رسالة مفتوحة إلى الأحزاب السورية (2): مطالب التغيير في استراتيجية العمل عند البعث!
عندما كان حزب البعث في سورية خارج السلطة، خاض الانتخابات الديمقراطية، وحاز على مجموعة مقاعد في البرلمان السورية لم يتمكن من الحصول عليها لا حزب الاخوان المسلمين ولا الحزب الشيوعي السوري، ويتذكر جميع المتابعين للشأن السياسي السوري أن تلك المعطيات التي تعود إلى برلمان الخمسينات يوم دخل البرلمان أول نائب شيوعي هو خالد بكداش أثارت جدلا مهما، وأضحت مثالا يضرب كلما جرى حديث عن الأحزاب السورية، ومحصلة هذه المعطيات أن البعث كان يجمع حول أفكاره جمهورا واسعا أيد هذا الجمهور في المنعطفات التاريخية، وخاصة الانتخابات .
وبين عام 1963 حيث وصل إلى السلطة بعد الثامن من آذار وعام 2017 حيث مرت سبع سنوات على حرب واسعة من أهم أهدافها إسقاط النظام القائم الذي يعتبر حزب البعث جسده الأساسي السياسي، بين هذين العامين مر أكثر من نصف قرن ومرت معه منعطفات كثيرة لابد من عنونتها لما تعنيه في سياق هذه الرسالة :
– 18 تموز 1963 وهو أول صراع مع الحلفاء (الناصريون) بعد الوصول إلى الحكم أسفر عن معركة دامية في ساحة الأمويين قتل فيها أكثر من مائة شخص، وخرج بعدها الناصريون من الحكم ولوحقوا على أرضية ماعرف باسم حركة جاسم علوان وظل التناقض قائما إلى الآن..
– بعد 18 تموز بدأت الصراعات بين التيارات التي يتشكل منها البعث، وهي تيارات اليمين والوسط بأجنحتهما المختلفة المدنية والعسكرية، وحسمت هذه الصراعات عسكريا في 23 شباط 1966 وحمل التيار الذي حسم الصراع مع اليمين اسم : حركة 23 شباط ، وأسقط عندها الفريق أمين الحافظ الذي كان رئيسا لمجلس قيادة الثورة..
– في 16 تشرين الثاني 1970 حسم جناح الوسط في 23 شباط الذي كان يقوده وزير الدفاع أنذاك الفريق حافظ الأسد حسم الصراع وأقام ماعرف بالحركة التصحيحية في برنامجها المعروف في اتجاهات الانفتاح الداخلي على الأحزاب والعربي على مصر وليبيا والسودان وغيرها وعلى العالم الاتحاد السوفييتي ودول عدم الانحياز..
– هذه المفاصل الأساسية التي سبقت استقرار البعث لمرحلة طويلة شهدت أيضا منعطفات وهزات مختلفة في أحداث السبعينيات والثمانينيات الدامية مع الإخوان المسلمين وظل التناقض قائما ودمويا إلى الآن..
– وفي الثمانينات ظهر تناقض بعد مرض الرئيس الأسد داخل بنية الحكم، لكنه انطفأ سريعا، وتم تعيين ثلاثة نواب للرئيس على أثرها هم عبد الحليم خدام ورفعت الأسد ومحمد زهير مشارقة ..
– ثم توفي الرئيس حافظ الأسد عام 2000 لتبدأ مرحلة جديدة لكن البعث ظل فيها حاكما وكان مرتكزا سياسيا في أدوات الحكم للمرحلة التي امتدت إلى الآن
في الخمسين سنة التي مرت، لم نشهد أي تطور سياسي انفتاحي في أداء حزب البعث، إلا في مطلع السبعينيات، وسريعا نشأ تناقض جديد مع الناصريين (الاتحاد الاشتراكي) منشأه شكل الحكم وهيمنة البعث ، كما وصفه الدكتور جمال الأتاسي وقتها وظل قائما إلى الآن ويمثله حسن عبد العظيم الذي كان نائبا للأتاسي..
كما نشأ تناقض مع الشيوعيين (كان الحزب الشيوعي السوري بزعامة خالد بكداش قد انقسم)، فتحول جناح المكتب السياسي بزعامة رياض الترك إلى المعارضة، ومازال التناقض قائما إلى الآن مع كل تلاوين بقايا هذا الجناح ..
كذلك حصل تناقض مع اليسار الجديد بمجموعه، وقد نشأ هذا اليسار بعيدا عن التحالف الجبهوي القائم، وكان أبرز التناقضات مع رابطة العمل الشيوعي (حزب العمل الشيوعي) وكان في صفوفه مجموعة رموز لابد من ذكرها الآن لمعرفة تنوع تناقضها مع البعث : ففي صفوفه : الدكتور عبد العزيز الخير، المهندس فاتح جاموس ، أصلان عبد الكريم ، وائل السواح ومن ضمنهم لؤي حسين ، والتناقض مع اليسار الجديد مستمر حتى الآن ..
وحتى في المراحل الصعبة التي أعلن فيها مثلا عن أنواع متباينة من الانفتاح السياسي، كانت تنتهي مع انتهاء الأزمة : كلجنة تطوير الجبهة التي نشطت عام 1979 و1980 وفتحت حوارا مع الفعاليات السياسية والثقافية والاقتصادية ، إلا أنها عادت وانكفأت واكتفت بتعديلات شكلية كضم ممثل نقابات شعبية إلى الجبهة ، بينما انكفأت هذه الجبهة بعد اندلاع الخرب عام 2011 ، وانكفأ نشاط البعث بل كان مستغربا أن أعدادا كبيرة منه ذهبت إلى الجهة الأخرى في لعبة الصراع الدامي التي لم تحسمها الحرب بعد !
ما المطلوب من حزب البعث، كمرتكز سياسي في بنية الحكم يستمر حتى بعد دستور عام 2012 ، ولماذا اضطرت صحيفة البعث قبل حل القيادة القومية مؤخرا إلى استخدام عبارة ((.. وأخيرا)) وكأن الاصلاح الحزبي تأخر، وهذا يعني أن هناك حاجة لاستراتيجية جديدة كان ينبغي أن تفرزها الحرب على الأقل لأن حزب البعث كان في قائمة الاستهداف من لحظات ((الربيع العربي )) عام 2011 .
سؤال مهم ، أن يكون موضوعه : ماهو المطلوب؟!
وهنا يفترض اللجوء إلى التجارب التاريخية، فالأحزاب غالبا ماتقيّم تجاربها بين مرحلة وأخرى، وبين منعطف وآخر، وحزب البعث لم يفعل ذلك في كل الصراعات السابقة، اللهم إلا إذا كان يعتبر أن الأداء السياسي لبنيته الحزبية كان سليما ولايحتاج إلى هذا النوع من التقييم، وعندها ستعارضه مجموعة الأحزاب السورية وحتى عدد كبير من أعضائه !
نقرأ في صحيفة البعث بعد المؤتمر القومي الأخير: “لقد طال انتظار هذه الجماهير لفاعلية هذا الدور على المستويين القطري والقومي، وهي ترى بعين الحقيقة والواقع تعثّر، بل تراجع العمل الحزبي القومي ومؤسساته ممثلة تحديداً بالقيادة القومية السابقة التي أثقل كاهلها مرور الزمن وقساوة الظروف ولم تستطع النهوض بالمُلقى على عاتقها، لا على مستوى النظرية، ولا على مستوى الممارسة.”
المقصود هنا ممارسة كل فرع من فروع الحزب، وبالتالي لابد من السؤال عن موقع البعث السوري ((الأم)) من هذا التوصيف ؟!
يذهب المؤتمر القومي إلى التغيير الشكلي، ويؤجل التغيير الجوهري الذي ينبغي أن يتوافق مع دستور 2012 على الأقل ، فيقول : ” تـأجّـــل البتّ مؤقتاً في نص الميثاق القومي للبعث بسبب أولوية الاتفاق على “مشروع القواعد التنظيمية العامة”، لكنه يؤكد : “كان انعقاد المؤتمر لحظة وفرصة مناسبة لإعادة صياغة أسس جديدة واعية وواعدة للعمل القومي العربي”
وعندما عرضت وكالة الأنباء السورية تغطية للاجتماعات أشارت إلى أن المهندس هلال هلال وهو الأمين القطري المساعد للحزب عرض “ضرورات انعقاد المؤتمر والمتمثلة بأسباب تنظيمية وإصلاحية تطويرية وسياسية لافتا إلى أن النهج الفكري للحزب ثابت لا يتغير” ، وثبات النهج الفكري يستلزم وقفة عند الممارسة، إلا أنه يعود ويلفت إلى” أن حركة الحزب في سورية تشهد “تقدما وازدهارا دائما” ودليل ذلك أن المؤتمرات القطرية واجتماعات اللجنة المركزية للحزب استمرت بالانعقاد رغم كل الظروف التي تمر بها سورية موضحاً أن ذلك أيضاً دليل على”حيوية الحزب وأطروحاته التطويرية”!
إن التريث تجاه التغيير التنظيمي الذي تم، وما ينتج عنه على صعيد نقد الممارسة السياسية للحزب لايعني إغلاق الحوار مع الشارع السياسي تجاه المرحلة السابقة، والمفيد هنا أن نؤكد أن جوهر التوجه إلى سورية القادمة ينبغي أن يقوم على هذا الأساس والبناء على الحوار والانصات إلى مطالب الشعب السوري بكل اتجاهاته والبناء على النقد والنقد الذاتي بين الأحزاب السورية سواء كانت في السلطة أو خارج السلطة، وإذا كان من الضروري التنويه بدور الحياة الحزبية في سورية طوال عقود الاستقلال، فإن الحقيقة الماثلة الآن هو الموات الذي تعيشه الأحزاب والتراجع الكبير في أدائها، وخاصة فيما يتعلق بالرؤية للمرحلة الجديدة التي قد تكون قد بدأت !!