زعامة الجمهوريّين تتراخى: من ترامب إلى ديسانتيس… الحزب القديم مات
لم يَهمّ الامتعاض الكبير الذي خلّفتْه نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأميركي في صفوف الجمهوريين التقليديين، الرئيسَ السابق، دونالد ترامب. فهو يبدي عزماً على المضيّ في انتزاع ولاية رئاسيّة جديدة، واضعاً جانباً هشاشة المعسكر الذي يقوده وانقسامه، واللذَين يُجلّيان كسوراً لن يكون من السهل جبْرها، ويُنذران بحملةٍ انتخابية طاحنة قد تنتهي إلى سيناريو مشابه لذلك الذي شهدتْه نهاية عام 2020. وعْد ترامب بـ«عودة» أميركا، ورسمُه صورة ورديّة لفترة ولايته الأولى (2016-2020): دولة تعيش بسلام وازدهار واحترام على الساحة الدولية، وازاهُما هجومٌ شرس شنّه على الرئيس جو بايدن، الذي يجسّد، بعبارة سلفه، «فساد واشنطن»، و«يقودنا إلى حربٍ نووية»، فيما يُغرِق الولايات المتحدة في العنف والجريمة، ويَخنق الأُسر بالتضخّم والارتفاع الجنوني في الأسعار. على أن الهجوم المتواصل منذ أن أتت نتائج الرئاسيّات بخلاف ما تمنّاه ترامب، لم يَجد الصدى المطلوب شعبياً؛ فجاءت نتائج «النصفيّات»، هي الأخرى، لتدمّر الآمال بـ«مدٍّ كبير» كان الجمهوريون المحافظون تنبّأوا بحدوثه، حتى بدا صانع الملوك، ترامب، وكأنه يخسر امتيازه شبه الوحيد، فيما تمضي «الثورة» التي أطلقها داخل حزبه في البحث عمَّن يتّصف بصفاته، ولكن بضجيج أقلّ، ليتزعّمها.
وإنْ كان نجاح ترامب في شطْر «الجمهوري» إلى معسكرَين، بدأ يُلقي بثقله على تَوجّهات الحزب وحتى مستقبله، إلّا أن النهج الذي أرساه الأوّل لا يزال يحظى، في صفوف الأميركيين البيض، بشعبيّة كبيرة. ومن هنا، يمكن فهْم تكاثُر الدعوات داخل المعسكر المُحافظ إلى تنحية ترامب عن القيادة الجمهورية، في ظلّ تَحوُّل جزء من كارهي الرئيس السابق، بالفعل، إلى دعْم منافِسٍ محتمَل بديل في السباق إلى البيت الأبيض: حاكم فلوريدا، رون ديسانتيس، الذي، وإنْ لم يُعلن بعد نيّته الترشُّح إلى الرئاسيّات، فهو أكد أن «معركته» على الحاكميّة «ليست إلّا البداية» (يتبنّى ديسانتيس سياسات مُشابهة لترامب إزاء قضايا الهجرة، والإجهاض، والاتفاق النووي مع إيران، والدعم المُطلق لإسرائيل، ومعاداة الصين…). وإلى ديسانتس، نجْم المتشدّدين الصاعد، تنضمّ أسماء لَمعت في عهد ترامب نفسه، مِن مِثل نائبه مايك بنس، ووزير خارجيّته مايك بومبيو، اللذَين يمثّلان الخطّ الإنجيلي المحافظ، ومعهما حاكم فرجينيا غلين يونغكين، وماركو روبيو، وتيد كروز، وإريك سكوت، لكسْب ترشيح الحزب الجمهوري، ما يجعل طريق ترامب إلى الرئاسة مفخّخة بالألغام.
مع هذا، يَظهر، ممّا تتنبّأ به استطلاعات الرأي، أن نجوميّة ترامب لم تَأفل، وأن شعبيّته لا تزال جارفة، وأن فوزه في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهورري، لا يزال هو الآخر راجحاً. لكن مشاكله الكثيرة مع القضاء، وأهمُّها التحقيقات الجارية في قضيّة الهجوم على «الكابيتول» في السادس من كانون الثاني 2021 وإدارته لوثائق البيت الأبيض، يمكن أن تَؤول، في نهاية المطاف، إلى استبعاده. وما مبادرة الرئيس الأميركي السابق إلى الهجوم على حاكم فلوريدا، في ذروة انشغال الجمهوريين بالبحث عن أسباب عدم حدوث «موجة حمراء» كانوا يأملون من خلالها انتصاراً كاسحاً في مجلسَي النواب والشيوخ، إلّا تحذير من احتمال التخلّي عنه، وما سيَترافق معه من انقسام داخل المعسكر المتشدِّد نفسه. وقلّل ترامب من شأن مُنافِسه المحتمل ذي الإمكانات «المتوسّطة»، والذي يفتقر إلى «الولاء»، مُصعِّداً من هجومه في بيان طويل نَشره على منصّة «تروث سوشِل»، انتقد فيه حاكم فلوريدا: «الآن، رون ديسانكتيمونيوس يلعب ألعاباً! فقد سَأَلَتْهُ وسائل الإعلام المزيّفة عمّا إذا كان سيترشّح إذا ترشَّح الرئيس ترامب في انتخابات عام 2024، فقال: أنا أركّز فقط على سباق الحاكم، ولا أتطلّع إلى المستقبل حالياً. حسناً، من حيث الولاء واللياقة، هذه ليست الإجابة الصحيحة».
وإلى ما تقدَّم، ثمّة مَن يَعتبر أن نتائج «النصفيّات» «المخيّبة» لآمال الجمهوريين، على رغم ارتفاع معدّلات التضخّم وانهيار شعبيّة بايدن، هي بمثابة صكّ لتنحية ترامب جانباً، و«دفْنه وإرثه في قبر»، والتعبير للرئيس السابق لـ«اللجنة الوطنيّة للحزب الجمهوري»، مايكل ستيل، الذي أقرّ، والحال هذه، بأن للرئيس السابق «نفوذاً سياسياً بين الناخبين داخل الحزب أكثر ممّا قد يرغب الناس في الاعتراف به». كبّد ترامب الجمهوريين هزائم متتالية: في انتخابات منتصف الولاية لعام 2018 حين فقدوا 41 مقعداً في مجلس النواب الذي أصبح ديموقراطياً، ولاحقاً في رئاسيات 2020 (خسروا الرئاسة وأيضاً مجلسَي الكونغرس). ومع هذا، اضطلع ترامب، مرّة أخرى، بدور اختيار غالبية المرشّحين المُوالين لمقاعد مجلس الشيوخ، فكان أن هُزم عدد من هؤلاء، وفي مقدّمهم محمد أوز عن بنسلفانيا، ودونالد بولدوك عن نيوهامبشير، فيما كان يمكن للجمهوريين بسهولة كسْب هاتَين الولايتَين الحاسمتَين. لهذا، حذّر زعيم الأقلّية الجمهورية في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، استباقاً، من أن اختيار ترامب أسماء غير ذات كفاءة «سيكلّف الحزب الكثير»، بعدما أدّى رفْض الناخبين الجمهوريين «المعتدِلين» بعض المرشّحين باعتبارهم متطرّفين، إلى إضعاف نتائج «الجمهوري».
لا يزال ترامب، وفق ما تُظهره الأرقام، مسيطراً على القاعدة الجماهيرية للحزب، حيث يتمتّع بولاءٍ يقول بعض المحلّلين إنه أشبه بـ«العبادة»، ما يجعل اختيار مرشّح يُقابله مَهمّة شبه مستحيلة. لهذا، تبدو الطريق وعرة أمام ديسانتيس، الذي سيحظى – بلا شكّ – بدعم قيادات الجمهوريين التقليديّين والمانحين الكبار والناشطين المحافظين، وإنْ كان يتبنّى آراء الرئيس السابق وسياساته. إلّا أن ممّا يزيد فُرص طيّ الحزب الجمهوري صفحة ترامب، الفوزُ الكبير الذي حقّقه حاكم ولاية فلوريدا بفترة حُكم ثانية (في انتخابات عام 2016، فاز ترامب بولاية فلوريدا بنسبة 49%، وفي عام 2020 بنسبة 51%، في حين فاز ديسانتيس بنسبة 49% عام 2018، وبـ59.6% هذا العام. وتحوّلت فلوريدا، التي يُحتمل أن تصبح إحدى أهمّ ساحات التنافس على زعامة الجمهوريين، خلال السنوات القليلة الماضية، من ولاية متأرجحة إلى ولاية جمهورية). أيضاً، ثمّة مَن يشير إلى أن قبضة ترامب على قاعدته الناخبة تراخت، وهو ما انعكس في نتائج الانتخابات النصفية؛ فوفق استطلاع للرأي أجرتْه، أخيراً، شبكة «إيه بي سي» الإخبارية و«إبسوس»، تفوَّق ديسانتيس على ترامب عندما سُئل ناخبو الحزب الجمهوري عمَّن يثقون به لتوجيه الحزب مستقبلاً. وفي آخر أجرتْه الشبكة في تموز الماضي، قال 57% من الجمهوريين المستطلَعة آراؤهم، إن ترامب يجب أن يعزف عن الترشّح لانتخابات عام 2024. ومع حسْم نتيجة مجلس الشيوخ لمصلحة الديموقراطيين، دعا السناتور الجمهوري عن ولاية ميسوري، جوش هاولي، حزبَه إلى «بناء شيء جديد»، لأن «الحزب القديم مات، وحان وقت دفنه».
صحيفة الأخبار اللبنانية