ذكريات الطفولة (3)
قامت المدرسة بتنظيم رحلة إلى منتزه ، وطلبت المعلمة من كل تلميذ خمسة عشر قرشاً للاشتراك في الرحلة. صممّت عدم الذهاب لكوني لا أملك هذا المبلغ الكبير!
في اليوم التالي سألتني المعلمة لماذا لم آتي بالمبلغ الذي طلبته مني ، فامتنعتُ عن الكلام وبقيتُ صامتاً. عبثاً حاولت المعلمة أن تجعلني أتكلم ، فلما اتخذ سكوتي صفة التحدي تناولتْ المسطرة وضربتني على أصابع يدي بعد أن تمرّدت بفتح كفي ، فقد كان الضرب الخفيف مسموحاً في تلك الأيام !
أنا لم أبك، ولم أجب أيضاً! لكن زميلي طلب الكلام، وبعد أن أذنت له قال بصوت سمعه جميع التلاميذ : بأنني لا أملك هذا المبلغ.
ارتعشت لهذه الفضيحة، عندئذ فقط انهمرت الدموع من عيني كمطر مفاجئ من أثداء غيمة حبلى ولدت بعد المخاض، جلستُ في مقعدي وقد اسودّتْ الدنيا في وجهي.
رنّ جرس الفرصة. خرج التلاميذ وبقيت في مقعدي وحيداً ، وراحتْ الأفكار تجول في رأسي ، وقررتُ أن أغادر المدرسة فلا أعود إليها .. أذهبُ إلى البراري ..إلى المقبرة حيث يستريح الراقدون ..التلاميذ يلعبون ويمرحون في باحة المدرسة ..ويعاركون ويتراشقون بالأقلام والصواريخ الورقية
…وبقيتُ وحيداً في الصف .. دخلتْ المعلمة التي عاقبيني إلى الصف ، فوقفتُ لها احتراماً دون أن أنظر إليها ، وبقي رأسي منخفضاً. نادتني وكررت النداء، فلم أقو على الامتناع ، خرجتُ من مقعدي واقتربتُ منها ، جذبتني إليها وداعبتْ شعري، ثم انحنتْ وقبلّت رأسي ، فشممت رائحة امرأة غير رائحة أمي ! قبلاتها مسحتْ ما تبقى من أثر الضرب على أصابعي ، قالتْ لي ملاطفة : يا صغيري ، كم أنت حساس ولطيف ، فابتسمتُ وعدتُ إلى مقعدي !