رواية 67 لصتع الله إبراهيم: سفر للرؤيا

 

حين وقف شيوخ الدين على المنابر عقب هزينة حزيران 1967 ليشخصوا سبب الهزيمة، قالوا أنه انتهاكنا لمحارم الله وتهاوننا في أوامره ونواهيه، اثاروا سخرية النخب المثقفة من خارج التيار الديني.

في الحقيقة لم تكن السخرية في محلها، وتواترت الشواهد والرؤى لتؤكد جدارة هذا الخطاب الديني، عبر الروايات والأفلام السينمائية والأدبيات السياسية ومذكرات السيرة الذاتية، التي شرّحت بمباضعها الحقبة التاصرية بلا رحمة ولا هوادة.

وفي الحقيقة فقد التقت كلها مع الخطاب الديني في منطلقاته ومآلاته، ولكن تحت عناوين مختلفة، تهرّبت شكلاً من نبرة هذا الخطاب والتقت مع مضامينه.

وفي هذا السياق، تنتصب رواية صنع الله إبراهيم”٦٧” كشاهد لا يدحض على هذا الإشتراك.

فرغم أنها إرهاصة سبقت وقوع الهزيمة ذاتها، إلا انها رسمت صورة للتربة الإجتماعية التي نبتت فيها وأخصبت أسباب الهزيمة، إنه مجتمع الحرام المتحلل من الضوابط والمباديء، وبتعبير آخر مجتمع الخطيئة الذي يقيم فيه الأخ علاقة محرمة مع زوجة أخيه والسكرتيرة مع مديرها ويمارس فيه التحرش في الشارع والأوتوبيس ويغض الجميع الطرف وبالمنطوق الديني لا ينكرون المنكر، وبالتالي يستحقون غضب الله وإن لم تنطق بها الرواية صراحة ولكنها بكل تأكيد عبرت عنها من هذا المنظور.

في الحقيقة فهذه ثيمة  مكررة، قبل وبعد الهزيمة ومن المنظور نفسه، نجدها في ثرثرة نجيب محفوظ فوق النيل، ومجتمع الحشيش والعوامات والعلاقات المحرمة، ونجدها عند مصطفى امين في سرديته”لا”، ، وبصيغة اكثر صراحة وجهورية، حيث زوجات كبار المسؤولين يرتمين في حضن البواب الأكثر رجولة من ازواجهم الذين خصاهم النظام السياسي، وتركهم عنينين عبيدا مملوكين لا يقدرون على شيء.

نجدها ايضا في مذكرات اعتماد خورشيد التي تعرض تفاصيل الحرام والانحلال والشذوذ الجنسي الذي يمارسه صلاح نصر مدير مخابرات الاخ الاكبر، لا بل يزعم ان غيه هذا هو سبيل للخلاص والسمو، الكل إذن منغمس في هذه الحمأة، والفىق هو ان المتدينين يرسمون طريق الخلاص تحت عنوان العودة إلى الله، بينما يترك الآخرون الخيار مفتوحا للمحاكمة ويكتفون فقط بتلاوة لائحة الإتهام.

وفي مجموعته المسرحية “تحت المظلة”يقدم نجيب محفوظ صورة لمجتمع الشباب الحائر الذين دخلوا في العتمة، ولا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.

وإذن فنحن امام زخم من الاعمال الفنية والادبية، التقت كلها على نصف القمر الآخر لتكشف وحهه المظلم الذي ظل مستورا وخافيا في ظلمة تلك الحقبة، كمحرم سياسي ومسكوت عنه.

لماذا إذن تفردت رواية صنع الله إبراهيم ، واستقطبت الكثير من الأضواء، واثارت رهاب السلطات أكثر من غيرها؟

حتى أفرج عنها اخيرا في ثمانينيات القرن الماضي فاحتلت بقوة مانشيتات الكتابة وحظيت باهتمام وتقديز لم تحظ بهما اخواتها وقريباتها؟

اعود فأقول ان السبب هو انها قدمت رؤيا دينية دون صخب ومباشرة، بل ايضا بمنطوق ديني يحذر من الخطيئة بكثير من الأسى والعاطفية واستحضار الضعف الإنساني كضخية تستغيث بمن يمد لها اليد ويرسم لها طريق الخلاص، متجنبة صيغة لائحة الاتهام التي استسهل الأخرون حياكتها وإلباسها لعهد يحملون له كثيرا من الضغينة.

لقد تبنى صنع الله نبرة القديس او النبي الذي يمسح على جراحك قبل ان ينكأها، ثم يدهنها بمراهم الشفاء الذي يغريك بالفرار ونزع قدميك مما انت فيه، بدل ان ينهال عليك باللوم والتقريع!

وبالتالي فقد ايقظ الإنسان قبل المذنب ، بعكس الطرح المقابل الذي حمّلك عبء الجريمة دون ان تأخذه بك رافة او رحمة.

لقد عبرت هذه الرواية حدود الزمن لأنها قدمت رؤيا دينية بوجهيها الازليين الندم والخلاص، ووزعت الخطيئة الفردية على القطيع الضال واوجدت له العذر بتحميل كهنة المعبد عبء تهيئة مناخ الغواية والإغراء.

وأفلتت من ارتهان اللحظة التاريخية لتُكسب الخيار الفردي بعدا إنسانيا يتجاوز اتهام الخيانة والتفريط التي وجهتها إليه الاعمال الأخرى.

وبهذا اكتسبت صفة الرؤيا ولكن دون الوقوع في شرك التجريم والإدانة وهذا هو سبب تفردها  وتفوقها على الاعمال الأخرى:الرؤيا والاستشراف اللتان كما المقولة الدينية تماما لا تسقطان ضحية للتقادم.

صحيفة رأي اليوم الألكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى