ردّ بوتين يكبّل الغرب.. تعبئة جزئية وضم مناطق شرق أوكرانيا
في مقال للفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين بعنوان “آخر تطورات الحرب في أوكرانيا” (تعريب د. زياد الزبيدي)، اعتبر أنَّ العالم على شفا حرب عالمية ثالثة يدفع الغرب إليها بإصرار شديد، مؤكداً أن روسيا حالياً في حال حرب مع الغرب بشكل عام قد تتحول إلى حرب نووية، وخصوصاً أن القادة العسكريين الأميركيين، مثل القائد السابق للقوات الأميركية في أوروبا بن هودجز، وقائد حلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، يعلنون صراحة أنَّ هدف الغرب ليس دفع روسيا إلى الانسحاب الكامل من أوكرانيا فحسب، بل إنَّ ما يريدونه هو استسلام غير مشروط من روسيا يؤدي إلى تقسيمها، كما تم تقسيم الاتحاد السوفياتي عام 1991 بعد هزيمته في الحرب الباردة.
انزعاج روسي من الغرب
ما جاء في مقال دوغين لا يبدو أنه انطلق عن هوى، بل هو صدى لما يدور في أروقة الكرملين بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والقادة السياسيين والعسكريين الروس، ما يفسر الخطوات الأخيرة التي اتخذها الرئيس الروسي، والتي فسرها الغرب على أنها تصعيد للنزاع في أوكرانيا.
لقد ضاق بوتين ذرعاً بالدعم الغربي المتواصل لأوكرانيا ضد روسيا، خصوصاً بعد الهجوم الأوكراني الأخير المباغت، الذي أدى إلى انتزاع قوات كييف مناطق واسعة حول خاركيف من القوات الروسية، وهو الذي لم يكن ليتم لولا الدعم اللوجستي والاستخباراتي الغربي للطرف الأوكراني.
هذا الأمر يضاف إلى مواصلة قوات كييف محاولاتها لاستهداف محطة الكهرباء النووية في زاباروجيا، في محاولة للتسبب بكارثة نووية تصدم الرأي العالم العالمي، وتتسبب بضرر كبير في الأراضي الأوكرانية والروسية، ما دفع بوتين إلى الإعلان أن الغرب تجاوز كل الخطوط في سياسته العدائية ضد روسيا، معتبراً أن كييف حصلت على أمر لتقويض مقترحات الحل السلمي التي تقدمت بها موسكو مراراً لإنهاء النزاع في أوكرانيا. من جهته، أعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أن روسيا ليست في حال حرب مع أوكرانيا فحسب، بل مع الغرب برمته.
ضم المناطق الناطقة بالروسية
اعتبر ذلك مقدمة لتوقيع بوتين مرسوماً أعلن بموجبه التعبئة الجزئية في الاتحاد الروسي، التي تقتضي استدعاء الموطنين الروس من ذوي الخبرة العسكرية السابقة أو ذوي المستوى التدريبي المعين للالتحاق بالعمليات القتالية في أوكرانيا. ويترافق هذا القرار مع قرار بوتين الانتقال بالعملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا إلى مرحلة “حماية سيادة روسيا” في مواجهة الغرب.
يأتي ذلك تحسّباً لاستهداف القوات الأوكرانية مناطق ناطقة بالروسية في أوكرانيا عقب ضمها المزمع إلى روسيا بعد إجراء استفتاء فيها بين 23 و27 أيلول/سبتمبر المقبل. والمناطق المرشحة إلى الانضمام إلى روسيا هي جمهوريتا الدونباس لوغانسك ودونيتسك، إضافة إلى منطقتي خيرسون وزاباروجيا.
وقد أعلن بوتين صراحة أن روسيا ستلجأ إلى كل الوسائل لحماية أراضيها، بما فيها استخدام أسلحة الدمار الشامل. تستبق هذه الخطوات مجيء فصل الشتاء، ما قد يؤثر في سير العمليات العسكرية، في محاولة من موسكو لتثبيت التقدم الذي حققته في الأشهر الماضية منذ بدء العملية العسكرية في أوكرانيا، الهادفة إلى حماية المناطق الناطقة بالروسية في شرق أوكرانيا وجنوبها.
وقد لاقى قرار بوتين تأييداً من شرائح واسعة من النخبة السياسية والعسكرية الروسية، إذ كان نائب رئيس مجلس الاتحاد الروسي قسطنطين كوساتشيوف قد أعلن أن الهجوم على الأراضي المحررة في أوكرانيا بعد إجراء الاستفتاء فيها سيعد هجوماً على روسيا نفسها، مشدداً على أن واجب كل روسي سيكون الدفاع عن هذه المناطق، ومؤكداً عدم الاكتراث بما يقوله الغرب في هذا الشأن.
كذلك، أعلن نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي ديمتري مدفيديف أنَّ الاستفتاء في مناطق دونباس وخيرسون مهم لروسيا لتأمين الدفاع عن نفسها، معتبراً أنَّ لهذا الأمر تأثيراً كبيراً في مسار تطور البلاد في العقود المقبلة. وكان وزير الخارجية سيرغي لافروف قد أعلن أن من حق شعب دونباس تقرير مصيره.
قلق أوروبي!
ويبدو أنَّ قرار بوتين بإعلان التعبئة الجزئية أثار قلق الدول الأوروبية، وهو ما انعكس في تصريح رئيس المتحدثين باسم المفوضية الأوروبية بيتر ستانو، الذي أعلن أن الاتحاد الأوروبي ليس طرفاً في النزاع بين موسكو وكييف، لكنه يدعم أوكرانيا واستقلالها ووحدتها، مشيراً إلى أنَّ الاتحاد سيواصل دعم كييف إنسانياً وعسكرياً واقتصادياً.
هذا الإعلان جاء بعد تصديق المجلس الأوروبي على حزمة مساعدات جديدة لكييف بقيمة 5 مليارات يورو، تضاف إلى حزمة سابقة من المساعدات بقيمة 9 مليار يورو. ويبدو أنَّ الاتحاد الأوروبي قلق من إمكانية اتخاذ موسكو قراراً بخفض إضافي لتدفق الغاز والنفط إلى أوروبا على أعتاب فصل الخريف البارد في القارة العجوز، في ظلِّ عجز دولها عن إيجاد بديل من الغاز والنفط الروسي من مصادر أخرى في العالم.
وقد أظهرت البيانات أنَّ تدفقات الغاز من روسيا إلى أوروبا عبر خط أنابيب “يامال أوروبا” توقفت تماماً في 21 أيلول/سبتمبر، لتضاف إلى خط أنابيب “نورد ستريم 1” المتوقف منذ عدة أسابيع. ويخشى الأوروبيون أن يقوم الروس بإيقاف خط الإمداد الروسي عبر أوكرانيا، والذي لا يزال شغالاً حتى الآن، ما قد يؤدي إلى كارثة اقتصادية ومعيشية كبرى في الدول الأوروبية.
والجدير ذكره أنَّ فاتورة الطاقة كانت قد تضاعفت في أوروبا منذ بداية الأزمة الأوكرانية، نتيجة ما يعتبره الأوروبيون تعطيلاً متعمداً من موسكو لإمدادات الغاز والنفط، رداً على دعم دول الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا في النزاع مع روسيا، وهذا دفع آلاف المتظاهرين في عدد كبير من العواصم الأوروبية إلى التظاهر تنديداً بمواقف حكوماتهم ضد موسكو، والتي انعكست سلباً على أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية.
وقد عبّرت صحيفة “الغارديان” الليبرالية البريطانية عن مخاوف من قيام الحكومات الأوروبية بالخضوع للإرادة الروسية والعمل على تهميش “القضية الأوكرانية في الوجدان الأوروبي”، خوفاً من معاقبة الروس لهذه الحكومات بوقف إمدادات الطاقة نهائياً.
عجز أميركي
في موازاة هذا التراجع الأوروبي، يبدو أنَّ الولايات المتحدة استنفدت احتياطها من الأسلحة والذخائر التي أمدت بها أوكرانيا لإطالة أمد النزاع مع روسيا، ما جعلها تلجأ إلى دول في الشرق الأوسط، طالبة منها تزويد أوكرانيا بما تملكه من مخزون السلاح السوفياتي الذي تملكه منذ زمن الحرب الباردة.
ووفقاً لصحيفة “نيويورك تايمز”، خلال زيارته منطقة الشرق الأوسط، طلب الرئيس الأميركي جو بايدن من عدد من دول المنطقة تزويد كييف بما تملكه من سلاح سوفياتي الصنع، بسبب قرب نفاد مخزونات السلاح في الولايات المتحدة وأوروبا، لكن بايدن لم يلقَ تجاوباً من دول الشرق الأوسط، ما ردَّه خائب الرجاء.
ووفقاً للباحث في معهد بريماكوف الوطني لبحوث الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية، إيليا كرامنيك، من المستبعد أن تتجاوب مصر والعراق والأردن والإمارات العربية المتحدة مع المطالب الأميركية، وخصوصاً أن ثمة علاقات طيبة تجمعها بموسكو لا تريد إفسادها، إلا أن بعض الخبراء في جريدة “كوميرسانت” الروسية يخشون أن يستغل البيت الأبيض الأزمات الاقتصادية التي تعانيها بعض هذه الدول لإغرائها بمعونات مالية وقروض من صندوق النقد الدولي، إضافةً إلى عقود مغرية بالحصول على مشتريات من السلاح الأميركي المتقدم حتى تقبل ببيع ترسانتها من الأسلحة السوفياتية القديمة لكييف بأسعار مخفضة.
النصر وشروطه
هذه المعطيات قد تشير إلى أن موسكو متجهة إلى تحقيق النصر، ولو بعد حين. والجدير ذكره أنَّ روسيا لا تملك رفاهية خسارة هذه الحرب؛ ففي هذه الحالة، إن القوى الغربية لن توقف زحفها عند الحدود الأوكرانية الروسية، بل ستنطلق للضرب في العمق الروسي؛ في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى.
لكنْ هناك شروط لتحقيق النصر يوجزها ألكسندر دوغين في مقال آخر بعنوان “شروط النصر” (تعريب د. زياد الزبيدي). ووفقاً لدوغين، حتى تحقق روسيا النصر، فإن عليها تعميق الوعي الجمعي الجيوسياسي الروسي بحقيقة ما يجري في أوكرانيا، وإعلان الأحكام العرفية في بعض المناطق الحدودية المتاخمة لساحات التوتر والقتال، وإعادة هيكلة الاقتصاد الروسي ليتحول إلى اقتصاد حرب، وإعلان التعبئة العامة (وليس فقط التعبئة الجزئية)، وتحريك المجتمع الروسي ككل للانخراط في الحرب تحت عنوان ثقافة الصحوة، وتعزيز الولاء الوطني الروسي، خصوصاً في أوساط الفئات الروسية المتذبذبة في موقفها من الحرب.
الميادين نت