رحلة نجاح ملحمية أبطالها ‘أسود صقلية’ في إيطاليا القرن 19
رحلة نجاح ملحمية أبطالها ‘أسود صقلية’ في إيطاليا القرن 19… ولدت الكاتبة الإيطالية ستيفانيا أوشي في عام 1974 في مدينة “تراباني”. بعد تخرجها في كلية الحقوق، بدأت العمل في مكتب محاماة قبل تغيير عملها إلى التدريس. وخلال فترة دراستها الجامعية، انخرطت في الكتابة حتى نشرت روايتها الأولى “زهرة إسكتلندا” في عام 2011، وبعدها رواية “الوردة البيضاء” في عام 2012، ومن بعدهما رواية “فلورنس” في عام 2015. وبعدها بعامين، شاركت في كتابة مقالة “المدرسة السيئة” مع “فرانشيسكا ماكاني”. وبعدها بدأ نجاحها يغزو العالم بعد نشرها للجزء الأول من هذه الملحمة الروائية “أسود صقلية” في عام 2019، التي تروي تاريخ إيطاليا في القرن التاسع عشر، وهي الرواية التي دخلت قوائم الكتب الأكثر مبيعًا وبيع منها أكثر من 70 ألف نسخة في أسبوع واحد فقط. ولم يقتصر النجاح في إيطاليا بل وصل إلى أميركا وألمانيا وفرنسا وهولندا وإسبانيا، وقد فازت النسخة الإيطالية بالجائزة الوطنية “يوليِه ريجيوم” في فرع الأدب.
تتبع رواية “أسود صقلية.. ملحمة عائلة فلوريو” التي ترجمتها ليلى البدري، وصدرت عن دار العربي أخيرا، قصة عائلة من صقلية من خلال سيرة أجيالها على مدار أكثر من قرنٍ من الزمان، تمامًا كما في أشهر الملاحم الأسطورية. حيث تحكي قصة “آل فلوريو”، تلك العائلة التي مرت بالشهرة والغنى والقوة وعلاقات الحب والخيانة والأسرار والانتقام.
وصل مؤسسا العائلة الأخوان إجنازيو وباولو فلوريو إلى باليرمو عام 1799 هربًا من الفقر والزلازل التي هزت أرضهم الأصلية في كالابريا. وعلى الرغم من أن البدايات لم تكن سهلة ، إلا أن الإخوين تمكنا في وقت قصير من تحويل متجر التوابل الخاص بهما إلى الأفضل في المدينة.عاقدين العزم والمثابرة علىالتوسيع، فتاجرا بالحرير الذي كانا يجلبانه من إنجلترا، وقام بشراء الأراضي وقصور الطبقة الأرستقراطية المدمرة. وعندما يتولى فينتسينزو، نجل باولو، مقاليد كازا فلوريو، يكون التقدم حدث بالفعل بحيث لا يمكن إيقافه: حيث أسس شركة الشحن الخاصة بالعائلة، هذه الشركة التي سوف تأخذ نبيذ مصانع النبيذ الخاصة بالعائلة إلى أرقى الأذواق في أوروبا وأمريكا.
لقد لوحظ صعود العائلة في باليرمو بدهشة، ولكن أيضًا بحسد واحتقار. لعقود من الزمان ، سيستمر النظر إليها على أنها عائلة من “الأجانب” الذين “دمهم تفوح منها رائحة العرق”. لا أحد قادر على فهم إلى أي مدى تطغى الرغبة الشديدة في النجاح الاجتماعي في قلوب أفراد عائلة فلوريو والتي تشكل حياتهم لأجيال، للأفضل وللأسوأ.
من القرن التاسع عشر إلى ثلاثينيات القرن الماضي، كان أفراد عائلة “فلوريو” ملوك صقلية من الناحية التجارية الذين بدؤوا كبائعي توابل فقراء، ثم انتقلوا سريعًا إلى صيد التونة وتجارة الكبريت وسبك المعادن، وغيرها من الصناعات المكتشفة حديثًا وقتها، مرورًا بصناعة النبيذ والتي جعلت منهم “أسود صقلية”، أو “ملوك باليرمو غير المتوجين في القرن التاسع عشر” على حد تعبير الناقد الإيطالي إلديفونسو فالكونز.
تأخذنا الكاتبة في رحلة عبر تاريخ العائلة بداية من إجنازيو وأخيه “باولو” وثم ابن “باولو” “فينسينزيو” الذي يعد مؤسس إمبراطورية “فلوريو”، حتى حفيده الذي بدد ثروة العائلة على الحفلات الصاخبة، بين رجال العائلة العنيدين المتعجرفين الذين يجدون أنفسهم غالبًا مجبرين على الاختيار بين الطموح والتضحية، ونسائها القويات والحازمات، الأمهات الحنونات منهن والعاشقات المغريات، والزوجات المجروحات اللاتي يبحثن جاهدات عن مكان لهن في العالم.
تقول ستيفانيا “عندما بدأت كتابة رواية أسود صقلية،أردت أن أحكي قصة عائلة فريدة من نوعها، وأعطي لها صوتا جديدا، وأفعل العدالة لأسطورتها الصناعية والاقتصادية. عائلة غنية وقوية بشكل لا يصدق، في مركز الحياة الاقتصادية والثقافية الأوروبية في القرن التاسع عشر، ولكنها في نهاية المطاف، تفقد كل شيء. فيالرواية حاولت الإجابة على السؤال الأكثر صعوبة على الإطلاق: كيف حدث هذا؟ واكتشفت أنه، كما يحدث في كثير من الأحيان مع مسارات الحياة من صعود وهبوط، حدث مع قصتهم،أشياء لا تنتهي، سفن، مصانع، قصور، حفلات صاخبة وضيوفبالمئات، جواهر فرانكا الرائعة، السيارات الصاخبة لفينتشينزو، وقبل هذا وذلك حيوات أفرادها، الحب، الخيانة، القوة، الضعف، من الأفضل للأسوأ وهكذا. لأن كل أفراد عائلة فلوريو ـ لا أحد مستبعد منهم ـكانوا يقاتلون، يعانون، يفرحون، يأملون، يحبون، يكرهون، ويئسون.. من أجل الحب من أجل الحب الذي يأخذ كل شكل ممكن، وكان ذلك دليلا حقيقيا بالنسبة لي، الضوء الذي كشف تقلبات غير عادية في حياة عائلة رائعة ومعقدة”.
مقتطف من الرواية
للزلزال صوت يشبه صوت حشر الأسافين، يبدأ من البحر وتزداد وتيرته وتتصاعد ليتحول في النهاية إلى زئير مرعب يمزق حاجز الصمت في ظلمة الليل.
الناس نيام في البيوت، أيقظ بعضهم صوت الأواني والمقالي، والبعض الآخر استيقظ فزعا عند سماع صوت الأبواب وهي تنغلق بقوة. بمرور الوقت، بدأت الجدران في الاهتزاز، وبالرغم من كل ذلك بقي الجميع بالأعلى.
تصيح الماشية داخل الحظائر بصوت عال من شدة الخوف، والكلاب تنبح من ورائها، تعالت أصوات الصلوات مختلطة بأصوات اللعنات، وباتت الجبال تلقي مرغمة بعضا من حجارتها وطينها، كان المشهد كله عبثيا كأن العالم بأسره فجأة انقلب رأسا على عقب.
امتد تأثير الزلزال حتى وصل حدود مقاطعة “بيتراليشيا”، وما أن وصل هناك حتى أمسك بأساس أحد المنازل وهزه بعنف.
في تلك اللحظة فتح إجنازيو عينيه وهو مذعور كشخص تم إيقاظه من نوم عميق بالقوة، ليفاجأ بمشهد الشقوق وهي تنتشر على جدران البيت، وفي الأعلى كان سقف البيت على وشك أن ينقض فوق رأسه.
“إنه ليس حلما كما كنت أعتقد، إنما هي الحقيقة في أبشع صورها”.
يقع أمامه مباشرة سرير ابنة أخيه “فيتوريا”، يتأرجح بين الحائط ووسط الحجرة، وعلى الأيكة علبة المشغولات المعدنية تهتز، لتسقط بعدها على الأرض بجوار المشهد وموس الحلاقة. في اللحظة نفسها، يتردد صدى صوت صرخات امرأة في كل أنحاء المنزل، وهي تصيح:
ـ ساعدوني! ساعدوني! إنه الزلزال!
صوت الصراخ والعويل دفع “إجنازيو” ليقفز من على سريره ويقف في مكانه، لكنه تذكر في خضم هذه الفوضى والارتباك أنه يجب عليه أن يتأكد أولا أن “فيتوريا” بأمان، فهي مازالت طفلة صغيرة لم تبلغ من العمر سوى تسع سنوات فقط وكانت تبدو خائفة ومذعورة. جذبها “إجنازيو” من ذراعيها برفق، وأجلسها تحت السرير كي يحميها من خطر الأنقاض التي بدأت تتساقط هنا وهناك.
ـ ابقي هنا حتى أعود إليك، هل تسمعينني؟ لا تتحركي من مكانك.
أومأت الطفلة الصغيرة برأسها بالموافقة، لأنها كانت خائفة لدرجة أنها لم تستطع أن تجيبه بالكلام.. “باولو”، “فينسينزيوم”، و”جيوسبينا”.
خرج “إجنازيو” فزعا من الحجرة. بدا الرواق أمامه بلا نهاية على الرغم من أن طوله لا يتعدى بضع خطوات، بدأ ينتابه شعور نخيف بأن الجدران تتحرك من مكانها وتفلت من بين يديه، حاول أن يثبتها بيديه مرة أخرى لكنها كانت تتحرك كأنها كائن حي.
وصل أخيرا لباب غرفة نوم أخيه “باولو”. بدأ شعاع من الضوء يتسرب عبر الأبواب الكبيرة قفزت زوجة أخيه “جيوسبينا” من سريرها بعد أن أيقظتها غريزة الأمومة لتتفقد أحوال رضيعها “فينسينزيو” البالغ من العمر بضعة شهور، كان الخطر يحيط بالطفل من كل جانب. حاولت الأم أن تلتقطه بيديها لأنه كان نائما في أرجوحة مصنوعة من الخوص معلقة بالسقف، ومتدلية لأسفل، لكن الأرجوحة المصنوعة من الخوص لم تستطع في وجه الزلزال، وبدأت تهتز بشدة. بكت المرأة بيأس محاولة الوصول إليه لكن دون جدوى، لأن السقيفة كانت تتأرجح بشدة مانعة إياها من الوصول إليه.
سقط الشال من على كتفيها كاشفا عن ذراعيها العاريتين.
ـ طفلي الحبيب يا أم الرب الطاهرة، ساعدينا!
في النهاية، تمكنت “جيوسبينا” من التقاط الرضيع بصعوبة، حينها فتح “فينسينزيو” عينيه وانفجر في البكاء في وسط هذه الماسأة، رأي “إجنازيو” شبح شخص قادم من بعيد؛ إنه شقيقه الأكبر “باولو” الذي قفز هو الآخر من على مرتبته ليدفع بزوجته نحو الرواق وهو يصيح:
ـ اذهبي إلى الخارج
عاد “إجنازيو” وصاح:
ـ النتظري يا “فيتوريا”
وجد “إجنازيو” الفتاة الصغيرة “فيتوريا” مختبئة في الظلام الدامس تحت السرير، مطوية على نفسها وقد وضعت يديها فوق رأسها لتحميها، فحملها على الفور وجرى بها بعيدا. في تلك اللحظة انفلتت بعض أجزاء الجص الذي يغطي الجدران وسقطت على الأرض مع استمرار ضجيج الزلزال.
كان “إجنازيو” يشعر بالفتاة الصغيرة وهي ترتعد من شدة الخوف كمشرد يبحث عن مأوى، وقد تعلقت بكل قوتها بقميصه أو بالأحرى كانت تعتصره اعتصارا بين يديها من شدة الرعب؛ لقد كانت الفتاة خائفة لدرجة أنها كانت تخدشه بأظافرها دون قصد.
دفع “باولو” بالجميع نحو عتبة البيت كي ينزلوا على السلالم.
ـ تعالوا إلى هنا.
توجه الجميع بسرعة نحو الفناء لأن الهزات الأرضية وصلت إلى ذروتها. جلس الجمع معا، رؤوسهم متلامسة وعيونهم مغلقة؛ هناك خمسة جالسين، الكل كان موجودا في الفناء.
جلس “إجنازيو” يصلي في مكانه وهو يرتعد أملا في النجاة للجميع. أوشك الزلزال على الانتهاء؛ كان لابد أن تأتي لحظة وينتهي.
مر الوقت طويلا كأنه قد تجزأ لملايين الثواني، لينتهي الزلزال كما بدأ، بدأ صوته العنيف يهدأ رويدا رويدا إلى أن توقف بالكامل.
للحظة، لم يبق سوى الظلام.