دلالات الديمقراطية وحقوق الإنسان في فكر أمين الريحاني (عبد الحسين شعبان)

عبد الحسين شعبان(*)

أولاً: إشكاليٌّ، حَمَلَ الثقافتين!
أربع قضايا هي أقرب إلى المفاجآت استحضرتها لحظة كتابتي عن أمين الريحاني، المثقف والمفكر الحداثي، الإشكالي[1].
المفاجأة الأولى، زيارته إلى النجف في العام 1922 وهي المدينة التي ولدت فيها، أي مسقط رأسي، وكان الريحاني قد وصفها بأنها "أعظم مدينة في العالم" ليس بجمال بيوتها وزخارفها ولكن برجالها… ويتذكر النجفيون وربما بشيء من المفاخرة وصف الريحاني لمدينتهم، ويتناقلوه جيلاً بعد جيل، على الرغم من انشقاق الشارع النجفي بخصوص زيارته بين مرحّب بل ومتحمس، لا سيما من النخبة الفكرية والسياسية والدينية وخصوصاً علماء الدين، وبين معارض، من بعض أوساط العامة ومن أطلق عليهم الشيخ علي كاشف الغطاء العالم الديني المجدد "الغوغاء والدهماء". يومها كتب الشاعر محمد مهدي الجواهري اعترافاً بالجميل لزيارة الريحاني قصيدته النونية بتلك الزيارة الأثيرة، حيث جاء في مطلعها:[2]

أرض العراق سَعَتْ لها لبنان فتصافح الإنجيل والقرآن
وتطلّعت لك دجلةٌ فتضاربت فكأنما بعبابها الهيمان
أأمين إن سُرَّ العراق فبعدما أبكى ربوعَ كولمبس الهجران
لك بالعراق عن الشآم تصبر وبأهله عن أهلها سُلوان
لو تستطيع دنت إليك مُدلّةً فتزودت من رُدنك الأردان

وقبل وصوله إلى النجف التقى الريحاني في كربلاء العلاّمة الشيخ علي كاشف الغطاء وولده العلاّمة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء فاحتفيا به أشد الاحتفاء، وكان ذلك يوم عاشوراء حيث كانت تسيّر المواكب الحسينية التي شاهدها الريحاني وقام بتصويرها، وقد جرت مطارحات علمية وثقافية بين الريحاني والكثير من العلماء، أبدى فيها هؤلاء إعجابهم لسعة علمه وحرية أفكاره. وقد التقى في النجف في أحد السراديب (الأقبية) الشيخ محمد رضا الشبيبي والشيخ محمد السماوي والشيخ جواد الجزائري، وغيرهم. وقد أهدى الشبيبي مخطوطاً قديماً جداً للريحاني وهو كتائب المثالب لابن الكلبي وهو من نوادر المخطوطات العربية. ومن النجف توجّه الريحاني الى الحِلّة ثم إلى بغداد.[3]

المفاجأة الثانية: انفعال الجواهري، وموقفه المندّد بالريحاني الذي لم أكن قد اطّلعت عليه قبل ذلك، ولكنني فوجئت في مطلع الثمانينيات عندما كنت أجري حواراً معه، وهو الذي نشرت قسماً منه في كتابي الجواهري- جدل الشعر والحياة وإذا بالجواهري يكيل التهم الواحدة بعد الأخرى للريحاني، ولعل سبب الانقلاب في الموقف: من الاحتفاء إلى الاتهام، يعود إلى انحياز الريحاني إلى ساطع الحصري في خلافه مع الجواهري بشأن موضوع الجنسية، وهو ما رواه الجواهري مفصّلاً في كتابه ذكرياتي.[4]
وكان الريحاني قد أصدر كتاباً عن العراق بعنوان قلب العراق غمز فيه من قناة الجواهري، بكونه فارسي المولد، ويكتب الشعر العربي،[5] في إشارة إلى الفتنة الطائفية، التي اندلعت عند تعيين الجواهري بوظيفة معلم العام 1926، ثم فصله بعد نحو شهر بحجة عدم امتلاكه الجنسية العراقية، وقيل بسبب تغزّله بالمصايف الإيرانية خلال زيارته لطهران في مطلع العشرينيات، فما كان من الملك فيصل الأول إلاّ أن عيّنه في تشريفات البلاط الملكي العام 1927، وأداً للفتنة، وهي التي نجمت عن خلاف حادٍ بين وزير المعارف عبد المهدي المنتفجي ومدير المعارف المفكر التربوي ساطع الحصري، واضع مناهج الدراسة العراقية، لا سيما القراءة الخلدونية. وقد اندلعت ذيول الفتنة لاحقاً إثر نشر كتاب أنيس النصولي المدرّس اللبناني الجنسية في العراق، الموسوم تاريخ الدولة الأموية[6] خصوصا،ً[7] وقد استغلّها بعض من أراد إلقاء المزيد من الزيت فوق النار المشتعلة كي لا تنطفئ.
وقد بيّت الجواهري غيظه، فانتهز قدوم أمين الريحاني إلى العراق لتغطية أحداث ما بعد انقلاب بكر صدقي العام 1936، فنشر مقالة انفعالية مُدوّية بعنوان "جاسوس خطير في أوتيل تايكرس بالاس" ويروي الجواهري ذلك المشهد، على النحو التالي: "… وكان القلم في يدي في الليلة التي حلّ فيها أمين الريحاني بهذا الفندق، عندما اتصلت به هاتفياً ليلاً لأقول له بالحرف الواحد: مرحباً أستاذ أمين، هل تعرف من يكلّمك؟ إنه الرجل الذي ولد في إيران، فارسياً ينظم الشعر، وطبعاً بالفارسية، إنه محمد مهدي الجواهري".[8]
ولعل تبرير الجواهري باتهام الريحاني، كونه يكتب عن الملوك وينتقل في المحافل والمجالس، ويطلع حدّ التخمة على الأسرار والدفائن والكوامن، ويذهب أكثر من ذلك حين يُريد أن يدلّل على صحة ما ذهب إليه بكون جنسيته أمريكية، إضافة إلى ما نُشر عنه من وثائق في الصحافة الكويتية عن علاقته بالأوساط البريطانية والأمريكية حتى أنه ينتقد رغيب الطبّاع، الذي كتب كتاباً عن أمين الريحاني، بعنوان صقر الجزيرة، لموالاته للعائلة السعودية،[9] وهو ما كتبه في مذكراته الصادرة في العام 1988.

المفاجأة الثالثة: ما كتبه الشيخ محمد رضا الشبيبي الذي استمرت علاقته إيجابية مع الريحاني، بل إن تقييمه له ظلّ هكذا حتى بعد وفاته. فقد كتب الشبيبي مقدمة جديدة لكتاب قلب العراق امتدح فيها الكاتب والكتاب بقوله: إنّه من أمتع ما اطّلع عليه من كتب الريحاني.[10]
وقد كانت مفارقة الجواهري كبيرة عندما عرف، وهو في المنفى في دمشق العام 1957، أن مقدمة الشبيبي قد صدرت. ويعزو الجواهري صدور المقدمة إلى كونه كان غائباً عن الساحة، وإلاّ كيف يتجرّأ الشبيبي على مدح خصمه بتلك المقدمة البائسة كما يُطلق عليها. ويقول عندما نشرت مقالتي ضدّ الريحاني، أثيرت ضجة في بغداد، اضطرّ على أثرها الريحاني إلى مغادرتها، وحسبما يروي الجواهري: فما كان منه في اليوم الثاني إلاّ أن يطوي أوراقه ويرزم حقائبه ويرحل، وعندما سألته أيستحق الأمر كلّ ذلك حتى بعد مرور نحو ستة عقود من الزمان، فهزّ رأسه بالإيجاب.[11]
ولعله يعني الجرح الذي ظلّ فاغراً، على الرغم من مرور عقود من الزمان، وهو الذي يتعلق بمشكلته مع الحصري بخصوص موضوع الجنسية الذي لم يبرأ منه، ولم يهدأ له بال، كلما جرى الحديث عنه أو كلّما استذكره، لا سيما وأن أعداء الجواهري غالباً ما استثمروه للتنديد به أو الغمز من قناته، باعتبار أصوله إيرانية، وهو الذي خدم اللغة العربية والأمة العربية من خلال إبداعه أكثر من أي أحد آخر، وطيلة نحو ثمانية عقود من الزمان.

المفاجأة الرابعة: هي استمرار تأثير الريحاني على عدد من علماء النجف، ففي تلك الزيارة الأثيرة ترك انطباعات متنوعة، وفيها الكثير من الإعجاب، ولعل أهمها ما كتبه العلاّمة علي كاشف الغطاء بحق الريحاني كتابيه: المراجعات الريحانية (مجلدان) والثاني نقد كتاب ملوك العرب لأمين الريحاني وهو ما رواه البروفسور عبد الإله الصائغ في مقالته بعنوان "كاشف الغطاء- مرجعية حضارية".[12]
ولعلّ هذه المقدمة تشير إلى إشكالية الريحاني نفسه، فقد زار النجف وكتب عنها، وخاصمه الجواهري النجفي واتهمه، في حين امتدحه وأثنى عليه الشبيبي النجفي وكاشف الغطاء الأب علي والشاب حينها محمد حسين وعدد من العلماء أيضاً. وبغضّ النظر عن دلالة الحادث وتأثيراته، فقد كان الريحاني مجتهداً وصاحب رأي وحامل فكر أصاب أم أخطأ، لكنه بلا أدنى شك كان شخصية استثنائية حاملاً الثقافتين العربية والغربية، واضعاً لنفسه وظيفة أن يكون همزة وصل أو جسراً بين الحضارتين والثقافتين.

ثانياً: الحداثة وأسئلة الريحاني الإنسانية
هاجر الريحاني في ثمانينيات القرن التاسع عشر إلى أمريكا الشمالية فأضحت وطناً ثانياً له، وكان قد ولد في قرية الفريكة العام 1876، وانصرف إلى الأدب والكتابة والترجمة، وتفتّقت مواهبه على نحوٍ ملفتٍ. وقد كانت مؤلفاته الأولى باللغة الإنكليزية، إلاّ أنه تحدث لأول مرّة بالعربية أمام جمع بدعوة من إحدى الجمعيات السورية في نيويورك، في العام 1900 عندما ألقى محاضرة عن "التساهل الديني" والمقصود بذلك "التسامح" (tolerance)، وقد استخدم فرح أنطوان مصطلح التساهل الديني أيضاً وقصد به "التسامح الديني" ذلك أيضاً في العام 1902.[13]
أما أول ترجمات الريحاني إلى الإنكليزية فكانت قصائد أبي العلاء المعرّي، ولا أدري مدى دقة القول إن كثيرين من أدباء جيله الأمريكيين قد تأثروا بتلك الأشعار وبفلسفة أبي العلاء ولزومياته فيما له علاقة بالوجود والعدم والإيمان.[14] وقد استقرّ الريحاني على فكرة أساسية طبعت جميع أعماله التي ظلّت تتمحور حولها، وهي التي تتعلق بالتواصل والتفاعل بين الثقافات. وانتدب نفسه بكل إخلاص ليكون جسراً بين ثقافتين ونقطة التقاء بين حضارتين، وكان كل همّه تعريف الشرق بالغرب وحضارته وقيمه، وتعريف الغرب بالشرق وبهمومه وقضاياه.
ومن خلال قراءة ما كتبه الريحاني يمكن القول إنه كان يجمع على نحو هرموني متعدد النوتات ومتداخل الأصوات بين روحانيات الشرق ومادّيات الغرب، وبين العقل والروح. وقد ردّ الريحاني على الشاعر البريطاني روديار كيبلينغ الذي قال "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا"، فكان رأي الريحاني أنه بإمكان الشرق أن يلتقي مع الغرب على قيم وحقائق أساسها المشترك الإنساني، وهو ما نذر نفسه له لكي يكون جسراً بين الاثنين.[15]
لقد شغلت الريحاني أسئلة كبيرة منها، بحثه الدائم عن الهوية والتنقيب عن جذور الثقافة والتراث، وإعادة قراءتهما بما ينسجم مع روح العصر في إطار محاولات نهضوية عربية، لتحرير البلدان العربية من ربقة الاستعمار ولحاقها بالعالم المتقدم، والاشتباك بين الدين والدولة، والعلم والدين، فضلاً عن الموقف من الغرب وحضارته. وكان من أبرز دعواته هي "التسامح" في محاولة لتربية النفس عليها، وكذلك دعوته إلى العلمانية والعقلانية والمدنية والليبرالية (الديمقراطية)، وتلك كلّها من أركان الحداثة بالتجاوز على الطائفية والتمييز، لا سيما بين المرأة والرجل.
وكان الريحاني يدعو إلى تعليم علماني لصهر الجميع في بوتقة واحدة، والتحرر من كلّ أشكال الاستعباد، مطالباً المثقفين بتحمّل مسؤولياتهم والتمسّك بالعقلانية والفكر الابتكاري وتحرير المرأة، كما دعاها إلى المبادرة إلى تحطيم قيودها بنفسها، رافضاً الحجاب مؤكداً مساواتها مع الرجل، رافضاً مبدأ تعدّد الزوجات، لأنه حسب رأيه يقضي على المحبة.
بنى الريحاني مدينته الفاضلة بتعظيم قيم الحرية والكرامة الإنسانية والتآخي والعدل، كما بشّع الظلم والفقر والاستبداد والطائفية، وبذلك يقول: الحكومة التي تقيس عدلها بمقياس طائفي، لا بمقياس الكفاءة، هي حكومة بائدة، بل وظالمة.[16]
وبقدر احترام الريحاني للدين لضرورته، فإنه دعا لتنقيته من التعصب المشحون بالتنافس والأحقاد، وكان قد وجّه كلامه إلى ملوك العرب، يحذّرهم من الإنسياق في ذلك، ما داموا يتّخذون الطائفية وسيلة لتأدية سيادتهم وتحقيق مقاصدهم.[17] ودعا الريحاني إلى علمنة الفكر والتعليم والسياسة، مخاطباً مفكّري المسيحيين والمسلمين، من دون إثارة الجمهور، في ظل سيادة الجهل وانتشار سموم التعصّب، معتبراً أن الأمة الراقية هي التي يتمتّع مواطنوها بالحرية الروحية.
يقول الريحاني في كتاب خالد إن الهوية العربية ليست مُستلبة فحسب، بل هي مقموعة ومُستبدٌ بها، ويوجه نقده إلى الغرب وحضارته المادية "غير الإنسانية"، مثل ما انتقد تخلّف الشرق. وفي هذا الكتاب المهم ينفي عن الغرب الصفة المثالية، مثلما ينفي عن الشرق صفة التخلّف القدرية.[18]
وبخصوص العلاقة بين الدين والعلمانية فإن الريحاني يرى قابلية الإنسان على التغيير، من دون أن يحصر نفسه باتجاه أو فلسفة، فقد كان يقتطف بكل أريحية من الإنجيل والقرآن، مثلما يستشهد بأفلاطون وجان جاك روسو وفولتير، ويقتبس من ماركس وداروين، وهو لا ينظر إلى العلمانية كبديل عن الدين، أو منافسة معه وكأنهما في حلبة صراع، لكنه كان يدعو إلى الحياة المدنية بوضع مسافة واحدة من الدين، أي أنه يقف ضدّ تسييس الدين أو تطييفه أو تأميمه، بجعله حكراً على مجموعة صغيرة.
إن باقة الأفكار التي عرضناها، والتي شكّلت شغلاً شاغلاً للريحاني، لا على الصعيد النظري فحسب، بل في جوانبها العملية والتطبيقية، تشكّل جوهر ومحتوى "الشرعة الدولية لحقوق الإنسان"، وقد ظلّ على مدى يزيد على أربعة عقود يدعو إليها ويبشّر بها، وقد سبقت آراؤه ووجهات نظره الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أُبرم في 10 كانون الأول/ديسمبر العام 1948، أي بعد وفاة الريحاني بثماني سنوات.
وكان الريحاني يتحرك في فضاء كوني، من خلال انتماء عروبي شديد، بلبنانية محببة، وشرقانية عميقة ومتأصلة، ولكن ضمن بُعد ودائرة وشعور إنساني. ولو استعدنا اليوم ما كتبه سنرى أنه كان أحد المبشرين والمدافعين عن المثل والقيم التي احتوتها لاحقاً الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، كما أشرنا، لا سيما موقفه من مبادئ المساواة وعدم التمييز ودفاعه عن قضية الحريات العامة والشخصية، وكذلك عن حقوق المرأة، ومبادئ وقيم التسامح لا سيما الديني، وموقفه من الاستغلال، وخصوصاً العلاقات غير المتكافئة مع شعوب الشرق ونقده محاولات الهيمنة والاستئثار. وقد دافع الريحاني عن كلّ ما يُعلي شأن الإنسان.
وإذا كان موقف الريحاني من الديمقراطية، منحازاً، إلاّ أنه لم يكن عاطفياً، بل كان مُسبباً باعتبارها النظام الأصلح، وفي الوقت نفسه انتقد الديمقراطية الغربية المادية، فالديمقراطية عنده طريق للحرية، لا سيما حرية الفكر، وكان ينظر إلى الإنسان باعتباره القيمة العليا، مزاوجاً بين عقلانية الإنسان الغربي وصوفية الإنسان الشرقي، متجاوزاً أي تمييز بسبب العرق أو الدين أو الجنس أو اللغة أو الوطن أو غيرها.
والليبرالية التي دعا إليها الريحاني تقوم على إعلاء شأن الفرد وتعظيم حريته، وهي أقرب إلى قيم الثورة الفرنسية التي دعت إلى الحرية والإخاء والمساواة. وهو ما دعا الكاتب الروسي الشهير تولستوي أن يُعجب بالريحاني "اللبناني المولد، العربي اللسان والقومية"، وكما يقول هو عن نفسه، وقد يكون في عروقه دم فينيقي أو كنعاني أو آرامي أو كلداني، وإذا كان قلبه في لبنان فروحه في البلاد العربية[19]، ولعل ذلك جزء من تقييم الروائي تولستوي نفسه.
لم يقارب الريحاني واقع مجتمعه المتأخر من زاوية سياسية اقتصادية، بل من منظور أشمل يتعلق بالنهضة والتنوير والعقلانية، وكانت نظرته الفلسفية أكثر عمقاً من نظرات مجايليه: جبران خليل جبران وشبلي شميّل وفرح أنطون وطه حسين. وإذا أردنا إيصالها إلى بعض روّاد الاصلاح، فيمكن مقاربتها ومقارنتها بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وخير الدين التونسي ورفاعة الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي، وغيرهم، وصولاً إلى علي عبد الرازق وإن كانت زاوية النظر مختلفة[20] وبهذا المعنى فإن مشكلة تخلف الوطن العربي حسب الريحاني ليست مشكلة اقتصادية أو تقنية، وإنما تتعلق بغياب مشروع نهضوي جذري شامل.
وكان الريحاني يعتقد أن الهوّة شاسعة بين التقدم والتأخر، ولن يتم تجسير الفجوة بينهما بوصفات تنموية أو دعوات خيرية أو نصائح إدارية، بل إن الأمر يطرح أسئلة ذات بعد فلسفي بخصوص التحديات والمعوّقات التي تعترض طريق التقدم، وينظر اليهما من خلال بُعدين:
البعد الأول الذي يقوم على نظرية النشوء والارتقاء، وهو ما تناوله في ريحانياته، الجزء الأول، وهذا البعد يستند إلى فلسفة الأنوار ذات النزعة الإنسانوية الباحثة عن الحرية والعدالة والكمال، ولعل ذلك كان نَسَقاً من أنساق ماركس نفسه.
أما البُعد الثاني فهو "العود الأبدي" وهو ما عبّر عنه بأنه "أشبه بالحية التي تأكل ذنبها"، واستناداً إلى ذلك، وعلى حدّ تعبير الناقد عبد الرزاق عيد "إن خيار الريحاني كان فلسفة التاريخ القائمة على التقدم، وهذه إنما هي تلبية لحاجة مجتمع متأخر ينبغي أن ينهض، ولعله بذلك ينتج وعياً مطابقاً بأسئلة زمنه، عصره، بيئته، فأنتج وعياً (مبيئاً/ مطابقاً) وليس متفرنجاً، مغرّباً، منقطع الجذور، لتعصف به رياح التغريب[21].

خاتمة
ولا يمكن فهم الأفكار الريحانية من دون الإطلاع على كتاب الريحانيات، الذي مضى على صدوره أكثر من مئة عام (صدر في العام 1910)، وتُرجم إلى عدة لغات، وكان قد طرّزه بعبارته الشهيرة "قل كلمتك وامشِ" وهي التي اعتمدها كامل مروّة عموداً صحفياً له في صحيفة الحياة. ومن أبرز مقالات الريحانيات: "من أنا؟"، "التساهل الديني"، "من على جسر بروكلين"، "المدينة العظمى"، "روح هذا الزمان"، "روح اللغة"، "دولة المستقبل"، "في ربيع اليأس"، "وادي الفريكة" (مسقط رأسه)، "في العزلة"، "الأخلاق"، "قيمة الحياة"، "مناهج الحياة"، "حبل التفاؤل"، "الحقيقة المبعثرة"، "الحكمة المثلثة"، "الرسول الأسمى".
وقد قال المفكر شبلي شميّل في الريحانيات عند صدورها: إن في الريحانيات أفكاراً جديدة وأسلوباً خاصاً ومقالات بديعة في الوصف والنقد. واعتبر اسماعيل باشا صبري إنها: من حسنات الآداب في زماننا. وكتب أنطوان الجميّل للريحاني: كن دليلاً من أدلاّء القافلة السائرة إلى الواحة في وسط الصحراء (1922). وعند وفاة الريحاني سنة 1940، قال عنه المستشرق الروسي أغناطيوس كراتشقوفسكي، إنه أكبر كاتب عربي في هذا الزمان[22].
لم يكن الريحاني كاتباً ومثقفاً موسوعياً فحسب، بل كان مصلحاً اجتماعياً، وبقدر دفاعه عن وطنه العربي، فقد دافع عن حقوق الإنسان، وقد كان كتاب الريحانيات بشكل خاص، وبقية مؤلفاته تعكس فلسفته الخاصة وآراءه الاجتماعية الاصلاحية ونظرته إلى الإنسان الذي يعتبره "مقياس كلّ شيء" على تعبير الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس.
_________________________________________

(*) لم يتمكّن د. عبد الحسين شعبان من حضور الندوة. وقد قرأ د. يوسف الصواني الورقة نيابةً عنة.
[1] نشر د. عبد الحسين شعبان الجزء الأول من بحثه خاصة فيما يتعلق "بالمفاجآت" في: عبد الحسين شعبان، "مقهى وروّاد ومدينة: ذاكرة المكان ونستولوجيا التاريخ!،" الحوار المتمدن، العدد 3620، 27/1/2012 (المحرّرة).
[2] انظر: عبد الحسين شعبان، الجواهري: جدل الشعر والحياة (بيروت: دار الكنوز الأدبية، 1997)، وط 2 (بيروت: دار الآداب، 2008).
[3] انظر: الأوقات (بغداد) (أيلول/سبتمبر 1992).
[4] انظر: محمد مهدي الجواهري، ذكرياتي، 2 ج (دمشق: دار الرافدين، 1988)،’ ج 1، ص 141 وما بعدها، وص 327-330.
[5] ذكر الريحاني هذه المسألة بشكل سريع في معرض حديثه عن "عثرات التعليم الوطني" في العراق دون أن يسمي "الأستاذ الشاعر". انظر: أمين الريحاني، "قلب العراق،" في: أمين فارس الريحاني، الأعمال العربية الكاملة، تقديم وتحقيق أمين ألبرت الريحاني، 9 ج (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980-1986)، ص 223 (المحرّرة).
[6] لعلّ الباحث يعني كتاب أنيس النصولي، الدولة الأموية في الشام (بغداد: مطبعة دار السلام، 1926) (المحرّرة).
[7] انظر: عبد الحسين شعبان، من هو العراقي؟ (بيروت: دار الكنوز الأدبية، 2002).
[8] انظر: الجواهري، ذكرياتي، ص 327.
[9] انظر: المصدر نفسه، ص 229.
[10] يمكن مراجعة مقدمة الشبيبي في: "قلب العراق،" في: الريحاني، الأعمال العربية الكاملة، ج 4، ص 5-16، وفيها ينتقد الريحاني أيضاً (المحرّرة).
[11] انظر: حوار خاص مع الباحث في شباط/فبراير 1982 (جزء منه منشور وجزء غير منشور).
[12] انظر : عبد الإله الصائغ، "كاشف الغطاء مرجعية حضارية،" موقع النجف الالكتروني.
والجدير ذكره أن كاشف الغطاء عرف بسعة علمه وانفتاحه ومن أشهر مواقفه، موقفه من القدس الشريف وذلك خلال انعقاد المؤتمر الإسلامي عام 1931 حين اقترح على علماء المسلمين (شيعة وسنة) اتخاذ قرار بتجميد الحج إلى مكة مؤقتاً والتوجه إلى زيارة القدس بدلاً من مكة، وذلك بهدف إغلاق الباب أمام المخطط الصهيوني، لا سيما بعد ثورة البراق العام 1929، ومنع الصهيونية من محاولات زيادة الهجرة إلى القدس بهدف تهويدها، وذلك عن طريق القضم التدريجي. وكذلك كتابه عن المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون العام 1954، حيث استخفّ بدعاة عقد مؤتمر أصدقاء الشرق الأوسط بهدف مكافحة الأفكار المادية وإثبات عقم فلسفتها.
[13] الريحاني ميّز بين مفهومي "التساهل" و"التسامح" وقصد "التساهل الديني". يمكن مراجعة خطبته في: "الريحانيات،" في: الريحاني، الأعمال العربية الكاملة، ج 9، ص 44-63 (المحرّرة).
[14] عالج عدد من الدراسات أثر كتابات الريحاني على قرّاء الإنكليزية مثلاً دراسة جيفري ناش المدرجة في لائحة المراجع باللغة الإنكليزية (المحرّرة).
[15] انظر: أمين الريحاني، كتاب خالد، ترجمة أسعد رزوق (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1986).
[16] انظر: أمين الريحاني، "القوميات،" ج 2، ص 347، في: الريحاني، الأعمال العربية الكاملة، ج 8.
[17] انظر: أمين الريحاني، أمين الريحاني، ملوك العرب، أو، رحلة في البلاد العربية، أشرف على تصحيحها ألبرت الريحاني، 2 ج، ط 8 (بيروت: دار الجيل، 1987).
[18] انظر: الريحاني، كتاب خالد.
[19] انظر: أيمن أبو شعر، "الريحاني مناضلاً،" موقع الريحاني الإلكتروني.
[20] قارن مع: عبد الرزاق عيد، "أمين الريحاني: دلالة العلاقة بالآخر،" موقع عزت عمر الإلكتروني.
[21] يعتبر الناقد عبد الرزاق عيد أن الذي عصف بهذا الوعي الوطني الديمقراطي الليبرالي النهضوي (بعد عشر سنوات (ونيّف) من وفاة الريحاني 1940) إنما هو رياح الأيديولوجيا الفلاحية العسكرية التي هي في المحتوى "الأيديولوجيا الشعبوية" وفق النظريات اللينينية ذاتها، (لعلّه يقصد الانقلابات العسكرية التي رفعت العسكر إلى السلطة وغالبيتهم من بيئة ريفية في كل من مصر وسوريا والعراق).
[22] انظر:موقع <http://www.farfesh.com>، نقلاً عن موقع الريحاني.

(*) نشر هذا البحث في كتاب بعنوان : "أمين الريحاني والتجدد العربي – تحديات التغيير في الأدب والفكر والمجتمع " الذي صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية وجامعة سدني- استراليا ، بيروت، آب/ أغسطس، 2012.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى