رصد وتوثيق تناقضات «مذكرات أمة» في طبعته الجديدة (قاسم بن خلف الرويس)
رصد ومراجعة: قاسم بن خلف الرويس
حين كان ينقل ما يردده الملك عبدالله بن الحسين ملك الأردن (ت1370هـ/1950) في أحاديثه وكتاباته في فترة من الفترات إلى الملك عبدالعزيز كان يقول: «ليس في نفسي والله شيء عليه، ما الذي أساء به إليّ عبدالله؟ إنه أهدى إلينا في إبان احتياجنا وضيق ذات اليد أكواماً من أنواع السلاح الحديث والعتاد والمؤن، وعدداً من الخيل والجيش تركها كلها ليلة «تربة»! وكان هذا ينقل إلى عبدالله فيزداد حنقاً، إذ كانت معركة تربة 1919/1337هـ معركة فاصلة في علاقة ابن سعود بالأشراف في الحجاز، لأن تلك الهزيمة القاسية كسرت العمود الفقري للجيش الهاشمي، فجميع ما استولى عليه عبدالله بعد استسلام المدينة المنورة من السلاح الثقيل والخفيف والآلات والأدوات للدولة العثمانية، خسره بعد أربعة أشهر في تربة، إذ استولى عليه ابن سعود!
فالعلاقات بين الدول تقوم على مجموعة من المعطيات تفرضها الظروف والمصالح، وربما تتغيّر تلك العلاقات بين فترة وأخرى تبعاً لذلك، متجاوزة المواقف الشخصية إلى مجال أرحب وأفق أوسع، وتظل العلاقات العربية – العربية جزءاً من نسيج العلاقات الدولية، إلا أن الروابط العميقة والصلات الوثيقة تدفع بها دوماً إلى الأمام بفكر بعض القيادات السياسية ذات الهمة العالية، التي تتجاهل صغائر الأمور في سبيل هموم الأمة الكبيرة.
وكانت العلاقات السعودية – الأردنية منذ نشأتها متأثرة بالعلاقات بين ابن سعود والأشراف، إذ ورث عبدالله بن الحسين عن والده مناوأته لابن سعود ومجافاته له، فانتهج معه سياسة غير ودية، فكانت القبائل الأردنية تغير على القوافل النجدية المتجهة إلى الشام، فتنهبها، أو تعتدي على القبائل التابعة لابن سعود، ورداً على ذلك قام الإخوان بمهاجمة تلك القبائل آخر 1340هـ، ومع ذلك استمرت غارات العشائر الأردنية في نهب القوافل والقبائل النجدية في السنتين التاليتين، ولم يتوقف الأمر عند ذلك النشاط العشائري الموجه سياسياً، بل أقدمت الحكومة الأردنية على احتلال قريات الملح، وكان الملك عبدالعزيز قادراً على استعادتها بالقوة، ولكنه مال إلى الحل الودّي بوساطة بريطانية، فتريّث حتى نهاية مؤتمر الكويت 1342هـ، وبعد فشل المؤتمر، توجهت سرية من الإخوان فتوغلت في أراضي الأردن أوائل 1343هـ حتى شارفت على عمّان، ولولا الطائرات والمصفحات البريطانية لدخلوها!
ولما أدركت بريطانيا قوة الملك عبدالعزيز، الذي كان يحاصر جدة في تلك الفترة، عقدت معه نيابة عن الحكومة الأردنية «اتفاق جدة» في 15/4/1344هـ/ 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1925 الذي حدد الحدود بينهما، وأعاد قريات الملح لابن سعود.
وبمرور الأيام، تحسنت العلاقات بوساطة فيصل بن الحسين ملك العراق والحكومة البريطانية، ففي آخر سنة 1351هـ/1933 تم الاعتراف المتبادل بين الطرفين بكون الملك عبدالعزيز ملكاً على المملكة العربية السعودية والأمير عبدالله أميراً على شرق الأردن.
وفي حين تعفف الناشر الإنكليزي لمذكرات الملك عبدالله عندما ترجمت عن نقل الإسفاف الذي لا يليق أن يصدر عن أمير ينتسب إلى الدوحة الهاشمية! نجد اثنين من مراكز البحث والتوثيق العلمية يرتبطان تنظيمياً بأعلى سلطة سياسية في دولتيهما يشتركان في إعادة نشر مذكرات وآثار الملك عبدالله بن الحسين بعد عقود طويلة من السنوات بطريقة أقل ما يقال عنها إنها غير علمية! ونعرض هنا مراجعة أولية لكتاب «مذكرات أمة» الصادر عن هذين المركزين بتفصيل يحتاج إلى تفصيل.
< شاهدت في أحد معارض الكتب العربية كتاباً عنوانه «مذكرات أمة» تعلو غلافه صورة واسم الملك عبدالله الأول بن الحسين فتصورته جديداً، وحرصت على اقتنائه بمجرد معرفتي أنه نشر مشترك لاثنين من مراكز البحث العلمي كونها تتسم بتطبيق القواعد الأكاديمية، لكنني فوجئت بعد اطلاعي على الصفحات الأولى من الكتاب بأن لدي نسخاً متعددة منه، وهو مجرّد إعادة نشر للآثار الكاملة لملك الأردن عبدالله الأول التي طبعت مراراً مجموعة أو متفرقة. من هنا، بدت لي ملاحظات منهجية على عمل الناشرين وأردفتها بملاحظات عامة على عمل المؤلف، وملاحظات تفصيلية متعلقة بالتاريخ السعودي، أضعها أمام القارئ دفعاً للالتباس وتوضيحاً للحقيقة وتصحيحاً للمفاهيم وتقويماً للأخطاء، كل ذلك هو تكريس للأصول العلمية والتزام بالقواعد البحثية، وخدمة للعلم والتاريخ. ولعل في مراجعتنا لـ «مذكرات أمة» استجابة لما جاء في مقدمة الناشرين حيث قالا: «إن مذكرات أمة جديرة بأن تحظى باهتمام الأمة دراسة ونقداً موضوعياً وتحليلاً تاريخياً ودراسات مقارنة لجلاء حقائق تلك المرحلة عساها تنير الدرب للأجيال فتحمل الأمانة…».
أولاً: الكتاب وموضوعاته
صدر الكتاب في طبعته الأولى سنة 1430هـ/ 2009م، ونشره المركز الوطني للوثائق والبحوث في أبو ظبي بالاشتراك مع مركز الوثائق الملكي الأردني الهاشمي في عمّان، والكتاب كما ذكرنا إعادة نشر للآثار الكاملة لملك الأردن عبدالله الأول ابن الشريف الحسين بن علي، وهو جزءان في مجلد واحد (870 صفحة) حيث شغل الجزءان وملحقاتهما 747 صفحة أما بقية الصفحات فضمت ألبوماً للصور.
وتضمن الجزء الأول من الكتاب ثلاثة أبواب، فيما جاء الجزء الثاني في بابين، وأضيفت ملاحق عن عهد المؤلف تتضمن تصريحات ومقابلات وبرقيات ومذكرات ووثائق، ثم تأتي الفهارس الفنية متبوعة بالصور في 123 صفحة.
ثانياً: ملاحظات منهجية على عمل الناشرين
1 – من المستغرب أن يكون هذا الكتاب إصداراً مشتركاً لاثنين من المراكز العلمية الرسمية المعروفة فيخلو من بيان لأصل الكتاب وطبيعته، على رغم أنه إعادة نشر للآثار الكاملة للملك عبدالله الأول ابن الحسين التي سبق نشرها وطباعتها أكثر من مرة واحدة.
2 – تم تغيير عنوان الكتاب إلى عنوان آخر «مذكرات أمة» مع بعض الإضافات والتنقيح، من دون بيان لذلك أو إشارة إليه، وأتصور أن في ذلك إيهاماً وتلبيساً على القارئ بمحتوى الكتاب، وكأن هذه المذكرات كتاب جديد، وهذا الأمر مخالف لأصول البحث والأمانة العلمية.
3 – لا يخفى أن اختيار عنوان «مذكرات أمة» لوسم (الآثار الكاملة للملك عبدالله بن الحسين) عمل مقصود وله دلالته على توجهات دعائية! تهدف إلى إبراز هذه الآثار وقبولها من القراء وتسليط الأضواء عليها لاعتمادها كمصدر تاريخي مهم للأمة العربية.
4 – لم يشر القائمون على نشر الكتاب إلى الأصول المعتمدة في نشره، وهل اعتمدوا نسخاً مخطوطة لآثار الملك عبدالله أم نسخاً مطبوعة؟! وإذا كان الاعتماد على المطبوعة فما هي الطبعات المختارة التي اعتمدوها؟! وهل كان الاعتماد على طبعات الآثار الكاملة أم الطبعات المستقلة لكل أثر على حدة؟! وما هو سبب اختيارهم؟! ولا شك في أن تجاوز مثل هذا الإفصاح أمر غير مقبول ويتنافى مع قواعد البحث العلمي ويثير تساؤلات.
5 – في حين تشير المقدمة إلى الجهود لخدمة الكتاب كتخريج الآيات والأحاديث وتمييزها وتوثيق المذكرات والفهرسة الفنية، نلاحظ تجاهلاً تاماً لبيان المنهج في التعامل مع نصوص الأعمال الكاملة للملك عبدالله بن الحسين في هذا الكتاب، على رغم ما اعترى هذه النصوص من تصرف كالحذف وإعادة الصياغة والتصحيح وغير ذلك، ولا شك في أن السكوت عن ذلك خطأ لا تقبله الأصول العلمية.
6 – حذفت من الكتاب، خصوصاً المذكرات، أسطر وجمل وعبارات وكلمات، ولم يتم التصريح بهذا الحذف أو بيان سببه في الحاشية، بل اكتفى القائمون على الكتاب بالإشارة في الحاشية في عدد محدود جداً من مواضع الحذف إلى وجود النص في الآثار الكاملة للملك عبدالله، ولكن، من دون تصريح بالحذف أو بيان لطبعة الكتاب المحال إليه أو ذكر لرقم الصفحة، ولا شك في أن في هذا الأسلوب تعمية متعمدة لبتر النصوص بطريقة الإحالة المبهمة، وهو أمر لا يمكن قبوله لما فيه من استغفال للقارئ وتمويه.
7 – إن أغلب الحذف الذي أشرنا إليه كان يستهدف النصوص المتحاملة أو المسيئة للسعوديين أو (الوهابية)! والتي تتضح من خلالها الضغينة التي ربما كان المؤلف يحملها في وقت من الأوقات، ومن الطبيعي أن يكون لها تأثير في مدى حياديته وبالتالي في درجة الموضوعية والموثوقية في مؤلفاته. ولا شك في أن الحذف بهذه الطريقة محاولة لإضفاء رداء الموضوعية والتجرد على هذه المذكرات ويكسبها مزيداً من الثقة.
8 – لم يلتزم القائمون على الكتاب بتوثيق المعلومات التاريخية الواردة فيه أو العمل على تحقيقها أو تدقيقها على الأقل، بل نشروها كما هي في طبعات الآثار الكاملة الأخرى، إلا ما قاموا به من بتر وحذف وتقليم وتهذيب – أو بمعنى أصح تعمية لبعض المعلومات المسيئة التي ربما رأوا أنها غير لائقة أو مثيرة – خصوصاً أن الكتاب مشروع مشترك لمركزين علميين مختصين للبحوث والوثائق! وعلى رغم ذلك فقد فاتهما – بقصد أو بغير قصد – ذكر معلومات أخرى مسيئة ومثيرة!
9ـ بما أن الكتاب تضمن حوالى سبعة آثار تقريباً للملك عبدالله بن الحسين فقد كان جديراً التعريف بكل واحد منها على حدة متضمناً سنة تأليفه وسنة نشره وعدد طبعاته وما شابه من معلومات، لأن هذه المؤلفات هي المرجع الأصلي الذي يفترض الاستناد إليه عند النشر، وحيث إن ناشري الكتاب لم يلتفتا إلى ذلك ولم يهتما به فإن عرضنا لبعض المعلومات حول هذه الآثار أمر مهم يقتضيه السياق العلمي، وتتلخص هذه المعلومات في ما يأتي:
أ – الأمالي السياسية: نشرت ضمن الآثار الكاملة وكان عنوانها في طبعة الأهلية (الأماني السياسية) ولعله خطأ مطبعي لأنها ليست أماني بمقدار ما هي مذكرات.
ب – المذكرات: وهي مطبوعة، قال في مقدمتها إنها (دفتر حياته) وقد ترجم إلى الإنكليزية ونشر بها، كما نشرتها مجلة «الرائد» تحت عنوان «مذكرات الملك عبدالله» سنة 1947م/ 1367هـ، ونشرتها دار المعارف بالقاهرة تحت عنوان «مذكرات الملك عبدالله» سنة 1955م بتحقيق ليفي بروفنسال، وطبعت بإشراف مصطفى الخرسا سنة 1965م/ 1385هـ، كما نشرتها المطبعة الهاشمية في عمّان سنة 1970/ 1390هـ ونشرتها «الأهلية» في عمّان تحت عنوان «مذكراتي» سنة 1989/ 1409هـ، وطبعتها «الأهلية» طبعة ثانية سنة 1998/ 1418هـ [وهي الطبعة التي بين يدي] وطبعت أيضاً ضمن الآثار الكاملة.
ج – التكملة: والمقصود تكملة المذكرات وقد طبعت مستقلة بعنوان «التكملة من مذكرات حضرة صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبدالله بن الحسين» في المطبعة التجارية بالقدس سنة 1951م، وطبعت ضمن الآثار الكاملة أيضاً.
د – من أنا: يتحدّث فيه عن العرب: قديمهم وحديثهم، وتناول تاريخ الإسلام، والفتوحات حتى العصر العثماني، وشيئاً من الإمارة الهاشمية في مكّة المكرّمة، إضافة إلى نبذة حول العلوم عند العرب، وخاتمة حول الثورة العربية الكبرى. وتجري فصول الكتاب على أسلوب السؤال والجواب. وقد طبع ضمن الآثار الكاملة، ولعلها الرسالة التي أشار الزركلي إليها في آخر المذكرات حيث قال: «وفي آخره رسالة قال إنها من تأليفه سماها (موجز التاريخ الإسلامي)»
هـ – جواب السائل عن الخيل الأصائل: وهو رسالة وضعها الملك إجابة للشيخ فؤاد الخطيب، وتكلّم فيها عن فضائل الخيل العربية الأصيلة، وأصنافها، وألوانها، وجيادها، وشياتها، وصفاتها وعيوبها، وأنسابها وأجناسها، ووصفها عند العرب وفي الشعر العربي والشعر العامي، وقد طبعت ملحقة بكتاب (عقد الأجياد في الصافنات الجياد) للأمير محمد عبدالقادر الجزائري كما نشرها «المكتب الإسلامي» وطبعت أيضاً ضمن الآثار الكاملة.
ز – المنثور: طبع ضمن الآثار الكاملة وهو عبارة عن عدد محدود من الخطب والكلمات في مناسبات مختلفة، وهو أصغر الآثار حجماً.
ح – المنظوم: وهو ديوان من الشعر الفصيح، طبع ضمن الآثار الكاملة كما طبع شعره في ديوان من أجزاء بعنوان (خواطر النسيم) تولى جمعه وتحقيقه ودراسته خلف النوافلة.
10 – مع هذه الملاحظات الجوهرية والتصرفات غير العلمية نجد الناشرين يقولان في المقدمة ما نصه: «وتتجلى الحقائق بين يدي الكتاب والتي أدلى بها المؤلف في بواكير الأحداث… لقد ألم الملك عبدالله بن الحسين بأحوال الأمم والدول والمبادئ والأفكار التي أقامت عليه أنظمتها… أما الواقع… فيكشف عن شخصية فذة لا تخشى في الحق لومة لائم…».
الوصول إلى الحقائق التاريخية أمر في غاية الصعوبة، ولكن الباحثين يسعون إليها وربما وصلوا إلى جزء منها وربما لم يصلوا! فالقطع بأن الحقائق تتجلى بين يدي كتاب معيّن لطرف غير محايد، هو كلام جزافي لا يتفق مع الأعمال العلمية الرصينة!
11 – لنتأمل ما جاء في المقدمة أيضاً: «لقد تناول المؤرخون والساسة بالتحليل وثائق الأحداث والوقائع في عام 1948م… وكان أكثرها صدى لمواقف تاريخية أو سياسية مسبقة ما جعلها مشوبة بالحيدة (!) والانحياز في أحايين كثيرة ولإرضاء توجهات تمليها المصالح أحياناً فتأتي هذه المذكرات «مذكرات أمة» لتجلي الحقائق والمواقف وتزيل الالتباس…».
فناشرا الكتاب يجزمان بأن أكثر ما كتب عن أحداث 1948م مشوب بالانحياز، أما هذه المذكرات فتتجلى فيها الحقيقة! وهذا الكلام ليس على إطلاقه لأن المذكرات كغيرها من المؤلفات لا تخلو من الفائدة ولكنها أيضاً لا تخلو من الانحياز! بل إن الناشرين يمارسان الانحياز إلى هذه المذكرات من حيث يعلمان أو لا يعلمان!
ثالثاً: ملاحظات عامة على المذكرات:
1 – يعمد المؤلف إلى المبالغة المفرطة بالإطراء في حديثه عن نفسه أو أسرته، فوالده هو المنقذ الأعظم! وإخوته هم أعمدة النهضة العربية! وهذه المبالغة جنوح إلى الهوى وميل إلى الذاتية، ومن المرجح أن ذلك سيؤدي إلى البعد عن الموضوعية.
2 – إضفاء شخصية البطل على صاحب المذكرات في مجمل أحداثها فهو سبب تعيين والده شريفاً في مكة! وهو سبب الثورة الرئيسي حيث كان ضابط الاتصال مع الإنكليز! وهو الذي فرض على والده المبايعة بالملك! وهو سبب تسليم المدينة المنورة في زمن الثورة! وهو الذي اتجه إلى معان لإنقاذ سورية من الفرنسيين! وهو المخلص الوحيد لقضية فلسطين! وهو سبب إعلان ابن سعود سلطاناً على نجد! وهذا السلوك السائد في المذكرات الشخصية عموماً يؤكد عدم تجرّد صاحبه من نزعة الأنا ما يجعل التشكيك في صدقيتها أمراً وارداً.
3 – التجني والافتراء على الخصوم، كما قال الزركلي (4/ 82) في وصف المذكرات: «وفيه أوهام ومفتريات». ونلاحظها بخاصة عندما يتحدث عن (الوهابية) أو السعوديين، فهو يرميهم بأقذع التهم ويعمل على التقليل من شأنهم إلى درجة متطرفة من دون أدلة ولا براهين تثبت كلامه، وفي ذلك بعد عن الحقيقة وعن الأصول العلمية.
4 – إيراد معلومات غير موثقة تخالف ما جاء في المصادر التاريخية الموثقة، مثل المعلومات الوهمية عن أحداث معركة تربة ونتائجها وهو ما سيأتي بيانه.
5 – التكرار وتناقض المعلومات في عدد من المواضع، كتكراره حديث الصدر الأعظم أو تكراره حديث تشرشل أو تكراره بعض أحداث الثورة العربية، أما التناقض فسنشير إليه في مواضعه لاحقاً.
6 – ضعف التوثيق في المذكرات بصفة عامة، الأمر الذي جعل المؤلف يجنح إلى سرد قضايا ومسائل مهمة من دون توثيق في حين أنه لا يصح الحديث فيها من دون أدلة ولا براهين!
7 – تصريح الملك عبدالله المستمر بأنه يملك الحقيقة وحده! مثل قوله في (ص 11): «… وما دمنا على قيد الحياة فقد أحببنا ذكر ما شهدناه وما هو في علمنا من حقائق الوقائع كي لا يكون عرضة للتشويه…». والحقيقة مطلقة لا يمكن تقييدها بأقواله وحده! بخاصة أنه خالف الحقيقة التي وثقتها المصادر التاريخية في مواضع كثيرة من آثاره المتعددة!
8 – هناك مفاهيم خاطئة متشكلة في ذهنية صاحب المذكرات لا يستطيع الانفكاك منها، فهو يرى مثلاً أن الوهابية عقيدة! أو مذهب! كما يرى أن الوصول إلى الحج بالقطار والطيارة والسيارة غير مستحب! وأن بناء القباب على القبور أمر مشروع! كما يرى أنه لا رفعة للعرب إلا من طريق الأردن والعراق!
9 – وعلى رغم هذه الملاحظات التي يدركها العامة قبل الخاصة؛ استغرب ما جاء في مقدمة «مذكرات أمة» ما نصه: «… فالحاجة ماسة لدراسات موضوعية ولمراجعات للمواقف بعد ظهور هذه المذكرات التي حملت في طياتها قدراً وافراً من الصدق مع النفس ومع الآخرين وعرضاً دقيقاً وناقداً وأميناً لطموحات الأمة في تلك المرحلة، والنقد الذاتي ضرورة في كل حين والترفع فوق الأهواء والرغبات سبيل إلى التضحيات الكبرى لتحقيق أهداف الأمة في حاضرها ومستقبلها». فيبدو أن القائمين على الكتاب لم يعرضوا معلومات الكتاب على المصادر التاريخية كما لم يطبقوا المعايير العلمية في الحكم عليه! وإلا لما سطروا هذه الأسطر.
رابعاً: الملاحظات التفصيلية المتعلقة
بتاريخ المملكة العربية السعودية:
سنسير فيها بطريقة تعرض المعلومات المتعلقة بتاريخ المملكة العربية السعودية الواردة في كل فصل على حدة وفق ترتيب الكتاب، ومن ثم التعليق على ما يستوجب التعليق أو التعقيب أو التوضيح في السياق نفسه، وقد اقتصرنا على بعض الملاحظات منعاً للإطالة.
الجزء الأول أولاً: الأمالي السياسية:
1 – قال في (ص 13): «… واضطرت الحالة حينذاك إلى إيجاد التفاهم المبدئي بين إنكلترا وبين الأمة العربية بوساطة أمير مكة وعن استخدامي فعلاً في هذه المهمة الدقيقة».
ولا أدري حقيقة تمثيل أمير مكة للأمة العربية في ذلك التاريخ، بخاصة أن كثيراً من الأمراء العرب غير تابعين له وعلى رأسهم ابن سعود في نجد وابن رشيد في حائل وشيوخ الخليج وعمان وسلاطين اليمن وأئمتهم! فمن هم العرب الذين فوضوا أمير مكة للتفاوض مع الإنكليز للقيام بثورته ضد الدولة العثمانية سنة 1334هـ ؟! فإطلاق الكلام في مثل هذه المعلومات التاريخية يحتاج إلى توثيق كما يحتاج إلى دليل وبرهان.
2 – ذكر المؤلف في (ص 24) حديثاً ينسبه إلى تشرشل بأن ابن سعود من طلاب عرش العراق الأربعة… ويشير إلى إمكان ابن سعود دخول مكة في ثلاثة أيام، ثم يورد رده على تشرشل: «فيما يتعلق بجلالة الملك ابن سعود فإنه من الممكن دخوله ويمكن أيضاً عدم استطاعته الوصول في ثلاثة أيام، ولكن حررنا العرب، فإذا أرادت الأمة أن تمنح هذه الأمانة وهي حريتها لبيت كبير من بيوتات العرب غير بيتنا فهو حق العرب، ولكن كيف تعتبرون ابن سعود الآن؟ أهو ملك مستقل أم سلطان أم شيخ عشيرة؟!» ويذكر أن تشرشل قال إنه لا يستطيع الرد على سؤاله حتى يسأل الوزارة! ثم يعقب «وعقب هذا أعلن جلالة الملك ابن سعود نفسه سلطاناً على نجد وكانت هذه خدمة جليلة مني لنجد حيث حصل من الجانب البريطاني على الاعتراف بهذه السلطنة العربية…». وقد كرر المؤلف هذا الحديث أيضاً في المذكرات (ص 144)، لكن القائمين على الكتاب تصرفوا في النص هناك حيث حذفوا تساؤل الملك عبدالله عن نظرة الإنكليز إلى الملك عبدالعزيز عندما قال: «ولكن كيف تعتبرون ابن سعود الآن؟ أهو ملك مستقل أم سلطان أم شيخ عشيرة؟!» حذفوه هناك لكنهم أثبتوه هنا!
الأمر الآخر أن حديث الملك عبدالله عن دوره في اعتراف بريطانيا بسلطنة الملك ابن سعود لم يتكرر، حيث لم يرد في المذكرات (ص 144) من الكتاب نفسه، على رغم أهمية هذا الدور لصاحب المذكرات، ولعل عدم وروده كان بسبب النسيان!
والمفترض أن يكون للملك عبدالله دور في عدم اعتراف بريطانيا بابن سعود وليس العكس! وعلى كل حال كان يجب في مثل هذه المسائل التاريخية الحساسة تقديم الأدلة والبراهين التي تدعم أقواله وهو ما لم يفعله! لذا، فكلامه مردود عليه، لأن اعتراف بريطانيا بسلطة ابن سعود على نجد والأحساء وملحقاتها كان سابقاً لحديثه مع تشرشل بأكثر من خمس سنوات، وهو ما تثبته نصوص معاهدة دارين سنة 1334هـ/ 1915م!
ثانياً: المذكرات
1 – قال صاحب المذكرات (ص 31) إنه في الخامسة من عمره كان يسمع أحاديث النساء حول «ما جرى من أحوال في عهد الوهابية الأولى، وما وقع من حرب حينما دخل والي مصر محمد علي باشا الحجاز لإخراج الوهابية…».
ولا شك في أن إدراك الصغير الأحداثَ التاريخية في تلك السن المبكرة من خلال أحاديث العجائز دليل عبقرية، ولكن ما زال بعض العقول لا يقبل هذه الأحاديث!
2 – حذف قول صاحب المذكرات في حديثه عن الحج من موضعه في (ص 56) حيث جاء النص في كتابه (مذكراتي) متضمناً كلاماً مسيئاً إلى الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأتباعه، كما حُذف قول آخر كسابقه من موضعه في الصفحة نفسها.
وعلى رغم ذلك لم تتم الإشارة إلى هذا الحذف؛ وهو ما يبعث على التساؤل عن مدى تطبيق مراكز البحث العلمي معاييرَ البحث العلمي؟! والحقيقة أن في كلامه المحذوف خفية افتراءات واضحة وسباً صريحاً لدعوة الشيخ محمد عبدالوهاب وشخصه ولكل من سار على مذهبه، وفي هذا دليل على مشاعر الملك عبدالله العدائية الصريحة نحو الدولة السعودية في تلك الفترة، الأمر الذي قد يشكك في صدقية هذه المذكرات ويجعلها تصنف ضمن المصادر التاريخية غير المحايدة! وكان بإمكان القائمين على الكتاب إثبات النص كما هو والتعليق عليه في الحاشية كما تقتضي أسس التحقيق ومبادئ البحث.
3 – جاء في (ص 61) تحت عنوان (قائم بأعمال الإدارة) ما نصه: «توجه الوالد إلى نجد للنظر في مسائل عشائر الحجاز الذين كانت تتخاطفها رغبات أميري نجد ابن سعود وابن رشيد… فكان هنالك حادث القبض على الأمير سعيد [كذا] بن عبدالرحمن بن سعود وهو يُذْكي (الصحيح: يزكّي) عشائر عتيبة ثم تم إطلاق سراحه وعاد الوالد»
ويلاحظ الخطأ في المعلومات كتخاطف العشائر الحجازية أو اسم شقيق الملك عبدالعزيز (سعد) إلا أن المستغرب هو التغيير في النص من دون الإشارة إلى ذلك! مع العلم أن التنويه بتاريخ هذه الحادثة التي وقعت عام 1328هـ أمر جدير لم يهتم به القائمون على نشر الكتاب!
وقال يذكر المستقبلين لوالده في الخمرة (ص 73): «… وجاء من الخرمة خالد بن لؤي…» وقد حذفت عبارة وصف بها خالد بن لؤي جاءت في مذكراتي (ص 70) هي «الخارج على قومه أخيراً» من دون أي إشارة أو تنبيه لهذا الحذف!
4 – قال المؤلف ضمن حديثه عن مقدمات الثورة (ص 95) إن الحسين أجاب الدولة ببرقية عندما طلبت إرسال المجاهدين وإعلان الجهاد المقدس من مكة باسم الخليفة على روسيا وإنكلترا وفرنسا… طلب فيها وجوب إرضاء العرب ليقوموا بواجبهم بإخلاص حتى يبعث بالمجاهدين إلى الشام ويبعث أحد بنيه إلى العراق بعد أن يقضي على أي زعامة غير موالية بشرق الحجاز وأن على الدولة التأثير في ابن رشيد بأن ينضم للجهاد.
وهو الأمر الذي يشير بجلاء إلى نوايا الشريف حسين ضد آل سعود وتخطيطه للقضاء على دولتهم بدعم الدولة العثمانية قبل الثورة العربية؛ فلا وجود لزعامة غير موالية شرق الحجاز في تلك الأثناء إلا لآل سعود.
5 – أشار المؤلف (ص 112) إلى تغلب قواته على القوات التركية قرب الحناكية وأتوا بقائدها الأميرالاي أشرف بك وبغنائم لا تحصى وبهدايا إلى الأمير ابن رشيد وإلى الأمير ابن سعود وإلى إمام اليمن ومن جملة الغنائم ثمانية وثلاثون ألف جنيه ذهباً عثمانياً… إلخ.
والحقيقة أن المؤلف ذكر هذه الحادثة في «الأمالي السياسية» (ص 17) من الكتاب حيث قال ما نصه: «… وفي أثناء الطريق التقينا فجأة بقوة عثمانية يقودها الأميرالاي أشرف بك… وكانت معه أموال وهدايا بقصد إعطائها للأمير ابن رشيد وإيصال الآخر إلى اليمين (المقصود «اليمن» والسعي لإثارة العشائر ضد الحركة العربية…».
ولم يشر في هذا النص إلى هدايا الدولة إلى (ابن سعود) بل اقتصر على ابن رشيد وإمام اليمن فقط! ولا أدري ما سر هذه المعلومات المتناقضة! وكيف لم يتنبه لها القائمون على نشر «مذكرات أمة»؟!
6 – قال المؤلف ضمن حديثه عن لورنس (ص 115): «ولقد قال لي ابن لؤي الوهابي العقيدة: إنكم تقاتلون الترك بسبب أن الألمان استحوذوا على الترك وهذا من يكون؟ إذا كان الألمان أصحاب الأتراك فهؤلاء أصحابكم فعلامَ القتال إذن؟!».
والحقيقة أن في هذا النص دلالة على المفاهيم الخاطئة التي ربما كان يحملها فكر صاحب المذكرات الملك عبدالله بن الحسين فهو يصف الوهابية بالعقيدة! ثم يلمز ابن لؤي بها! في حين أن ابن لؤي في هذا التاريخ لم يكن ملتحقاً بالسعوديين! بل كان من قيادات الجيش الهاشمي! ولكن، كما أشرنا، أنه ربما يكون ما انطوت عليه نفس صاحب المذكرات في ذلك الحين بسبب الخصومة السياسية هو الذي دعاه لإظهار العداء لدولة آل سعود وانتقاصها كل ما سنحت له الفرصة! وأتصور أن في النص فائدة تاريخية تلمح إلى أسباب أخرى جعلت خالد بن لؤي ينقلب من مناصرة (الشريف حسين) إلى محاربته! والتي اختزلتها المصادر التاريخية في خلاف بين أحد قيادات الجيش الهاشمي (فاجر بن شليويح) وخالد بن لؤي وعدم قناعة ابن لؤي بمعالجة الأمير عبدالله بن الحسين لهذا الخلاف!
7 – قال المؤلف (ص 115): «… فإن فكرة إزالة صاحب الثورة والدي – رحمه الله – كانت قديمة وكانت الطريقة البريطانية في التمكين لابن سعود غاية في الإتقان فقد سبق وتعهدت بريطانيا بأن لا تدع ابن سعود ولا سواه من الأمراء العرب الذين لهم صلات بحكومة الهند أن يقفوا ضد الثورة العربية حتى تتم، وإنه لا ينبغي لصاحب الثورة أن يضمهم أو يلحقهم بالحركة العربية لأنهم تابعون لحكومة الهند، غير أن بريطانيا أعلنت حيادها عندما صال ابن سعود فيما بعد على الحجاز، وألزمت العراق وشرق الأردن بذلك الحياد إلزاماً. وفي هذا… الإشارة اليسيرة لميول لورنس وما تكشف عنه». والحقيقة أنه قد تم التصرف في النص الأصلي الذي ورد في طبعات المذكرات المستقلة بطريقة تظهره في صورة موضوعية رصينة، في حين أن النص الأصلي يتضمن أوصافاً عدائية لأتباع ابن سعود، كما يتضمن معلومة تاريخية مهمة حول علاقة ملك العراق فيصل بن الحسين بوالده! ولا شك في أن في تعمية النص الأصلي وتحريفه تأثيراً في الأمانة العلمية للقائمين على النشر.
8 – في حديث عنوانه «معركة تربة» قال المؤلف عن خالد بن لؤي (ص 122): «وكان خالد هذا قد اعتنق المذهب الوهابي وطرد قاضي الخرمة الشرعي وقتل الأبرياء كما قتل الشريف بعيجان – وهو أخوه من أمه وأبيه – لأنه لم يطعه على فساده ثم أخذ يغير على من لم يدخل في هذا المذهب من العشائر التابعة للمملكة الهاشمية الحجازية».
* باحث ومؤرخ سعودي.