روسيا ومصر.. الطريق نحو «الديموقراطية الموجهة» (هاني شادي)

 

هاني شادي

في مطلع تسعينيات القرن العشرين جرت في روسيا محاولة للانتقال إلى الديموقراطية، عندما أعلن الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين أن هدفه هو الانتقال إلى اقتصاد السوق ونموذج الديموقراطية السياسية الليبرالية الموجود في الغرب. واليوم وبعد مرور نحو عشرين عاماً، يمكن القول إن هذه المحاولة قد باءت بالفشل، وأدت إلى نتائج مغايرة بشكل كبير. ويمكن وصف النظام السياسي الروسي القائم حالياً بـ«الديموقراطية الموجهة». إن نظم «الديموقراطية الموجهة» هي نظم تستخدم الستار الديموقراطي «للتغطية» على طبيعتها التسلطية سواء الصريحة أو المستترة. وهذه النظم تتضمن بعض الحريات والحقوق التي تُستخدم في الأساس للاستهلاك الخارجي أمام الرأي العام الدولي، وللاستهلاك الداخلي أمام قوى المعارضة التي يعمل نظام «الديموقراطية الموجهة» على إضعافها باستمرار. وتختلف «الديموقراطية الموجهة» عن النظام التسلطي الصريح بأنها مغلفة ببعض مظاهر الديموقراطية الدستورية الحديثة، حيث توجد انتخابات برلمانية ورئاسية، ودستور وحرية «مُقيدة « للتعبير عن الرأي.
ففي روسيا، على سبيل المثال، نلاحظ وجود ملامح لحرية التعبير عن الرأي. وهذا يرجع إلى أن السلطة الروسية تدرك أن مثل هذه الحرية «المُقيدة» للتعبير عن الرأي لن تؤثر كثيراً على الوضع في روسيا ولذلك تسمح بها. وهذه الحريات المُقيدة ـ في رأي بعض الباحثين الروس ـ ربما تتشابه مع الوضع الذي كان قائماً في مصر نهاية عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك. ويقتصر دور الناخب في «الديموقراطية الموجهة» على مباركة نتائج الانتخابات، حيث يُحرم من حق الاختيار الحقيقي أثناء الانتخابات عن طريق تزوير إرادته.
إن نظام «الديموقراطية الموجهة» في روسيا وضع أساسه الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين عندما قصف البرلمان عام 1993 بالدبابات، وأقر دستوراً جديداً يمنحه صلاحيات قصوى في مواجهة السلطة التشريعية، وعندما شاب التزوير الانتخابات الرئاسية عام 1996، التي فاز بها يلتسين ليستمر لولاية ثانية بمساعدة المال السياسي الملتحم مع السلطة، وأخيراً عندما ورّث الحكم لفلاديمير بوتين في نهاية عام 1999. وجاء بوتين ليرسخ «الديموقراطية الموجهة» في روسيا على مدار ولايتين رئاسيتين (2000 ـ 2008)، وعبر توليه منصب رئيس الوزراء عام 2008. ومع عودة بوتين إلى عرش الكرملين عام 2012، تبين أن السلطة الحاكمة ونخبتها ترغب في البقاء في الحكم مدى الحياة، وترفض تداول السلطة مع القوى السياسية الأخرى بطريقة شفافة ونزيهة. ولذلك اندلعت موجة من التظاهرات والاحتجاجات الشعبية على تزوير الانتخابات البرلمانية التي جرت نهاية العام 2011، وعلى عودة فلاديمير بوتين إلى عرش الكرملين لولاية ثالثة. وكما يقول الباحث الروسي، فلاديمير بريبيلوفسكي: «إن ما يجري في روسيا يهدد بالانتقال من الديموقراطية الموجهة إلى النظام التسلطي الصريح». وبعبارة أخرى يمكن القول إن «الديموقراطية الموجهة» قابلة للتحول إلى التشدد والتسلط وربما الديكتاتورية.
ولكن ثمة من يدافع في روسيا عن «الديموقراطية الموجهة»، التي رسخها بوتين على اعتبار أنها ضرورية لحماية مصالح الدولة وتحديث البلاد. ويبدو أن استخدام مصطلح «الديموقراطية الموجهة» لوصف النظام في روسيا قد أزعج بوتين والنخبة الحاكمة، التي تحاول التأكيد على أن روسيا جزء لا يتجزأ من أوروبا والعالم الغربي، وتُقدم «النموذج الروسي للديموقراطية» على أنه أحد نماذج الديموقراطية الغربية ممزوجاً بالخصوصية الروسية أو متكيفاً مع ظروف روسيا التاريخية والثقافية. ولذلك نرى فلاديسلاف سوركوف (نائب رئيس ديوان الكرملين المقرب من بوتين في عام 2006) يطرح في مواجهة «الديموقراطية الموجهة» مصطلح «الديموقراطية السيادية»، الذي يعني الديموقراطية التي تدافع عن استقلال ومصالح الدولة، وغير المفروضة من الخارج (أي من الغرب).
وتتنوع التقييمات والآراء حول طبيعة «الديموقراطية الموجهة» في روسيا. فالباحثان الروسيان الكسندر تسيبكو وسيرجي ماركوف (المؤيدان لبوتين) يعتقدان بأن نظام «الديموقراطية الموجهة» يتسم بطابع انتقالي، ويعتبر حلقة وسطى على الطريق من النموذج السوفياتي الشمولي إلى المجتمع المدني الديموقراطي. غير أن الباحث الكسندر ربتسوف يرى أن «الديموقراطية الموجهة» تعني أساساً الانتقال إلى نظام «شمولي جديد»، على اعتبار أن «الديموقراطية الموجهة» قطعت مسيرة التطور الديموقراطي الطبيعي في روسيا، حيث تشكل في عهد يلتسين، كما في عهد وريثه بوتين، نظام من السلطة الفردية أو الشخصية تلعب فيه الإجراءات الديموقراطية دور الوسيلة أو الأداة لمنح الشرعية لبقاء الحاكم المطلق أو شبه المطلق. ففي عهد بوتين، الذي تكرس فيه مفهوم «الزعيم الأوحد» المُعتمد على ممثلي مؤسسات القوة (ممثلي أجهزة المخابرات والأمن الداخلي والجيش)، فإن التحكم في الديموقراطية يهدف إلى إخماد وتهميش جميع أنواع المعارضة اليسارية والقومية والليبرالية وغيرها.
ويرى بوريس كاغارليتسكي، الباحث في معهد علم السياسة المقارن التابع لأكاديمية العلوم الروسية، أن النظام الذي تشكل في عهد يلتسين كان يعمل للحفاظ بدرجة معينة على «واجهة ديموقراطية» بهدف إرضاء الغرب، وفي الوقت نفسه عمل هذا النظام للحفاظ على الرقابة والسيطرة الصارمة للكرملين على الوضع السياسي في البلاد. ويقول كاغارليتسكي بهذا الشأن: «إذا كان النظام في عهد يلتسين اتسم بالعفوية والفوضى، فإنه على العكس من ذلك كانت لبوتين مصلحة كبيرة في تحقيق درجة قصوى من التحكم في المجتمع من أجل أن تُدار الديموقراطية بشكل دقيق ومحسوب، كما هي الحال في النظم الشمولية». ويبدو أنه في ظل النمو الاقتصادي الذي تحقق بفضل الأسعار المرتفعة للنفط والغاز، في المقام الأول، فإن نموذج بوتين كان لديه فرصة أكبر للاستمرار.
إن ما جرى في روسيا مع «الديموقراطية» يمكن أن يتكرر في دول أخرى، ومنها مصر بعد ثورة 2011، التي لم تحقق أهدافها بعد. ويمكن أن يتم ذلك تحت حجج كثيرة، منها الحاجة إلى الاستقرار ووقف الفوضى، والتصدي إلى ما يسمى بـ«المؤامرات الخارجية والمندسين». فعملية «التمكين»، التي يقوم بها «الإخوان المسلمون» في مصر، عبر فرض الدستور غير الديموقراطي، ومنح ممثلهم في السلطة (الرئيس محمد مرسي) صلاحيات كبيرة، ومحاربة كل من يعارضهم سياسياً وإعلامياً، وفرض الانتخابات البرلمانية، «تفوح» منها رائحة تجربة الانتقال إلى «الديموقراطية الموجهة» في روسيا. لقد قطع مرسي و«إخوانه»، برأينا، وخلال فترة وجيزة من الحكم، شوطاً كبيراً في محاولات وضع أسس نظام «الديموقراطية الموجهة»، وهو ما ترفضه قطاعات غير قليلة من الشعب المصري. في الوقت ذاته، تدفعنا سلوكيات ميليشيات جماعة «الإخوان» من تعذيب وقتل للشباب الثائر إلى افتراض أنها تسعى إلى «حرق المراحل» للانتقال مباشرة إلى نظام تسلطي ينفي المعارضة السياسية الحقيقية، ويقضي على احتجاجات الشارع بالاعتماد على معارضة «ورقية»، وبالاعتماد أيضاً على الدعم الأميركي.

صحيفة السفير اللبنانية


 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى