رجل في الزحام
“سان جورج”.. وقبل أن يكون اسم القديس خضر أو العبد الصالح، في جميع النصوص المقدسة، فهو لدى التونسيين، حانة في منطقة “لافيات” بالعاصمة التونسية، منذ الحقبة الاستعمارية.
” لافيات” بدورها، وقبل أن يعلم الكثير من التونسيين بأنها سميت تخليدا للزعيم الفرنسي جورج لافيات، فإنها حي كانت تسكنه الجاليات الإيطالية والمالطية والفرنسية، وأبناء الديانة اليهودية بمحلاتهم الشهيرة بالأطعمة المميزة.
إن مررت يوما من أمام “السان جورج”، وسمعت ضجة وضحكات وتعليقات،على غير المعتاد، فاعلم أن ” بلقاسم ولد غزالةّ” المشهور ب”القص” يجلس إلى طاولته المعتادة، ويملأ المكان تعليقات وصرخات ومشاكسات، بصوته الجهوري القادم من أسواق الخضار التي تربى فيها كبائع متمرس منذ ستينات القرن الماضي.
من يلمح “القص ” لأول مرة بهيئته الشعبية جدا، ملامحه القاسية، ولباسه العمالي الأزرق ذي الأصول الصينية المعروف ب”الدنقري”، يظن أنه واحد لا يمتلك إلا سلاطة اللسان التي عادة ما تخفي حسا عدائيا يتجنبه الجميع، لكن من يجالسه ويتعرف إليه، يكتشف أنه إزاء رجل من معدن خاص: رقيق، خجول، كريم ويحمل قلب عصفور.
يترع بلقاسم، في الشرب وكأنه قادم من صحراء العطش، وذلك طلبا للنوم ـ ولا شيء غير النوم ـ فيعود هذا الستيني الأعزب مع ظل قامته الطويلة التي تفزع القطط والسكارى، إلى بيته الذي يسكنه مع أمه العجوز “غزالة ” في أقاصي الحي الشعبي. ويستيقظ في اليوم التالي برأس صاحية، قبل تنفس الفجر وصياح الديك، ليقصد السوق فيفاوض تجار بيع الجملة، ويقتني بضاعته بمنتهى التركيز والحيطة في مكان يعج بالشطار والنصابين وصيادي الفرص.. كل ذلك وندماؤه ليلة البارحة، لا يزالون يغطون في نوم عميق.
يذكر “القص” بحسرة، رغد العيش وأخلاق الناس الأكابر في تونس السبعينات، من علية القوم الذين كانوا يقصدون بسطته في سوق “سيدي البحري” ليقتنوا ما يشتهون من خضار وفواكه طازجة بأسعار ميسرة، وفي متناول الجميع.
يعتقد بلقاسم، الذي هطل الشيب على رأسه وشاربه، أن تونس القانون والانضباط، قد تدهور أمرها مع نهاية المرحلة البورقيبية، ويكنّ للزعيم الراحل حبا واحتراما مبالغا فيهما، حتى أنه ينتفض بشراسة في وجه كل من يتعرض له بالانتقاد. ويقول بأن “سي الحبيب” الذي تشرف يوما بتحيته في الموكب الرئاسي، هو الذي حرره، وأبناء جيله، من سنوات الأوبئة و” القمل والجرب” عبر تلك الحمّامات العمومية التي كانت تقيمها وزارة الصحة آنذاك، للفئات الفقيرة في الأحياء الشعبية.
“القص” ما زال يعتقد أن ” سي الحبيب” قد خصه وحده بالابتسامة والتحية في ذلك الموكب الرئاسي.. شكرا لحانة ” العبد الصالح” التي عرفتني إلى “القص” في أزمنة القص واللصق.