رسائل إلى ثائر حائر «1» (بلال فضل)
بلال فضل
نحن الآن نعيش تلك الأيام التي تأكل فيها الثورات أبناءها، فلا تدع ثورتك «تاكلك».
كان الكثيرون من أبناء هذه الثورة يتعاملون مع جملة (الثورات تأكل أبناءها) بإستخفاف لأنهم يعتبرونها قادمة من عصور المشانق والمقاصل التي لم يعد لها مكان في زماننا، لكنهم لم يدركوا أن معنى العبارة أعمق من الأكل بمفهومه المادي القمعي، فالثورات تأكل معنويا أبناءها الذين لا يدركون تقلبات الخلق أيام الثورات، ولا يكونون مستعدين للتعامل مع تلك التقلبات العنيفة التي تجعل المرء يصبح ثائرا ويمسي خائرا، ليس بتغيير جلودهم وفقا لتلك التقلبات، بل بفهم أسبابها والتعامل الإيجابي معها، حتى لا يأكل الثائر نفسه من الغيظ، وهو يرى أناسا تخاطبه بكلام من نوعية «خربتوا البلد.. كان ماله مبارك.. ما كنا عايشين وراضيين».
أنت تدرك أن نغمة الحنين إلى الماضي المباركي تتصاعد بإنتظام في هذه الأيام التي «مش عارفين نعيشها» بفضل الجريمة الكبرى التي ارتكبها الإخوان عندما سمح غباؤهم السياسي باختلاط الحابل بالنابل في ميادين مصر، ليمنحوا الفرصة للموقوذة والمتردية والنطيحة لإدعاء الثورية والوطنية، لكن لا تتوقع من هذه النغمة الكريهة أن تختفي سريعا، فهي على العكس مرشحة للتصاعد، يكفي أن تشاهد حديثا تلفزيونيا لأي قيادي إخواني، لتدرك أن هؤلاء القوم اختاروا أن يعيشوا في أكبر حالة إنكار مَرَضية يشهدها الطب النفسي في تاريخه، وكلما زاد عنادهم في إنكار الواقع كلما زادت صعوبة مهمتك في مواجهة تقلبات الواقع الكريهة.
ياصديقي، عندما يغني كُلٌ على ليلاه، تمسك بذاكرتك فهي سلاحك الوحيد، وتذكر أن ليلى التي ضحيت بروحك من أجلها هي مصر الحالمة بالعيش والحرية والعدالة الإجتماعية، ولذلك لا تدخل في مناقشات عبثية تستهلك طاقتك الإيجابية، ولا تضيع عمرك وأنت تحاول إقناع الذين اختاروا العبودية بأن كل ما نشكو منه من فضلات لم يخرج إلا من مؤخرة نظام مبارك، وأنه لا سبيل لنا لكي نحظى بالتقدم والرخاء إلا بتفكيك القنابل المفخخة التي تركها لنا نظام مبارك ، تذكر أن من ترغب في إقناعه ببديهيات كهذه، ربما كان يحتفل مع مبارك وأنجاله بكأس الأمم الأفريقية في اليوم التالي لغرق عبارة ممدوح إسماعيل وعلى متنها ألف ومائة مصري في قاع البحر الأحمر، وأنه بالتأكيد لم يكن يجد أدنى أذى في كونه يعيش في وطن يتم فيه إنتهاك كرامة الناس وتعذيبهم وهتك عرض حريمهم ونفخهم وصعقهم بالكهرباء، لذلك هو يرى الحل لكل ما نحن فيه أن يعود ثانية ذلك العهد المبارك ليفعل ذلك بمن يكرههم من رافعي الشعارات الإسلامية، دون أن يسأل نفسه «إذا كان ذلك حلا فلماذا ظللنا نحتفظ بمشكلة إنتشار تيارات الشعارات الإسلامية في بلادنا برغم كل ذلك القمع؟»، ومثل هذا لا تحاول أن تسأله «كيف تدعي أنك تحارب الفاشية الدينية وكل ما يخرج من فمك ليس سوى فاشية وعنصرية وإستعلاء على البشر وكسل عن مواجهة تعقيدات الواقع وإستسهال للقمع والتعذيب»، لا تسأله كيف تشجع الميليشيات التي تحرق ممتلكات الناس وتعتدي على المدنيين دون أن تفكر أنها سلاح ذو حدين يمكن أن يستخدمه من يعارضك الرأي، صدقني لا أمل بإقناع هذا، فقط اترك الواقع لكي يلقنه نفس الدرس الذي سيلقنه للمتطرف الإسلامي، ذلك الدرس الذي يمكن تلخيصه في «يا نعيش سوا عيشة فل.. يا نخربها إحنا الكل».
أكثر ما يمكن أن يلهمك في هذه الأيام الخنيقة التي تمر بها البلاد كلمات المفكر الثوري علي شريعتي في كتابه الرائع (بناء الذات الثورية) وهو يقول بعد تأمل طويل لتاريخ الثورات «إن الإنسان لا يستطيع أن يبقى مخلصا وصادقا في ثورة إجتماعية حتى النهاية ووفيا لها، إلا إن كان ثوريا قبلها ومتناسقا معها، فليس الإنسان الثوري هو الذي يشترك في ثورة إجتماعية فحسب، فما أكثر الإنتهازيين والمغامرين والنفعيين الذين يشتركون فيها، وهم جرثومة الإنحراف في كل الإنتفاضات، وفشل كل الإنتفاضات من جراء إشتراكهم فيها، لأن الثوري قبل كل شيئ جوهر أعيدت صياغة ذاته»، لذلك لا تراهن على أحد سوى على نفسك وأحلامك ومبادئك، فلن تنتصر هذه الثورة إلا بالقليلين الذين آمنوا بها قبل أن يروها، صدقني لن ننتصر على كذب الإخوان بمن يحنون إلى كذب مبارك، لن نهزم إستبداد الإخوان بمن يترحم على أيام إستبداد حبيب العادلي، لن نغير واقعنا بمن يرى أن أحمد شفيق كان أحسن لأنه كان «هيلم كل الأشكال دي ويرميها في السجون»، فمن يقول هذا شخص مصاب بغيبوبة فكرية تمنعه من إدراك أن أي قمع مسلح للإسلاميين سيدخل مصر إلى سيناريو مظلم تخبطت فيه دولة مثل الجزائر لأكثر من عقد من الزمان، صدقني لن ننتصر إلا عندما يعيد كلٌ منا بناء ذاته الثورية وننجو من آفة الزياط الثوري التي تجعل بعضنا يجبن عن مواجهة الواقع بما فيه من عك وتناقضات وأخطاء بما فيها الأخطاء التي نرتكبها والتناقضات التي نقع فيها، لأننا إذا هربنا من تلك المواجهة لن نكون قد إختلفنا عن الخرفان الذين نسخر من إدمانهم لنطاعة السمع والطاعة.
أنت يائس، وماله؟، مجهد؟، ليس عيبا، إتخنقت؟، ومن منا ليس كذلك؟، اليأس ليس عيبا، ليس خيانة كما نحب أن نقول أحيانا لكي نحمس بعضنا البعض، لا تستسلم لمن يلعن اليأس، ولا لمن يروج للأمل، لا تستسلم لمن يقول أي شيئ، بما فيه ما أقوله أنا، يمكن فقط أن تتذكر «أبونا» صلاح جاهين وهو يجيب قرار الحياة بقوله «صبرك ويأسك بين إيديك وإنت حر.. تيأس ما تيأس الحياة راح تمر.. أنا شفت من ده ومن ده عجبي لقيت.. الصبر مُرّ وبرضك اليأس مُرّ»، فاختر لنفسك ما شئت، ونم على الجنب الثوري الذي يريحك، لكن لا تستهن بقوة اليأس أبدا، فلولا اليأس ما انفجرنا في 28 يناير، ومن يدري، ربما كان اليأس أملنا الوحيد الآن، وربما لا، الله أعلم.
ولذلك حديث آخر غدا، إذا عشنا وظل فينا الرمق.
صحيفة الشروق المصرية