
خاص
أنهى الكاتب إحسان غرير روايته (الشقي) من بدايتها، فقد مات الشقي في الصفحات الأولى، بطريقة تدعو للتساؤل، فلماذا يموت بطل الراواية (شلهوب) في بدايتها؟ لماذا يموت في الطريق، ولماذا يتحدى الجلطة الدماغية الأولى، أو على الأصح لماذا (يقامر) بحياته فيرفض إسعافه، ثم يتهالك ويسقط ميتاً؟!
لم تلغ هذه النهاية التي صبّها الكاتب في الصفحات الأولى وأنهى حياة البطل، لم تلغ شغف المتابعة عند القارئ، لأن هذا البطل بشخصيته وطريقته في الحياة قادر على تقديم نفسه في لعبة السرد حياً وميتاً،وخاصة أن أصابع الكاتب وكثافة العبارة ومهارة الكتابة عادت، وصنعت مجدها الآسر فيما تلى من أحداث .
نحن أمام جاذبية خاصة لمتابعة رحلة طويلة مع شخصية إشكالية تفرد مساحة من علاقاتها مع الأمكنة والناس والنساء والرفاق بطريقة استنائية تمتد على مستوي المحورين الزمني والمكاني مع تنقلاته الكثيرة، فتؤسس لتفاصيل متشابكة تبدأ وتنتهي عندها ويكون احباط الشباب في الحياة السورية والفلسطينية المشتركة محورها ومؤشر اتجاهاتها وتحولاتها نحو التمرد السياسي والاجتماعي وكسر التقاليد والركون الى اليسار الجديد المطمئن بالنسبة لتلك اللحظة التاريخية . .
نحن نتابع مشهد موت شلهوب في شارع (جلال كعوش) في مخيم فلسطين ، وهو المكان الذي يتجمع فيه الفلسطينيون على مقربة من دمشق، وفي هذا المؤشر المكاني للحكاية مفاتيح هامة لمعرفة أبعاد النص ورسالته السردية.
الشقي شلهوب مقامر، مولع في المقامرة حتى في لعبة الحياة والموت، حتى في الحب، وهو نفسه صورة عن المقامرة الكبرى في البحث عن موقف سياسي تجذره القضية القضية الفلسطينية وتعطيه دما خاصا..
والجيد هنا هو تواجد السوريين في صلب الهم الوطني للمخيم بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية والمناطقية (روز وضحى)، وهي نقطة تحسب للكاتب بأن فلسطين جامعة كبرى في تلك المرحلة، فالمخيم يأسرنا ويحدد إقامتنا كما ورد في الصفحة سبعين ونحن نرى ساحة اللعب السياسي الوطني هي مخيمي اليرموك وفلسطين: التقينا بمعارضين للنظام السياسي الرسمي القائم وفوجئنا بمنتقدين جادين لفتحنا (حركة فتح) ولجبهتنا الشعبية والديمقراطية وسائر فصائلنا ..ص70 هي نفسها طبيعة الحراك التي أسسها اليسار الجديد في تعاطيه مع البديل الثوري لماهو سائد/عاجز !
الأحداث وصراع الشخصيات يجري تحت وطأة حكم مخابراتي لايرحم، لذلك نجد كل المسارات تؤول إلى مكان آخر يرتسم في صورة المكان الوطني المحاصرأو مآل كل النشاط السياسي في حكم الطغمة ، وهو (المعتقل) .
الراوي (سامي) هو الذي يسرد حكاية شلهوب، وفي سرديته ثمة صراع بينه وبين (شلهوب)، وكأنه الوجه الآخر له، كأنه صورة اللاوعي للبطل. هذا الصراع الخفي، لم يضعه في خانة الشماتة عندما مات شلهوب، بل وجد نفسه مسؤولاً عن الكتابة عنه وعن التجربة كلها!
نكتشف بعد أن نقرأ الرواية أننا في عالم من عوالم اليسار الجديد، المتشابك مع المقاومة الفلسطينية، وهذا التشابك برز في السبعينات إبان الحرب الأهلية اللبنانية ونتج عنه تضايف طبيعي بين المكونات السياسية السورية والمكونات السياسية الفلسطينية، ولم يبرر هذا التضايف لأصحابه النجاة من آلة القمع التي نعرف الآن أنها سقطت في الثامن من كانون الأول عام 2024
ماهي غرائب الرواية التي أسس عليها الكاتب إحسان غرير مشروعه السردي : هل هو القمار؟ هل هو الحب ؟ هل هو البحث عن وطن ؟ أم أنه أراد تقديم بطل روائي إشكالي سيقرؤه النقد مطولا عندما تأخذ الرواية المعاصرة حقها؟
كل هذا اجتمع في عناصر النجاح ، وتوجتها شخصية (أم حامد) الأم الفلسطينية التي قدمتها الرواية برشاقة، ورسمت دورها الرمزي بسلاسة، ولم تأخذ القارئ إلى البروباغندا رغم وصفها بأم الفدائيين.
أكبر خطأ ارتكبته الرواية هو في عنوانها (الشقي) رغم جائبيته بالنسبة للقارئ، فالشقي في اللعبة اللغوية الدارجة يأتي من (الشقاوة) التي غالبا ما صنعت أبطال سينما ، وهو في متن اللغة العربية كما يسميها معجم المعاني تعني : تعيس، قليل الحظ، عكسه سعيد، والشَّقِيُّ أيضاً هو :الضالّ غير المهتدي، وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ﴿٤ مريم﴾. وكل هذا لاينطبق على وصف الرواية له في الصفحة 14 ، وشلهوب أصلا كان سعيداً، وذا حظ، وكان يعرف ماذا يفعل، بل إن الكاتب يصف طبعه بأنه لم يكن يرضى بأية قسمة ، لايرضى إلا بما هو فوق النجوم ص7 بل ويقول أيضا إنه لايسعه أن ينام في نهاية النهار إن لم يكن فائزا .
هناك خصومة بين الراوي سامي، والبطل شلهوب، وهذه الخصومة مخفية تحت بطانة حب مشترك لفتاة تمكنت من إيقاع الاثنين في علاقة معها ، ثم اختارها شلهوب لتكون زوجته أي الفتاة سماح رغم علاقته مع روز .
العلاقات الجنسية الخفية للراوي، هي نوع من التداعيات لايكتشفها إلا البحث في خفايا حياتنا، أو ربما لايكتشفها وينبشها من الطفولة إلا التحليل النفسي علاقة الطفل بجسد خالته وعلاقة الفتيات بالتماس مع جسد الاطفال .
تلك هي عوالم رواية الشفي، وأجمل شيء في عوالمها أنها رواية الإنسان عندما يكاسر الرغبات والنزهات والطرق الصعبة للبحث عن هوية .
بوابة الشرق الأوسط الجديدة