سامي مبيّض: تفكيك الأيقونة الناصرية
«بسم الأمة»! هذه العبارة التي كان جمال عبد الناصر يفتتح بها قراراته المصيرية، أطاحت طمأنينة التجّار والصناعيين وملّاكي الأراضي السوريين خلال الوحدة بين سوريا ومصر. ذلك أنّ قرارات التأميم التي أصدرها بحق هؤلاء زعزعت استقرار وازدهار الاقتصاد السوري «بشطبة قلم» وفق ما يقوله سامي مروان مبيض في كتابه «عبد الناصر والتأميم: وقائع الانقلاب الاقتصادي في سورية» (دار رياض الريس للكتب- بيروت). معجزة الوحدة، كما هلّل لها السوريون بالهتافات والأغاني والشعارات الاشتراكية، كانت على الصعيد الاقتصادي بمثابة طعنة قاتلة، نظراً لغياب القراءة العقلانية للنسيج الاقتصادي السوري بالمقارنة مع الواقع المصري. لكن حماسة الاشتراكيين مثل أكرم الحوراني وحفنة من الضباط، بدت نوعاً من الانتقام حيال ملّاكي الأراضي، انتهت بإصدار «قانون الإصلاح الزراعي» بعد إعلان الوحدة بأشهر (1958)، بمصادرتها من ملّاكيها لمصلحة الفلاحين بوصفهم شركاء لا أجراء. على أن الزلزال الأكبر الذي أصاب الجسم الاقتصادي السوري أتى مع قانون التأميم (1961) الذي التهم المصانع والمصارف وشركات التأمين «تماشياً مع السياسة الاشتراكية العليا للجمهورية العربية المتحدة».
هكذا توجهت دوريات من الشرطة إلى كبرى المنشآت الاقتصادية في دمشق وبقية المدن السورية لتنفيذ قرار التأميم، على غرار ما حصل في «الإقليم الجنوبي» لدولة الوحدة «طُلب من مؤسسي تلك المصانع والبنوك إخلاء مكاتبهم بعد أخذ أوراقهم وأمتعتهم الشخصية وتسليم المفاتيح والدفاتر والأختام لمفوضين من وزارتي الاقتصاد والصناعة». لكن وصفة «العدالة الاجتماعية» التي أقنعت عبد الناصر بتنفيذها على يد بطانة سيئة، دون أن يتسنى له معرفة تفاصيلها وخصائصها، أدت في نهاية المطاف إلى «انهيارات متتالية في مفاصل الاقتصاد الوطني، واستبدل بهؤلاء الأثرياء أثرياء جدد صنعتهم الظروف السياسية في زمن الوحدة وما بعدها». يمضي المؤرخ الدمشقي في نبش وثائق تلك المرحلة من موقعٍ مضاد، مفككاً الصورة الأيقونية عن مرحلة الوحدة بكشف مثالبها، كأنه يقوم بعملية تصفية حساب مؤجل مع «رجالات الوحدة» ثم الانفصال. فوفقاً للوقائع، لم ينفّذ الانفصاليون وعودهم بإلغاء قرارات التأميم، رغم اعتراضات بعض اقتصاديي تلك الفترة على هذه الممارسات الجائرة. يوضح مبيّض أن كتابه ليس نسفاً لوجهة النظر الأخرى التي ناصرت العمال والفلاحين، إنما محاولة للاقتراب من وجهة نظر الطرف الآخر، أصحاب المصانع والمصارف المؤممة، بقصد تحريض القارئ على التفكير في السياسات الاقتصادية والاجتماعية لدولة الوحدة، وأخطاء تلك المرحلة. كانت الذريعة التي اتكأ عليها قرار التأميم هي محاولة للجم تهريب أموال الصناعيين إلى لبنان والعيش من فوائد المصارف بدلاً من استخدام الأموال لتطوير معاملهم. وسيعترف الرئيس الأسبق أمين الحافظ لاحقاً بأن معظم المؤسسات والشركات المؤممة في عهده «لم تكن تستوفي شروط التأميم، فبعضها كان صغيراً لا يتعدى أن يكون ورشة أو دكاناً». وأضاف بأنه استند إلى دليل الهاتف لمعرفة أسماء الشركات القائمة يومها، فأمر بمصادرة كل مؤسسة كُتب إلى جانبها وصف «معمل». إخفاقات الوحدة لم تتوقّف على واجهتها الاقتصادية، وإنما كانت في هيمنة أجهزة الأمن والمخابرات المصرية على الأهالي وعلى أجهزة الدولة، وعلى الجيش، «ما ولّد لدى الضباط النقمة على الوحدة» حسب ما يقول عبد الله الخاني. ويروي صناعيون وتجّار في مقابلات أجراها معهم مؤلف الكتاب الضيم الذي لحق بهم جرّاء الممارسات الناصرية والخفّة التي تعامل بها عبد الحكيم عامر مع الواقع السوري، ما أدى إلى الانفصال، لتقع البلاد لاحقاً تحت سطوة الانقلابات العسكرية.
اختزل الرئيس شكري القوتلي موقفه من الحالة السورية في ظل الوحدة بقوله: «لقد كان في أساس الأخطاء كلها قاعدة واحدة: تأمين الأقلية وتخوين الأكثرية، وتسليط هيئات مصطنعة وأفراد على تنفيذ اشتراكية تعاونية لا يؤمنون بها، ولا يعملون من أجلها، ولا يفهمون أي مبدأ من مبادئ العدالة والتعاون» ولكن لماذا لم يلغِ الانفصاليون قرارات التأميم؟ في الوقائع، حاول القائمون على «جمهورية الانفصال» إلغاء القرارات الاشتراكية، لكن الشارع الناصري السوري احتج على الإلغاء بتظاهرات حاشدة، ما دعا وزير الاقتصاد حينذاك عوض بركات للقول: «من يحكم البلد إذاً؟ نحن أم هؤلاء؟ أنا أعرف مزاج الناس جيداً، من غرف تجارية ومصارف ومصانع، جميعهم لا يريدون هذا الميكروب/ التأميم، في التشريع السوري». حاول السوريون ترميم العطب الذي أصاب الاقتصاد السوري بالتوفيق بين رغبة الشارع الناصري وأصحاب رؤوس الأموال السورية بمبادرة من رئيس الحكومة خالد العظم، لكنه لم ينجح في مساعيه، فقد أطاحته ومشروعه «مجموعة من الضباط الناصريين والبعثيين يوم 8 آذار 1963» بمصادرة أملاكه وتحويلها إلى مؤسسات عامة، كما ستصدر قرارات تأميم جديدة، أشمل وأوسع من قرارات عبد الناصر، وتجميد غرفة تجارة دمشق، ولم تُرفع القيود عن عمل التجّار إلى ما بعد 1970 وإشراكهم في عضوية مجلس الشعب كنوع من رد الاعتبار لرمزية سوق الحميدية. يضيء سامي مبيض في فصولٍ لاحقة على الحياة المصرفية قبل التأميم وأبرز البنوك التي كانت تعمل في البلاد، بالإضافة إلى تفاصيل قانون الإصلاح الزراعي ودور أكرم الحوراني في تفعيل هذا القانون لمكاسب حزبية في المقام الأول. وقد وصف نجيب الريس في افتتاحيته في جريدة «القبس» تصرفات الحوراني الثورية بقوله: «أرض عاطلة من الإنتاج، وفلاحون عاطلون من العمل». ليست قرارات التأميم، وقانون الإصلاح الزراعي كارثة اقتصادية فحسب، وإنما أيضاً سياسية، أدت إلى هيمنة العسكر على مقدرات البلاد، انقلاباً إثر آخر بشعارات ثورية جوفاء. إماطة اللثام عن هذه المرحلة العاصفة والمضطربة باعتماد الوثائق والصور الأرشيفية، عدها بعضهم، إثر صدور الكتاب، محاولة ثأرية من المؤرخ الدمشقي الذي ينتسب إلى عائلة تجارية كان لها حضورها في المشهد الاقتصادي قبل قرار التأميم، وتصفية حساب مع المرحلة الناصرية، رغم نفيه مثل هذه الاتهامات، مبرراً عمله بأنه «ليس انحيازاً بقدر ما هو انتقاد. نقد لوحدة، كل من عاشها تمنّاها أفضل، وليس من المجحف بحق الوحدة تسليط الضوء على أخطائها».
صحيفة الأخبار اللبنانية