رؤية واشنطن لحزب الله ولبنان: سيناريوات الفوضى وتفكيك الدولة
يشكّل الملف اللبناني هاجساً كبيراً لخيارات واشنطن الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، نتيجة وجود حزب الله، فقد ثبّت لبنان نفسه كبلد مقاوم للكيان الإسرائيلي الحليف الاستراتيجي للإدارة الأميركية، ورافض للتطبيع مع الكيان، ما يجعله خاصرة رخوة، بل تهديداً وجودياً لأمن الكيان الإسرائيلي.
وعلى الرغم من توصل لبنان إلى تفاهم برعاية أميركية، لربط النزاع البحري مع الكيان الإسرائيلي من أجل استثمار الثروات الغازية، لكن ذلك كان بفضل وجود المقاومة، فالديبلوماسية لم تكن لتنجح لولا وجود قوة تستند إليها، وهذا ما كان شبه إجماع عند اللبنانيين. وعليه، فإن طريقة الوصول إلى التفاهم النفطي تجعل الأميركي يحسب في لبنان حسابات مختلفة عن بقية الدول العربية، فواشنطن ما كانت لتعطي لبنان حقوقه لولا أنها متيقنة من أن المقاومة قادرة على فتح حرب مع الكيان الإسرائيلي في حال عدم التوصل إلى اتفاق.
وفق التصورات التي رافقت فترة ما بعد الانتخابات النيابية، ومن ثم التوصل إلى التفاهم النفطي، يبدو أن واشنطن لن تقبل بهذه النتائج التي تقوي حزب الله، بالتالي لن تترك لبنان يعيش بأمان، فهي لم تحقق أهدافها التي حاصرت لبنان لأجل تحقيقها منذ عام 2019، وفي مقدمتها إضعاف المقاومة وتقليب الشعب اللبناني عليها، بل إن المفاجئة التي لم تبتلعها كانت في أن الانتخابات النيابية الأخيرة، أظهرت أن حزب الله لا يزال قوياً ولم يتأثر بالحصار الذي فرضته من أجل كسر إرادته، وسلخ بيئته عنه، فضلاً عن عدم قدرته على تفريق الثنائي الشيعي الذي أثبت أن تحالفه استراتيجي متين.
وأثبتت الانتخابات، ومن ثم التفاهم النفطي، أن هناك ما يشبه الإجماع الوطني على أن حزب الله، وبالتالي المقاومة، حاجة ضرورية للبنان، وقد سقطت بالتالي مقولة نزع السلاح التي أضرت بحلفاء واشنطن خلال الانتخابات، لأن الشعب اللبناني، وفي مقدمته «البيئة الشيعية»، لم تقبل ذلك، بل أثبتت التفافها حول حزب الله وبالتالي «الثنائي الشيعي».
لذلك، فإن أميركا قد تذهب إلى مزيد من التعقيد في لبنان خلال المرحلة المقبلة، مستغلة الفراغ الرئاسي الحاصل، ولربما من خلاله تريد أن تزيد الضغط من أجل تحقيق ما تراه ضرورة من أجل تثبيت سياساتها. هذا التعقيد سيكون من خلال الأدوات الأميركية المعهودة، على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية، ومن بين أكثر خيارات واشنطن لاستخدامها أدوات القدرة على الإرغام هو الحصار وتسليط العقوبات بمختلف آلياتها، وما تمتلكه من وسائل حظر وإجراءات تضييق على الدولة إلى دعم أتباعها وأدواتها لتعقيد المشهد، خاصةً أن لبنان بات أمام فراغ رئاسي، كاد أن يستتبعه فراغ حكومي لولا تدارك ذلك من قبل الكتل النيابية في البرلمان.
وقد بشرت مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، باربرا ليف، خلال لقاء لمركز ويلسون عن السياسة الأميركية بلبنان أداره السفير الأميركي السابق ديفيد هيل، أن البلد مفتوح أمام كل السيناريوات، بما فيها تفكك كامل للدولة وانهيارها، وربطت ذلك بصراع لبنان مع إسرائيل. وحذرت لبنان بالقول: «أرى سيناريوات عدة، التفكك هو الأسوأ بينها… قد تفقد قوى الأمن والجيش السيطرة وتكون هناك هجرة جماعية، هناك العديد من السيناريوهات الكارثية». ليف لم تكتف بذلك، بل قالت، بشكل يحمل في طياته تهديدات باستكمال حصار لبنان، إن «هناك طروحات تقول إن انهيار لبنان سيمكّن بطريقة ما إعادة بنائه من تحت الرماد، متحرّراً من اللعنة التي يمثّلها حزب الله له ولكن شعب لبنان، وجيرانه الأردن وإسرائيل والشعب السوري، سيتحملون العبء الأكبر لانهيار الدولة، لذلك فإن جهودنا مركزة على تفادي هذا السيناريو، والضغط على من يحكمون البلد». واعتبرت أن «حزب الله يشكل تهديداً لنا ولجيران لبنان، وللبنانيين أنفسهم. ونحن مستمرون في فرض عقوبات وحصار شبكاته في المنطقة وغيرها». ورسمت ليف، وفق ما نقلت صحيفة «الأخبار»، خريطة طريق يجب على لبنان العمل وفقها لتجنب الانهيار، وهي أنه «بحاجة عاجلة لانتخاب رئيس وتسمية رئيس وزراء، ثم تشكيل حكومة كاملة الصلاحيات لتعمل على بعض القرارات المهمة، بينها إصلاحات جوهرية والموافقة على قروض صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، الخاصة بتمويل صفقات الطاقة، ويجب إصلاح قطاع الكهرباء ولكن هناك مقاومة كبيرة. شحنات النفط الإيرانية التي تسمى إنقاذية، كلها تهرّب ولا تدخل إلى شبكة الطاقة».
وكان ديفيد هيل قد لفت عقب الانتخابات اللبنانية إلى أن ما «حَقّقَهُ الثنائيُ حزبُ الله – حركةُ أمل يُعطِيهُما تأثيراً حاسماً في الخياراتِ السياسيةِ المقبلةِ»، معتبراً أن «أحد الأوهام هو أنّ تقليص حضور حزب الله البرلماني وتحالفاته يقلل من قوته. في الواقع، إن نفوذ حزب الله في الانتخابات والبرلمان هو مجرد نتيجة ثانوية»، فضلاً عن إشارته إلى «الشلل الذي قد تشهده البلاد في المرحلة المقبلة»، وهو ما بدأت تتعامل به واشنطن على ما يبدو.
ما حذّرت منه مساعدة وزير الخارجية الأميركي، يلخص رؤية واشنطن للبنان، والاستراتيجية المتبعة في تعامل وزارة الخارجية الأميركية، للتعامل مع الملف اللبناني، لإرغام لبنان على تغيير مواقفه من العداء لإسرائيل، والالتزام بالسياسات الأميركية، ومن ضمن هذه الاستراتيجيات التي تستخدمها واشنطن في لبنان لإرباك الدولة اللبنانية وإدخالها في أتون الأزمات، عجز الدولة اللبنانية وتعثرها والفساد المستشري وهو ما أشارت إليه باربرا ليف. وهو ما تستخدمه واشنطن لصناعة الأزمة، التي هدفها تغيير سلوك الدولة المستهدفة.
لقد أقر الأميركيون بفشلهم في هزيمة حزب الله ومجتمعه، وهذا ما أكده ديفيد هيل وكذلك ديفيد شينكر، وعليه تريد الإدارة الأميركية أن تستمر في معاقبة لبنان وتأزيم الأوضاع الداخلية فيه، مستغلة الفراغ الذي بدأ يعاني منه. ومن حقنا كلبنانيين أن نتخوف أو نكون على حذر من التصريحات الأميركية، خاصةً تلك التي أشارت إليها باربرا ليف، أن البلد مفتوح أمام كل السيناريوات، بما فيها تفكك كامل للدولة وانهيارها، وتركيزها على الشق الأمني، ما يزيد من منسوب الخطر من أحداث أمنية يمكن أن تقع بهذه الفترة، خاصةً من خلال دخول عناصر إرهابية بشكل متكرر، ما يدعو إلى الحذر من أي مخطط يقوم على نشر الفوضى واستغلال هشاشة البيئات الداخلية، وبالتالي ضرب الأمن والاستقرار وتوتير الأوضاع وتفكيك روابط الدولة، لكي يصبح لبنان ساحة مفتوحة للأميركي للدخول على خط الفوضى، وفق مخطط يمكن أن تكون رؤيته قد ظهرت على لسان مساعدة وزير الخارجية الأميركي.