ذكريات الطفولة – المحطة الأخيرة (6)
عايشت الطبيعة البكر ..لم أتجول في الجبال والسهول فحسب بل تجولت أيضاً في دروب الفكر ومنعطفاته ! مررت بأنواع من العواطف والانفعالات ، فعرفت مرارة الحياة كما عرفت حلوها ، وذقت الفقر ، كما ذقت بعض الغنى ، وعانيت الآلام كما عانيت اللذة ، وعرفت الإيمان وطمأنينته في القلوب.
عشت مراهقتي الأولى ..وبدأت أكتب يومياتي وأفرغ من خلالها بعضاً من مشاعري ..فما زلت أذكر البلدة التي ترعرعتُ فيها حيث نمضي الصيف ، وحيث غابات الصنوبر وما حبلت به الأرض من أشجار وأزهار، كيف كنا وإخوتي نحمل الماء والأحجار والاسمنت لإعمار بيتنا المتواضع، ولطالما نزف الدم من أصابعنا ، فامتزج بعرق التعب والوجع ليبقى لنا بيت نأوي إليه في فصل الصيف ، كنت في بيت واحد مع والديّ وإخوتي في حارات دمشق العتيقة، وأصبحنا أشلاء بعيدين عن المدينة وخلف ظهرها في ريفها.
دخلت مرحلة الزواج وأنجبت خمسة أبناء، بنتان وثلاثة أولاد . بعد أن تزوجت لم أقم بحرق تلك المذكرات والأسرار بل اطلعت رفيقة دربي عليها ، والتي لعبت دوراً كبيراً في زيادة الثقة والشفافية بيننا من جهة، وعلى حجم مشاعري الدفينة من جهة أخرى ،فهذه الذكريات تشكل نبعاً لجيل لا يزال يحاول إتمام قصته ، إنها سيل من المشاعر والخواطر والعواطف، لم يخفق قلبي بكامل قوته إلا للحب الأول !
ساقية ذكرياتنا تمّدنا بالكثير من الأحداث التي جرت معنا ، لكن مخزون تلك الذكريات لا يستطيع أن يخبرنا أين سنفارق الحياة.
صور وأحداث مخزنة في دماغي ، وفي مخزن ذكرياتي ،هذا المخزن الذي يحوي آلاف الملفات ، منها ما أفتحه كل يوم ومنها ما أتجاهله ، ومنها ما أتمنى التخلص منه ! منها ما هو جميل، ومنها ما هو مؤلم. إنه شعور خفي يأتينا دون تخطيط مسبق ،إنه شعور ممتع وجميل ، نتصفح ذاكرتنا فيلسعنا الحنين ، ذلك الندى الذي تبتل منه أرواحنا، فتمنع تصحرها. ولكن ليس كل ما هو مخزن بالذاكرة ُيكتب !!