دمشق لأنقرة: «كِش سلطان»

 

يمرّ الملف السوري بأيام فارقة، بعدما وصلت أحداثه إلى ذروة جديدة، تكاد تكون غير مسبوقة من مراكمة التعقيدات. وحتى مساء أمس، كانت المعطيات بمجملها تؤشّر إلى ارتفاع أسهم التوتر الإقليمي، في ما يبدو معركة كسر عظم تضع التفاهمات الروسية – التركية على المحكّ، وتُخضع أنقرة على وجه الخصوص لاختبار إرادات. وخلال الأيام الماضية، تلقّت أنقرة صفعات ميدانية متتالية، أخفّها وطأة التهاوي المطّرد للمجموعات السورية المسلّحة المحسوبة عليها في ريفَي حلب وإدلب، وأشدّها الإصرار الروسي على عدم تقديم تنازلات مجانية جديدة. وبين هذه وتلك، تَكرّر مشهد مقتل جنود أتراك، لتَتبدّد تهديدات الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، عقب مقتل المجموعة الأولى من جنوده قبل أسبوع. إردوغان، الذي ذهب حدّ إعطاء مهلٍ، ومطالبة بقية اللاعبين باحترام التزامات لم تطبّقها أنقرة، وجد نفسه أمس أمام حادثة أخرى أسفرت عن مقتل خمسة من جنوده في نقطة تركية مستحدَثة في مطار تفتناز (ريف إدلب الشمالي الشرقي). ويشكّل استهداف النقطة رسالة واضحة الدلالات، مفادها أن النقاط التي أنشأتها تركيا خارج إطار «تفاهمات أستانا وسوتشي» غير مشمولة بـ«خفض التصعيد»، وأن استهدافها «مسألة طبيعية». وتكتسب هذه الرسالة أهمية مضاعفة بفعل توقيتها اللافت، الذي تزامن مع رفع سقف التهديدات التركية، والتلويح بشنّ عملية عسكرية شاملة ضدّ الجيش السوري.

وكانت التهديدات التركية قد بلغت أوجها قبل مقتل الجنود الأتراك بساعات، إذ نقلت صحيفة «عنب بلدي» السورية المعارضة، أمس، عن «قياديّ في الجيش الحر» قوله إن «تركيا طلبت من الفصائل رفع الجاهزية»، وإن «الفصائل تنتظر الساعة الصفر لانطلاق العملية». لاحقاً، أفادت مصادر ميدانية معارضة بـ«تجميد العملية الموعودة موقّتاً، في انتظار ما ستتمخّض عنه جولة مباحثات روسية – تركية ثانية»، لم تسفر عن أيّ تغير في مواقف الطرفين، ليهيمن على المشهد نبأ مقتل الجنود الخمسة. وبدا لافتاً أن التعليق الروسي على الحادثة تضمّن نفياً لـ«أيّ خطط محدّدة لعقد لقاء بين الرئيسين (الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب إردوغان)»، في وقت كان فيه المسؤولون الأتراك يكررون في تصريحاتهم احتمال عقد لقاء عاجل بين الرئيسين.

في المقابل، تتالت تصريحات الساسة الأتراك المتوعّدة بـ«الانتقام». وقال وزير الخارجية، مولود تشاووش أوغلو: «رددنا بالمثل على الأوغاد، وجيشنا سيواصل القيام بما يجب»، فيما تحدث الناطق باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، عن «ردّ فوري على الهجوم الغادر». بدوره، هدّد المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية، عمر جليك، بأن الجيش التركي «سيفعل ما يلزم» حتى يجبر الجيش السوري على الانسحاب من المناطق التي سيطر عليها في العمليات الأخيرة، لافتاً إلى أن بلاده تتوقع من حلف «الناتو» أن «يكون إلى جانبها». ويبدو انجرار الحلف إلى الدخول العسكري المباشر على خطّ الأزمة الراهنة أمراً مستبعداً، لكن جلاء الصورة بشكل نهائي قد يكون رهناً بزيارة مزمعة للمبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، جيمس جيفري، كانت مقررة يوم غد الأربعاء، إلا أنه استعجلها ليصل أنقرة ليل أمس. وأعلنت وزارة الخارجية الأميركية، مساء أمس، أن جيفري سيزور تركيا وألمانيا لبحث الأزمة في سوريا والمنطقة. وأوضح بيان الخارجية أن وفداً برئاسة جيفري سيتوجّه (أمس الإثنين) إلى تركيا للقاء مسؤولين أتراك، «وبحث المخاوف المشتركة وهجمات قوات النظام السوري المدعومة من روسيا».

وتحفّظت مصادر سورية عن التعليق على التطورات الحاصلة، واكتفى مصدر رفيع بوصف التهديدات التركية بـ«الجعجعة الفارغة». في الوقت نفسه، أكد المصدر لـ«الأخبار» أن «لسوريا الحق في القيام بكلّ ما يتطلّبه تحرير أراضيها من الإرهابيين ورعاتهم». ورجّح مصدر إقليمي رفيع، من جهته، أن تستبق موسكو زيارة جيفري بـ«مدّ خشبة خلاص إلى أنقرة»، معتبراً أن «موسكو قرّرت الذهاب بعيداً في الضغط على أنقرة، قبل عقد محادثات بين بوتين وإردوغان قد تُفضي إلى تحديث التفاهمات، بما يضمن تثبيت المشهد العسكري على ما آل إليه».

ميدانياً، يؤشّر المشهد إلى سيطرة وشيكة للجيش السوري على كامل الطريق الدولي حلب – حماة (M5) (بقيت 10 كيلومترات تقريباً فقط خارج السيطرة). وعلى مسار ثانٍ، يواصل الجيش قضم مزيد من المناطق غرب الطريق الدولي المذكور، في ما يبدو تمهيداً لإطباق كامل على الطريق الدولي حلب – اللاذقية (M4). وتشير معطيات عدة إلى أن عمليات الجيش غربي «M5» كانت جرس الإنذار الذي استدعى استنفاراً تركياً منذ مطلع الشهر الجاري. وترى مصادر سورية معارضة أن «أنقرة كانت مسلّمة بسيطرة الجيش على M5، لكن توسع العمليات غرباً كسر مبدأ: خطوة بخطوة، الذي ظلّ لسنوات ضابط إيقاع للتفاهمات الروسية – التركية». وكان مصدر عسكري رفيع أكد، لـ«الأخبار»، قبل أيام، أن «عمليات الجيش ستتواصل حتى السيطرة على الطريقين الدوليين بالكامل» (راجع «الأخبار»، 4 شباط 2020). وفي مراقبة مسار العمليات العسكرية، يبدو لافتاً أنها لم تقتصر على الطريقين الدوليين بشكل مباشر فحسب، بل اختارت مسارات قوسيّة استراتيجية، تهدف بشكل واضح إلى توسيع «المحيط الآمن»، وتفتح مسارات نحو مدينة إدلب بغية الاستفادة منها مستقبلاً. وتبرز في هذا السياق سيطرة الجيش على «تلة كفر حلب» الاستراتيجية وبلدة ميزناز، بما تتيحه من سيطرة على طريق شديد الأهمية، هو الطريق السريع الواصل بين بلدة خان العسل (ريف حلب الجنوبي الغربي) ومدينة إدلب.

وحتى الآن، يمكن القول إن المعطيَين الميداني والسياسي يمهّدان لنكسة تركية كبيرة. وعلاوة على الخسارات الميدانية المتلاحقة، يبرز معطيان شديدا الأهمية في ما يخصّ «الملف الكردي»: الأول، عودة الحديث العلني عن مسارات تفاهم بين دمشق و«الإدارة الذاتية»؛ والثاني مرتبط بمساعي الرياض المستمرة لـ«إعادة هيكلة المعارضة السورية» (راجع «الأخبار»، 18 كانون الثاني 2020). وتقول مصادر سورية معارضة لـ«الأخبار» إن «العمل مستمرّ على هذا الصعيد»، وتضيف أن «أطرافاً داخل الائتلاف المعارض تؤيّد هذه المساعي». كما تتحدث المصادر عن «مبادرة سعودية، بغطاء مصري»، تهدف إلى «تطعيم اللجنة الدستورية بممثّلين عن الإدارة الذاتية»، علاوة على سعي إلى «تغيير ممثلي الفصائل في الدستورية». ومن المفترض، وفقاً للمعلومات المتوافرة، أن «تحتضن القاهرة مؤتمراً للمعارضة خلال الشهر الجاري»، مخصّصاً لهذا الشأن.

على أن كلّ ما تقدَّم لا يعني خسارة أنقرة جميع أوراقها. إذ تطلّ من بين تلك الأوراق واحدة أمنية، تفترض وجود «خلايا نائمة» تعمل لحساب أنقرة في مناطق سيطرة دمشق، التي شهدت أمس حادثة ربما تدلّل على القدرات الأمنية لتلك الخلايا، حيث انفجرت عبوة ناسفة على طريق المزة في قلب العاصمة، في حادثة صغيرة ذات دلالات كبيرة. وما لم يكن ذلك مرتبطاً بـ«تصفية حسابات داخلية»، فقد يكون رسالة تركية بالغة الدلالات.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى