سامي حلمي يؤرخ لبدايات السينما المصرية
هل يستغرب البعض معرفة أن بدايات السينما المصرية كانت عبر مدينة الإسكندرية، فتعتبر من أقدم العواصم الحضارية في العالم، كما تعتبر في الوقت نفسه العاصمة الثانية لمصر في الوقت الحالي وإحدى أهم مدنها الاقتصادية والثقافية.
ويصف الكاتب سامي حلمي في كتابه “بدايات السينما المصرية” مدينة الإسكندرية بأنها المدينة المتوسطية التي تتميز بخصوصية وسمات تختلف عن باقي المدن والمواني الأخرى، فالإسكندرية تتميز بسمات وخصوصية تجعلها تتميز عن باقي المدن والموانيء الأخرى في مصر، فهي منذ أمد بعيد ملتقى شتى الحضارات، والمدينة التي اجتمعت فيها ثقافات وعلوم إنسانية من مشارب مختلفة، فاضت على العالم معرفة وحكمة وعلوما إنسانية تعلم منها العالم بأسره، وفي نفس الوقت فإنها مدينة استطاعت أن تجذب عشرات الملل والجنسيات على مدار تاريخها العريق، وهم الأجناس الذين اختلطوا مع أهل الإسكندرية الأصليين وذابو عشقا في حواريها وجوانبها ونهلوا من منابعها الثقافة والمعرفة وكتبوا فيها شعرا وتفاعلت فلسفات كثيرة معها.
ولهذا فإن المؤلف يشير إلى أن الإسكندرية قد كتب عنها مؤلفون روائيون مصريون وغير مصريين روايات تدور أحداثها على أراضيها، حيث هام الكثير من المبدعين في ترابها الزعفران، وتفاعلوا معها بشكل مدهش فقد تفاعلت على أرضها الثقافات واللغات والمعتقدات على اختلافها من فرنسيين وإنجليز وإيطاليين وأرمن وأتراك ويونانيين بشكل ليس له مثيل في العالم، إلى جانب العرب والشوام ومن عاش فيها من مراكش وشمال أفريقيا بالإضافة إلى أولاد البلد الأصليين.
جميع هؤلاء شكلوا نسيجا واحدا على الرغم من تنوع ثقافاتهم، وهو ما أسفر عن إبداعات لأشخاص مثل عبدالله النديم وبيرم التونسي وسيد درويش وغيرهم من الشعراء والأدباء الذين ظهروا في البيئة السكندرية، في نفس الوقت احتضنت الإسكندرية يعقوب صنوع الرائد الحقيقي للمسرح المصري، وفقا للمؤلف، كما احتضنت سليم وبشارة تقلا الذين أسسا جريدة الأهرام فيها، وفي نفس الوقت شهدت الإسكندرية المراسم والمحافل الفنية التي أقامها الفنانون الأجانب الوافدون والمقيمون بها، وتتلمذ على يد هؤلاء رواد الفن التشكيلي أمثال محمد ناجي ومحمود سعيد والأخوان أدهم وسيف وائلي.
وأرسل الأخوان لوميير بعثة للإسكندرية، ضمن بعثات أخرى لبلدان مختلفة لتجربة اختراع السينما، وذلك بهدف تصوير مناظر مصرية تعرض فيما بعد في السينماتوغراف في كل أنحاء العالم، فقامت هذه البعثة بتصوير مناظر في مدينة الإسكندرية شملت محطة ترام شدس، ووصول القطار لمحطة سان استيفانو، وميدان القناصل الشهير، بالإضافة لموكب المحمل الشريف.
وفي إطار هذا الزخم الذي شهدته مدينة الإسكندرية، تلك المدينة الكوزموبوليتيانية، كانت مؤهلة لاستقبال بدايات السينما المصرية، هذا الفن الرائع والمدهش في تأثيره، ومع الإقبال المدهش من سكان الإسكندرية على اختلاف مشاربهم الثقافية وأصولهم العرقية على مشاهدة الأشرطة الأولى من الأفلام التسجيلية التي تم إنتاجها في بدايات القرن الماضي، انخرط رواد الفن السينمائي في صنع أول شريط سينمائي ظهر للعرض في سنة 1907، قدمه كل من عزيز بندرلي وامبرتومالافاسي دوريس، ولكن ظروف الحرب العالمية الثانية التي اشتعلت في عام 1939، دفعت بالأجانب الذين كانوا يخشون تقدم جيوش النازي للاتجاه للقاهرة، وخاصة الإيطاليين مما نقل حركة صناعة السينما الواعدة من الإسكندرية للقاهرة، خاصة مع تأسيس استديو مصر.
ووفقا للمؤرخين الذين استند لهم المؤلف فقد كان العرض الأول لشريط سينمائي في مصر هو العرض الذي قدمه الأخوان لوميير عن طريق بعض الأجانب الذين استقدموا هذه الشرائط من الإسكندرية، حيث تم عرضها في بورصة طوسون بمحطة الرمل، وكان ذلك في 5 نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1896، أما القاهرة فقد شهدت في 28 نوفمبر/تشرين الثاني من سنة 1896، وفي صالة حمام شنيدر بعمارة حليم باشا أول عرض سينمائي عن طريق مسيو ديللوسترولجو، وحيث حققت هذه المشاهدة ما سبق أن تحقق من نجاح في الإسكندرية.
ووفقا لما نقله المؤلف عن المخرج والباحث السينمائي محمد كامل القليوبي، فإن الولادة الحقيقية لأول تجربة سينمائية تجارية في مصر تقدم عروضها مقابل تذاكر مدفوعة كانت في يوليو/تموز سنة 1907 بعرض فيلم “زيارة جناب الباب العالي للمعهد العلمي في مسجد سيدي أبو العباس”، والذي يؤكد المؤلف أن جميع من كتبوا عن تاريخ السينما في مصر اعتبروا أن هذا العرض هو أول عرض سينمائي تجاري في مصر.
وعرض هذا الفيلم للموكب الضخم لجناب الباب العالي والمراسم الخاصة بالاستقبال ومظاهر تشيعه وانصرافه في موكبه المهيب مع المرور على تلاميذ المدرسة والعلماء وكبار القوم والأعيان والطلاب الذين احتشدوا في انتظاره.
وبعد الاستحسان الذي لاقاه الشريط الأول صنع عزيز ودوريس شرائط أخرى قدموا فيها جوا آخر مغايرا عما سبقه من خلال أفلام وثائقية عرضت لحفل الأعياد الرياضية في مدرسة الفرير، وعرض لمشاهد كنيسة سانت كاترين، بالإضافة لعرض لمشاهد من المنشية الصغرى بمدينة الإسكندرية، كما استمر كل من عزيز ودرويس في صنع أفلام وثائقية أخرى منها حفل استقبال البطل الوطني عزيز المصري في الإسكندرية، ووصول السلطان إلى الميناء والموكب الذي رافقه حتى قصر رأس التين، ثم إنشاء أول دار عرض وهي سينما فون عزيز ودوريس في سنة 1906، بالإضافة إلى إنتاج هذا الثنائي لمجموعة من الشرائط المتنوعة التي تتناول المناسبات الوطنية والاحتفالات والأنشطة التجارية، وبعد ذلك احتضانهما لصبي صغير هو (الفيزي اورفانيلي) الذي سوف يتعلم منهما أصول هذه الصنعة ليكون له بعد ذلك شأن كبير في صناعة السينما المصرية بعد ذلك.
وفي القاهرة، نشط امبرتودوريس في تصوير شرائط إخبارية متنوعة عدا الدور المهم الذي لعبه بإنشاء أول استديو سينمائي في مصر، وهو الاستديو الذي شهد في عام 1933 تصوير أول فيلم مصري ناطق وهو فيلم “أنشودة الفؤاد” الذي أشرف عليه امبرتودوريس فينا، وتضمن هذا الفيلم أيضا عددا من المشاهد الخارجية.
يذكر أن كتاب “بدايات السينما المصرية” لمؤلفه سامي حلمي، صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة ، ويقع في نحو 96 من القطع المتوسط. (خدمة وكالة الصحافة العربية)
ميدل ايست أونلاين