دراسة لـ«مركز بحوث السياسات»: أرقام مظلمة للمستقبل السوري!
يحقق الجيش السوري وقواه الرديفة تقدماً واسعاً في مناطق درعا وحلب واللاذقية، بما يسمح للقيادة السورية بالشعور بالراحة النسبية مقارنة بالأعوام التي سبقت، وبما ينعكس على طبيعة أدائها السياسي والتفاوضي.
لكن ما يقاس على الميدان لا ينطبق بأي شكل من الأشكال على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي يحفر ترديها في عمق المستقبل السوري شرخاً ليس معلوماً بعد كيف يمكن ردمه، لا سيما أن غالبية المسؤولين السوريين، الذين تحدثت إليهم «السفير»، يقرون بأن فرص جذب رأس المال الخارجي، بما فيه المتمركز في دول الحلفاء، لن تكون ممكنة قبل استقرار الوضع الميداني والسياسي معاً، كما لن يكون ممكناً وقف تدهور العملة التدريجي في ظل غياب أية موارد للدولة لاجتذاب العملة الصعبة للخزينة، من دون الإشارة إلى حجم الفساد الذي لم يظهر في صورة مماثلة خلال عقود تاريخ سوريا.
ووفقا لعمل أنجزه «المركز السوري لبحوث السياسات»، بدعم من المكتب القطري لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في سوريا عن العام 2015، تتجلى هذه الصور بالأرقام.
ووفقا لملخص الدراسة التي أعدها المركز وحصلت «السفير» على نسخة منها، فقد «ازداد تشظي الاقتصاد السوري، في العام 2015، عما كان عليه في الأعوام السابقة، جراء هيمنة قوى التسلط وقيامها ببناء كيانات اقتصادية مستقلة خاصة بكل منها، وتحويل الموارد لخدمة مصالحها وأهدافها، وتقديم الحوافز لأتباعها لضمان ولائهم، على حساب احتياجات الناس وتطلعاتهم».
ويقدر المركز «حجم الخسائر الاقتصادية، منذ بداية النزاع حتى نهاية العام 2015، بنحو 254.7 مليار دولار أميركي. وتتضمن هذه الخسائر خسارة الناتج المحلي الإجمالي (64.1 في المئة)، وتضرر مخزون رأس المال (26.4 في المئة)، والإنفاق العسكري الإضافي للحكومة (5.7 في المئة)، والإنفاق العسكري للمجموعات المسلحة (2.3 في المئة)، والإنتاج غير الرسمي للنفط والغاز (1.5 في المئة). ويقدر مجموع الخسائر الاقتصادية بما يعادل 468 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2010 بالأسعار الثابتة».
كما يقدر حجم «خسارة الناتج المحلي الإجمالي منذ بداية الأزمة بمبلغ 163.3 مليار دولار أميركي، علماً أن 49.7 مليار دولار أميركي منها قد تكبدها الاقتصاد في عام 2015 وحده. كما يُقدر حجم الانكماش في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4.7 في المئة في العام 2015 مقارنة بالعام 2014، إذ بلغ الانكماش نسبة 7.9 في المئة في الربع الأول، و1.8 في المئة في الربع الثاني و6.2 في المئة في الربع الثالث، ونسبة 4.4 في المئة في الربع الرابع مقارنة بالأرباع المقابلة لها في العام 2014».
وأضاف: «هذا ينسجم بالطبع مع تراجع متوسط إنفاق الأسرة إلى مستوى غير مسبوق، عاكساً المعاناة الشديدة للأسر السورية، في جميع أنحاء البلاد. فقد انكمش الاستهلاك الخاص خلال عام 2015 بنسبة 0.7 في المئة في الربع الأول، و0.9 في المئة في الربع الثاني، و3.3 في المئة في الربع الثالث، و5.9 في المئة في الربع الرابع، مقارنة بالأرباع المقابلة لها في عام 2014»، وتوافق هذا مع «تراجع عجز الموازنة من 41.2 في المئة في العام 2014 إلى 28.1 في المئة في 2015، ما يعكس إستراتيجية الحكومة في زيادة الإيرادات العامة من خلال تطبيق سياسة ترشيد الدعم التي خَفَّضت الدعم تخفيضاً كبيراً».
وهو ما قاد وفقا للدراسة «إلى تعميق الركود، لأنها رفعت من تكلفة الإنتاج المحلي وزادت الضغوط التضخمية، فأدت إلى تراجع قيمة العملة المحلية»، كما «انخفضت الصادرات في 2015 بنسبة 20.9 في المئة، و27.3 في المئة، و33.0 في المئة، و35.7 في المئة في الربع الأول والثاني والثالث والرابع على التوالي، مقارنة بالأرباع المقابلة من العام 2014. كما انكمشت الواردات بنسبة 29 في المئة مقارنة بما كانت عليه العام 2014، وذلك بسبب التراجع في الطلب الفعال، إضافة إلى الانخفاض الكبير في قيمة العملة المحلية. ومع ذلك بقي العجز التجاري ضخماً في 2015، إذ بلغ 27.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، الأمر الذي وضع الاقتصاد السوري في حالة من الانكشاف واستهلاك للاحتياطيات الأجنبية، وبالتالي تراكم عبء الديون الملقاة على كاهل الأجيال المقبلة»، وهي أجيال تواجه بالأساس تحديات كبيرة.
ويشير المركز إلى ارتفاع «معدل البطالة من 14.9 في المئة في 2011 إلى 52.9 في المئة نهاية العام 2015، فبلغ عدد العاطلين عن العمل 2.91 مليون شخص، منهم 2.7 مليون فقدوا عملهم خلال الأزمة، ما يعني فقدان مصدر رئيسي للدخل والتأثير في معيشة 13.8 مليون شخص. ومن المؤسف أن بعض فرص العمل نتجت من التوسّع في اقتصاديات العنف، التي يُقدر أنها وظفت حوالى 17 في المئة من السكان الناشطين اقتصادياً».
ويساق التأثير الاقتصادي ذاته على المستوى الاجتماعي، «حيث تراجع عدد السكان من 21.80 مليون شخص داخل البلاد في 2010 إلى 20.44 مليون شخص بحلول نهاية العام 2015»، و «اضطر نحو 45 في المئة من السكان إلى مغادرة أماكن سكنهم، إذ بلغ عدد الأشخاص النازحين داخلياً حوالي 6.36 مليون نسمة، علماً أن العديد منهم اضطر إلى النزوح مرات عديدة. ويقدر عدد اللاجئين الذين غادروا البلاد بحوالى 3.11 ملايين شخص، كما هاجر منها نحو 1.17 مليون».
أما معدل الفقر العام فيقدر «بنحو 85.2 في المئة في العام 2015 مقارنة بنحو 83.5 في المئة عام 2014. وبلغت نسبة من يعيشون في فقر شديد 69.3 في المئة من السكان، وهم غير قادرين على تأمين الحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية الغذائية وغير الغذائية. كما بات نحو 35 في المئة من السكان يعيشون في فقر مدقع».
ويواجه التعليم صعوبات هائلة، مع وصول نسبة الأطفال غير الملتحقين بالتعليم الأساسي من إجمالي عدد الأطفال في هذه الفئة العمرية، إلى 45.2 في المئة خلال العام الدراسي 2015-2016، الأمر الذي سيترك أثراً سلبياً على مستقبل البلاد. وقُدّرت الخسارة في سنوات المدرسة بحوالى 24.5 مليون سنة، وتقدر تكلفتها بحوالي 16.5 مليار دولار أميركي، التي تشكل خسارة في رأس المال البشري المرتبط بالتعليم.
وأصبحت سوريا نتيجة الأزمة ضمن قائمة مجموعة الدول ذات «التنمية البشرية المنخفضة»، وتراجع ترتيبها العالمي على الدليل من المركز 121 إلى المركز 173 من بين 187 بلداً.
وترى الدراسة أن سوريا باتت في ظل حالة «التشظي، الذي يعتبر حالة من التمزق الحاد في البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والذي تتسبب به مختلف قوى التسلط الداخلية والخارجية»، باتت بحاجة «إلى نموذج تنموي جديد يقوم على حق جميع السوريين في العيش الكريم، وهذا يستلزم مشاركة حقيقية وفعالة لجميع قوى المجتمع، من أجل تحقيق التحول التنموي المطلوب والقائم على رؤية مشتركة ومتفق عليها». ويتطلب النموذج التنموي الجديد، وفقا للباحثين، «عقداً اجتماعياً جديداً، مبنياً على العدالة واحترام وكرامة الإنسان وشخصيته القانونية، وبناء منظومة تفكك مقومات العنف، وتعزز التضامن الاجتماعي. إضافة إلى الحاجة لمؤسسات مساءلة، وشفافة، ومستقلة، وتضمينية تعمل على تحقيق الأولويات التنموية للسوريين بناء على رؤيتهم».
صحيفة السفير اللبنانية