسية الجديدة، خصوصاً بإلغاء الحدود التي فرضتها اتفاقية سايكس- بيكو المشتركة العام 1916 بين بريطانيا وفرنسا، والتي لها دلالة كبيرة.
إن الكيانية التي تريدها داعش هي جزء من الخيال الأوروبي والغربي السايكس بيكوي، بتجاوز سايكس بيكو، نظرياً وإحلال سايكس بيكو رقم (2) محلها وذلك بتشطير ما بقي من الكيانات العربية، وفي واقعها ستكون أقرب إلى دويلات، خصوصاً بتكوين ما يسمى بإقليم الأنبار الذي يضم دير الزور والرقة (نواة الدولة الإسلامية). وكان برنارد لويس هو من رسم خارطة المنطقة بتقسيمها عمودياً وأفقياً، إثنياً ودينياً وطائفياً ولغوياً وجغرافيا إلى 41 دويلة، ولعلّ كيسنجر هو من قال: علينا إقامة إمارة وراء كل بئر نفط.
الهوامش
1 -يشيد عزت الدوري بـ ” شيوخ العشائر” وما يصفها بـ ” جيوش وفصائل الثورة” من رجال الطريقة النقشبندية ومقاتلي الجيش الوطني ومقاتلي القيادة العليا للجهاد والتحرير ومقاتلي الجيش الإسلامي ورجال كتائب ثورة العشرين- ومقاتلي جيش المجاهدين وبعض مجاميع أنصار السنة.. وفي طليعة هؤلاء جميعاً أبطال وفرسان القاعدة والدولة الإسلامية، موقع قناة العربية- 13 تموز- 2014 ، نقلاً عن شبكة CNN.
2 – مصطفى بسيوني، داعش والخلافة الإسلامية، صحيفة السفير اللبنانية، 3/7/2014.
3- قرار الحاكم المدني الأميركي “بول بريمر” حل القوات المسلحة العراقية وكافة الدوائر المرتبطة بها في 16/5/2003 وفق القرار رقم (2) الصادر من سلطة الائتلاف المؤقتة.
4- بعد انتهاء حرب الخليج الثانية عام 1991 فرضت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا حظراً جوياً داخل العراق، واستندت هذه الدول إلى القرار رقم 688 والصادر عن مجلس الأمن يوم الخامس من ابريل/نيسان 1991، مع أنه لا ينص على فرض الحظر الجوي.
5- في يوم 26/9/2007 أقر مجلس الشيوخ الأميركي خطة غير ملزمة لتقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم وقد صوت للقرار 75 شيخاً من أصل مائة، وصوت ضده 23، وكان السيناتور الديمقراطي جوزيف بايدن رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، قد قاد الحملة داخل مجلس الشيوخ، وفي وسائل الإعلام الأميركية، وفي اتصالات قام بها مع الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي لتمرير مشروع الكونفدرالية الضعيفة في العراق.
6- كشف إدوارد سنودن، المتعاقد السابق مع وكالة الأمن القومي الأميركية، أن الأخيرة وبالتعاون مع نظيرتها البريطانية “M16″ و”معهد الاستخبارات والمهمات الخاصة” الموساد مهدت لظهور تنظيم دولة العراق والشام ” داعش” ونشر موقع ” ذي إنترسيبت” The Intercept، تسريبات عن سنودن تؤكد تعاون أجهزة مخابرات ثلاث دول ” الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل” لخلق تنظيم إرهابي قادر على استقطاب المتطرفين من جميع أنحاء العالم في مكان واحد في عملية يرمز لها بـ ” عش الدبابير”. نقلاً عن موقع “العراق نت”.
7- انظر كتابنا – من هو العراقي، دار الكنوز الأدبية، بيرو، 2002 (نص قرار مجلس بقيادة الثورة).
8 – انظر: كتابنا- عاصفة على بلاد الشمس، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1994 (المبحث الخاص بالقضية الكردية).
9- انظر: كتابنا- العراق: الدستور والدولة- من الاحتلال إلى الاحتلال، دار المحروسة، القاهرة، 2005 وكذلك كراسة الاهرام الاستراتيجي، الدستور العراقي المؤقت: الهياكل السياسية والحقوق الفردية، القاهرة، 2004.
10- انظر: عبد الحسين شعبان – العراق: الدستور والدولة، مصدر سابق.
11- انظر: علي عبد الأمير علي – المقاومة الإسلامية كتائب حزب الله، مركز الهدف، بغداد، 2010.
12- أعرب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن دعمه لقيام دولة كردية، متبنياً موقفاً بدا مخالفاً لما تحبّذه الولايات المتحدة بابقاء العراق موحّداً. وذكرت وكالة فرانس بريس أن نتنياهو قال في معهد (أي.إن، إس.إس INSS) البحثي التابع لجامعة تل أبيب أن هناك انهياراً في العراق وغيره من مناطق الشرق الأوسط التي ترزح تحت صراعات بين السنّة والشيعة وأضاف ” علينا .. أن ندعم التطلّعات الكردية من أجل الاستقلال” وتابع نتنياهو أن الأكراد “شعب مناضل أثبت التزامه السياسي واعتداله السياسي ويستحق الاستقلال السياسي” انظر: فرانس بريس 29 حزيران /يونيو 2014.
13- انظر: جوزيف ستيغليتز وليندا بيلميز، حرب الثلاث تريليونات، ترجمة سامي الكعكي، دار الكتاب العربي، بيروت، 2009.
مجلة حمورابي، العدد 10