رواية ‘أنصاف البشر’ .. طقس للمغامرة والمجد والعلم
•طرقة علي الباب: المجد العلمي والمجد الأخلاقي:
أصبح من المعلوم أن مفهوم “الثقافة” من أكثر المفاهيم التي أثارت جدلًا على مستوى التعريف والمصطلح، وقد يسرد الباحث المخلص مئات التعريفات لهذا المفهوم المراوغ “الزئبقي” لدرجة أن البعض أراد خلاصًا من هذه المعضلة فتحدث أن لكل إنسان مفهوم الثقافة الذي يخصه، فلم يختلف البشر في تحرير مفهوم مثلما فعلوا مع “الثقافة”، بل نجد قبيلة من المفاهيم المصاحبة تداخلت معه مثل (المدنية / المعرفة / الحضارة / التقنية / …)
ولعل المفهوم الذي أتفق معه للثقافة أنها الوعاء الذي ينتظم تلك المعارف المتراكمة والتي تثمر وجهات نظر تصطبغ بها الحياة بالكامل، وتؤدي بطبيعة الحال إلى تشكيل المنحى السلوكي الذي يؤثر في المجتمع بأسره، اليونسكو اتفقت مع هذا فقالت: “الثقافة هي السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعًا بعينه أو فئة محددة، وهي تشمل طرق الحياة والفنون والآداب”.
أما الحضارة فهي صورة أرقي من الثقافة، حيث هي الثقافة المتقدمة المبدعة، تندمج فيها القيم الإنسانية والمادية معًا، وهذا هو المجد الذي تناقشه الرواية، حيث هي مفردة مركزية مركبة من عنصرين (العلم / القيم الإنسانية).
يقول ملك الجبل الأحمر في رواية “أنصاف البشر” عن هذا المعنى الثمين: “منذ قديم الأزل أقام أجدادنا حضارة أقل ما تُوصف به أنها حضارة مجيدة، والمجد هو المجد بكل ما تعنيه الكلمة، المجد العلمي والمجد الأخلاقي” (ص 58). وهذه الفكرة مركزية في سلسلة “ملحمة الفضاء” للدكتور حسام الزمبيلي، فكرة الدفع في اتجاه تنمية جماليات حضارية مصاغة في أجواء طقس للمغامرة العلمية، جعلت الفضاء علي تنوعه واتساعه فضاءً مكانيًا روائيًا له إثارته، والأمر علي تفصيل:
•رواية تربوية للفتيان ولزوم ما يلزم:
تنتمي مفردة “طقس” في مقاربتي لهذا النص الروائي إلى علوم الأرصاد الجوية، أو بمعنى أدق علم الأشياء العليا، والطقس الروائي هو “المغامرة” لإثارة التشويق باعتباره أداة للتوسل أو التوصيل طبقًا لمفهوم المذهب الإعلامي للأدب، وظهر هذا في سعي مؤلف الرواية لمفهوم الإقراء النبيل من خلال بث الرواية في مادة مسموعة عبر الإنترنت، والقصة كما قيل في هلال القصص القديم “ُتسمع لا ُتقرأ”، فالهدف تربوي في الأساس، فالرواية بطقسها السردي المتوثب أقرب إلى رواية الفتيان، ومفهوم التربية يشير نحو تحقيق التنمية المتوازنة والمتدرجة والشاملة في الشخصية الإنسانية.
ومن هذا المنحى نجد تلك الرمزية بالتجسيم للمعنوي في صك تعبير مثل “فيروس النفاق الاجتماعي” (ص59)، وهبوط كائنات فضائية لزيارات ثلاثينية (كل 30 سنة) للأرض، كما تحدث ملك كوكب الجبال السبعة، فنشأ جنس “أنصاف البشر”، والذي تم نفيه على ظهر كوكب “تيتان”، وأصبحت الأرض مكانًا موبوءًا بمضادات القيم والضمير، فتصف الرواية هذا اللقاء بين التقدم العلمي والأحاسيس والضمير، وكان جنس “أنصاف البشر” هو المعادل الموضوعي لهما مصاغًا في ثوب حكائي.
يقول ملك كوكب الجبال السبعة متحدثًا إلي بطلي الرواية “سيف الدين” و”حازم محمود” البشريين: “انصاف البشر الذين ورثوا منا جزءًا من عقليتنا الجبارة، وورثوا منكم بعض الموروثات المتخلفة مثل العواطف والأحاسيس والضمير، فقررنا أن نتخلص منهم بطريقة غير مباشرة بحرمانهم من العقار “ز. ن. ز” المضاد لحالة الرفض الجيني” (ص 53).
ويستمر مسار الحكي مكافحًا الغرور ببطش القوة العلمية المجردة من منظومة قيم أخلاقية، حيث لزوم ما يلزم، فجدل العلاقة بين تغول القيم المادية بصلف التقدم العلمي، يلزم لها تهذيبها بالجانب الأخلاقي والقيمي، حيث لا غناء لأحدهما عن الآخر، فالأدب والفنون موجهًا وناقدًا للعلم ويصحح مساره، حيث إنه كما يقول الكاتب البولندي ليوبولد فايس: “مجرد وسيلة وأداة لإثراء الروح بالمعرفة الحقة، وليس غاية في حد ذاته”.
•صراع الطيبين والآثمين:
القول إن رواية “أنصاف البشر” أقرب لرواية الفتيان – وهي النمط الروائي الأكثر احتياجًا إليه لمستقبلنا القريب – أتي من عدد من الشواهد، أشرت إلى طقس التشويق باعتبارها وسيلة لغاية، أو تحقيق لزوم ما يلزم كما سبق، كما أشير إلى التركيبة النفسية للشخصيات التي تميل إلى الحدية والفتوة، فبطلا الرواية طيار “سيف الدين” وصديقه “حازم محمود” الشابان، يمثلان خصال (الوطني / الفدائي / الباسل) (ص 6)، وهما (مرهفا الحس رقيقا المشاعر)
وحيث كان الأدب القيمي هو أدب الفكرة لذلك تنتمي الشخصيات إلى أنماط محددة وفرق كاملة متصارعة من الطيبيين والآثمين، فكائنات كوكب الجبال السبعة متقدمين علميًا قضوا على الكوكب الأبيض وأهله المسالمين الذين يوجهون علمهم للخير وليس لصنع السلاح، ولكن الرواية احتوت أيضًا نمطًا للشخصية النامية المستديرة، مثال شخصية “ملك الكواكب السبعة” والذي تطورت شخصيته بفعل ثبات البطل الروائي في مواجهته.
•قيم إيمانية:
تعمر الرواية بقيم بانية منبعها الإيمان والحس الإسلامي العميق المعتدل، فقيمة الشورى تجسدت في مجلس حكماء كواكب الجبال السبعة (ص56)، باعتبار الشكل السياسي الذي يضم تلك الكواكب، وباعتبار الثيمة المهمة أن التنوع سبيل الإجادة لا الانفصام والتمزق، ونجد دائمًا الاستعانة بالنصوص الشريفة في سبيل شحن الطاقة الإيمانية للمواجهة، فالتهديد (ص 57) يلتقي بالآية الكريمة: {الذين قال لهم الناس … الآية}
وبطل الرواية سيف الدين يتخذ من وسائل الإعداد كما يتفق مع النص الشريف: “كما أتقن معظم الرياضات من سباحة ورماية وركوب الخيل” (ص 6)، والقول: “يا بني كل منكم على ثغرة من ثغرات الإسلام” (ص39)، كما نجد ص 41 من الرواية قيم إغاثة الملهوف، بل عبر هذه القيمة تم بناء الحكي جميعه، ونجد قيمة الصداقة المهمة، وإلماح لها بالفلك حيث القمر صديق الأرض الوفي، وكأن الصداقة قيمة فلكية حيث مدارات الود ملتحمة.
•التقنية والقوس الروحاني المشدود:
كما نجد الرواية نفسها تستهل الأحداث بتقنية استرجاع مزجية فورًا، فالزمان الحكائي 2100 بقاعدة السهم الثالث، والزمن الاسترجاعي عام 2040 المضمر خارج زمن الحكاية، وهو زمن استرجاعي خارجي للرواية، وهو تاريخ تأسيس دولة عظمي متحدة، والاثنان (زمن الحكاية / والزمن الاسترجاعي الخارجي) يمثلان مستقبل للواقع الماثل، “بعد حقبة طويلة من الفرقة والتمزق” (ص 5)، وهذه تعرف بأنها “الواقع الثاني” وليس الخيالي، استنادًا إلي جانب من النصوص الشريفة {والله غالب علي أمره}، {وإن جندنا لهم المنصورون}.
كما نجد مفردات كثيرة تنطق بهذه القيم مثال سفينة الفضاء “اليرموك”، “البراق”، وفي فكرة التقنية الاسترجاعية نجد دائمًا هذا التصعيد من الحاضر إلي النستقبل، ففي ص 38 من الرواية أنه في منتصف القرن الحادي والعشرين عام 2057 قام العالم المصري “أحمد مراد” بتأسيس المستوى الرابع من علم “السيبرنوطيقا” = وهو علم العناصر المتفاعلة على تبادل المادة أو الطاقة أو المعلومات، أو علم التحكم الآلي والتواصل بين الإنسان والآلة.
فهناك ذلك التضافر بين التقنية والقوس الروحاني المشدود دائما، أتي في المناجاة لبطل السرد مؤطرًا بمؤشر لفظي: مما جعل حازم يتساءل قائلًا: إن هذا الكوكب يثير في نفسي مشاعر غامضة لا أدرى كنهها” (ص 7)، فهذا المزيج بين العلمية والحدس الروحاني لا يجعل الإنسانية مادة فقط، بل روحًا تحمل قيمًا نورانية تستشرف وتستشعر الجمال، لذلك نجد حديث العيون الطريف باعتبار العيون نافذة الأرواح، وباعتبار تلك القراءة “حاسة سادسة”، وهي ناحية روحانية مكملة للناحية العلمية المادية، أو بتعبير بطلة الرواية الآلية “شيماء” ناحية رومانسية. يقول بطل السرد سيف الدين: “في الواقع يا حازم هالني ما رأيته من تغير ملامحه لحظة انتصاره” وبعد قليل: “لرأيت بدلًا من تلك النظرة المحتارة نظرة ماكرة مشوبة بخوف”. (ص 46).
•تقنية التلخيص الروائي:
الرواي في الرواية يشارك القراء بلغة ذات منطق، ويستعمل تقنية التلخيص الروائي، وهي قيمة سردية ناجزة في حالة مراكمة التفاصيل والمسارات الروائية، وذلك من خلال بث عبارة ملخصة تمكن القارئ من المتابعة، وهي ببساطة تشبه طريقة الصحف في نشر المادة المسلسلة بنشر موجز معنونًا “ملخص ما سبق”، بل يمكن من خلالها أن أقدم للقراء حدوتة الرواية، يقول سيف الدين ص 53: “أنا الرائد سيف الدين من الدولية الإسلامية المتحدة بكوكب الأرض التابع لنجم الشمس بمجرة درب التبانة، وهذا أخي وصديقي الرائد حازم محمود مهندس الاتصالات والنظم الفضائي، وهذه شيماء مستشارتنا العلمية والتقنية، ونحن نركب سفينة ملك الكوكب الهلامي لأنه أعارنا إياها حتي نستطيع القدوم إليكم وننفذ مهمتنا النبيلة وهي إنقاذ جنس لا ذنب له في الفناء .. جنس أنصاف البشر علي القمر تيتان”. وهكذا يدور مدار السرد.
•عالم الفضاء المثير:
وقد أراد الروائي في تأكيد مسار التشويق الاستعانة بالفضاء كفضاء مكاني روائي، كما يحمل هذا الشأن منطقًا وراء تعدد كواكب الرواية ومسافاتها المذهلة، فقد أعلنت “ناسا” في تسعينيات القرن المنصرم، أن تحليل الصور للتلسكوب الفضائي الهائل كشف عن مئات المجرات الجديدة التي لم ترَ من قبل، منها 1500 مجرة في مختلف مراحل التكوين، وكل منها يحمل ملايين النجوم، وكان هذا العالم المثير جاذبًا لصاحب الأبوة الفانتازية في الأدب العربي يوسف السباعي” فكتب “لست وحدك”، وانفعل توفيق الحكيم بنزول أول إنسان على القمر صباح الأحد الموافق 20/7/1969 فكتب “شاعر على القمر / تقرير قمري”.
وأتى عالم الفضاء في رواية “أنصاف البشر” في ظلال تغذية معرفية تمزج بين حقائق علمية وخيال علمي مثير، وهي كثيفة في الرواية، فنجد الدرع الليزري الذي هو عبارة عن ضوء أخضر مزرق، والشعاع الأخضر الفيروزي الذي ينطلق من قمة الجبل الأحمر فيوقف عمل الأجهزة في السفينة الفضائية، وللألوان حضور مؤثر في الحدث الروائي، وتجريب عملية الانتقال الأيوني باستخدام التكنولوجيا الحيوية، والإنسان الالي المصنع من البروتينات الحيوية وعمليات تكاثر الأنسجة البشرية، وظاهرة التخاطر “التليباثي”، وجهاز المحاكي للطبيعة، ومسدسات التفتيت الجزئي
وتكنولوجيا اختراق الحواجز الصلبة، والتغذية من عناصر مشعة، والبرنامج الفضائي، والتغذية بالكود الجيني، وغيرها من التفاصيل الشيقة في منطقة بين الغرائبية والعلمية، وجاء تقديم تلك التغذية من خلال التناغم بين المتن والهوامش، والحركة الدائمة التي لا تتوقف، والوقت اللاهث فدقائق تشكل فارقًا، وهذا الحشد يشكل في رأيي كلمات مفتاحية لشغف الروائي العلمي لتشجيع القراء للتنقيب وراءها واكتشاف آفاقها الممتعة، ونجد الأسلوب العلمي مشبعًا به المسار الروائي حيث قوة الملاحظة وجمع المعلومات وابتكار الحلول للمشكلات، وهذا الإلماح نحو كون الإبداع يكون منتجًا للحالة السياسية والاجتماعية
•الرواية بين قوسين:
شكل القوسين عبارة واحدة بها بدأت الرواية وبها انتهت “ترى أكانت تلك بداية لقصة أم أنها كانت النهاية؟!“، إنها عبارة إشارية تصب بطريق مضمر إلي قصدية المؤلف، أن نصه الإبداعي هو بداية قصة الواقع الذي يرجو تغييره، وأن الأمر متصل ومتصاعد لا يتوقف.
ميدل ايست أونلاين