ست سنوات من الموت البطيء
ما كان لإحدى الشركات السورية أن تفكّر لحظة واحدة قبل نحو ست سنوات، لا بل حتى قبل ثلاث سنوات، بطرح منتج غذائي مصنع من فول الصويا ليكون بديلاً من مادة اللحوم على مائدة السوريين. كيف لا، والبلاد كانت تملك ثروة حيوانية كبيرة، ودخل أفرادها يتيح على الأقل لشريحة واسعة منهم تناول اللحوم أكثر من مرة واحدة شهرياً. لكن تحت ضغط نقص المادة، وارتفاع أسعارها إلى مستويات تعجز عنها عائلات كثيرة، بات منتج الشركة «النباتي» ذا جدوى، لا سيما أن سعره لا يشكّل سوى 19% فقط من سعر مادة اللحوم.
هذه الحادثة، على رمزيتها، تؤشر إلى طبيعة المتغيّرات الاقتصادية والاجتماعية، التي قلبت حياة السوريين خلال السنوات الست الماضية إلى «جحيم»، فارتفاع تكاليف المعيشة إلى مستويات بات دخل السواد الأعظم من السوريين عاجزاً عن مواكبتها، تسبّب في تحويل سوريا بشكل شبه كامل إلى مجتمع فقير، يعاني فيه أكثر من ثلث سكانه من حالة انعدام الأمن الغذائي، هذا في حين أن نصف عدد السكان تقريباً مهددٌ بالسقوط في دائرة الأمن الغذائي المعدوم.
مؤخراً، وبناء على طلب «الأخبار»، عمل د. علي رستم، وهو مدير الإحصاءات السكانية سابقاً في المكتب المركزي للإحصاء، على إنجاز تقديرات مهمة، تتعلق أولاً بمتوسط الإنفاق الشهري الذي تحتاج إليه الأسرة السورية في نهاية عام 2016، فيما لو بقيت تستهلك نفس كميات عام 2010 من السلع والخدمات، وتتعلق ثانياً بقيمة خطوط الفقر الثلاثة في نهاية العام الماضي. وقد اعتمد رستم على البيانات الرسمية للمكتب المركزي للإحصاء الخاصة بالرقم القياسي لأسعار المستهلك، وبمتوسط الإنفاق المقدر لغاية الربع الأول من العام الماضي. مع الإشارة إلى أن اختيار عام 2010 ليس له أي غاية أو بعد سياسي، وإنما اعتُمد كسنة أساس يُبنى عليها لتوصيف وتحليل الواقع الراهن.
العودة إلى الوراء
تظهر النتائج أن متوسط الإنفاق الكلي المطلوب لتعيش الأسرة السورية بمستوى عام 2010 يصل إلى أكثر من 221 ألف ليرة (أي ما يعادل 417 دولاراً بناء على سعر صرف 530 ليرة للدولار الأميركي)، في حين أن متوسط إنفاق الأسرة وفق دخل ونفقات الأسرة لعام 2009 يبلغ نحو 30 ألف ليرة (أي ما يعادل 600 دولار بناء على سعر صرف عام 2010 وهو 50 ليرة للدولار)، أي بنسبة زيادة تصل إلى أكثر من 717%.
جغرافياً، تتباين تقديرات الإنفاق بين محافظة وأخرى تبعاً لعوامل عدة، متعلقة بطبيعة النشاط الاقتصادي، الأنماط الاستهلاكية للسكان، ومدى توفر السلع والخدمات وانسيابها باتجاه الأسواق الداخلية، كما لعب الإنفاق على إيجارات السكن دوراً مؤثراً وأساسياً في نسب ارتفاع متوسط الإنفاق، حيث تتصدر العاصمة دمشق قائمة المحافظات، إذ تحتاج الأسرة المقيمة فيها وسطياً إلى نحو 268 ألف ليرة شهرياً لتعيش كما كانت تفعل في عام 2010، تليها محافظة طرطوس بنحو 240 ألف ليرة، فمحافظة القنيطرة ثالثة بنحو 239 ألف ليرة، ثم محافظة درعا رابعة بنحو 234 ألف ليرة، فمحافظة ريف دمشق خامسة بنحو 231 ألف ليرة. أما المحافظات التي جاءت في ذيل القائمة فكانت إدلب الأخيرة بنحو 184 ألف ليرة، وقبلها كانت المرتبة لمحافظة دير الزور بنحو 187 ألف ليرة، فالسويداء بنحو 201 ألف ليرة.
وبمقارنة هذا الترتيب مع ترتيب المحافظات وفق متوسط إنفاق الأسرة السورية في عام 2009 سوف نجد أن هناك تباينات واضحة، وهذا مرده إلى المتغيرات التي أفرزتها الحرب داخل كل محافظة ومنطقة وقرية، سواء لجهة الإنتاج المحلي لكل محافظة، أو لجهة تركيبة الأسواق فيها والعوامل المؤثرة في حركة السلع وأسعارها، ويتضح هذا أكثر مع الحديث عن نسبة الإنفاق على الغذاء من إجمالي متوسط الإنفاق العام للأسرة، فعلى مستوى سوريا فإن نسبة الإنفاق على الغذاء من إجمالي متوسط الإنفاق العام يجب ألا تقل عن 56.6 في المئة لتستطيع الأسرة العيش بمستوى عام 2010، وهذه النسبة لم تكن تتجاوز في عام 2009 أكثر من 45.6 في المئة، وهنا يعلق رستم على ذلك بالإشارة إلى أنه «كلما ازدادت نسبة الإنفاق على الغذاء، فهذا دليل على تراجع المستوى المعيشي للسكان، فمثلاً في الدول المتقدمة لا تزيد نسبة الإنفاق على الغذاء من إجمالي متوسط إنفاق الأسرة عن 20 في المئة».
على مستوى المحافظات، تُظهر تقديرات نسب الإنفاق على الغذاء أمرين، الأول يتمثّل في التراجع المخيف في المستوى المعيشي للسكان في نهاية عام 2016، وبمستويات تختلف من محافظة إلى أخرى، والأمر الثاني أن جميع المحافظات، التي سجلت نسباً عالية في متوسط الإنفاق على الغذاء، كانت في قلب الحرب والمعارك والحصار، فمحافظة دير الزور، التي تعاني مدينتها من حصار شديد، جاءت أولاً في النسبة المطلوبة للإنفاق على الغذاء بنحو 80.4 في المئة، ثم جاءت ثانية محافظة الحسكة بنسبة 73.1 في المئة، وكانت المرتبة الثالثة من نصيب محافظة الرقة الخاضعة لسيطرة تنظيم «داعش» منذ نحو ثلاث سنوات بنسبة 71.5 في المئة، ثم حلب رابعة بنسبة 63.4 في المئة، فإدلب خامسة بنحو 59.6 في المئة.
أما أقل المحافظات لجهة نسبة متوسط الإنفاق على الغذاء من إجمالي متوسط الإنفاق المطلوب للأسرة شهرياً، فكانت العاصمة دمشق في المرتبة الأخيرة بنسبة 44.7 في المئة، وقبلها جاءت شقيقتها ريف دمشق بنسبة 47.7 في المئة، وقبلهما كانت السويداء بنسبة 49.5 في المئة، وهي مؤشرات تؤكد أن المستوى المعيشي للأسرة المقيمة فيها أفضل من نظيراتها في المحافظات الأخرى، لأسباب تتعلق بالحالة الأمنية المستقرة لدمشق والسويداء وبعض مناطق ريف دمشق، وأثر ذلك في الوضع الاقتصادي لهذه المحافظات، وكذلك لتوفر السلع والمواد وانخفاض تكاليفها، وتالياً أسعارها النهائية.
المفارقة تكمن في أن ترتيب المحافظات تبعاً لنسب الإنفاق على الغذاء في نهاية العام الماضي، لم تتغير تماماً عند مقارنتها مع بيانات مسح دخل ونفقات الأسرة عام 2009، الأمر الذي يشير إلى أن الخلل في الوضع المعيشي لتلك المحافظات وتراجعه ليس بجديد، إنما تعمّق أكثر مع الأزمة، وزادت حدته إلى حدود باتت مخيفة. وهذا يمكن استخلاصه ببساطة مع استعراض قيمة خطوط الفقر المقدرة لعام 2016، ومقارنتها بالدخل الشهري للأسرة السورية.
ثلاثية الفقر
تخلص إسقاطات رستم إلى أن قيمة خط الفقر الأعلى بنهاية العام الماضي على مستوى سوريا تبلغ نحو 155 ألف ليرة، أي أن كل عائلة سورية لا يتجاوز دخلها الشهري تلك القيمة، فهي تصنّف عملياً ضمن دائرة الفقر، وإذا لم يتجاوز دخلها الشهري أكثر من 113 ألفاً فهي تكون ما دون خط الفقر الأدنى، وإذا لم يتجاوز دخلها الشهري 89.9 ألف ليرة فهي أصبحت تحت خط الفقر الغذائي.
في التوزع الجغرافي لخطوط الفقر الثلاثة نكتشف أن المحافظات، التي كانت نسبة إنفاقها على الغذاء أقل من نظيراتها، ترتفع فيها خطوط الفقر إلى مستويات تكاد تكون الأعلى، فمثلاً الأسرة الدمشقية التي لا يتجاوز دخلها الشهري عتبة الـ190 ألف ليرة تنزلق إلى ما تحت خط الفقر الأعلى، وإذا كان دخلها أقل من 119.9 ألف فهي ما دون خط الفقر الأدنى، وأكثر من ذلك، إذا كان دخلها 94.8 ألف ليرة وما دون فهي عائلة تعاني من فقر غذائي. وهذا حال محافظات درعا وريف دمشق وحمص مع اختلاف قيمة خطوط الفقر في كلٍّ منها. في المقابل كانت المحافظات الساخنة، والتي شهدت على مدار السنوات الست الماضية معارك واشتباكات عسكرية الأقل لجهة قيمة خط الفقر الأدنى، فمحافظة الرقة الخاضعة لسيطرة تنظيم «داعش» كانت المحافظة الثانية لجهة أدنى قيمة لخط الفقر الأعلى بعد محافظة السويداء، التي قدرت فيها قيمة خط الفقر الأعلى بنحو 123 ألف ليرة، والرقة 126.6 ألف ليرة، الحسكة 145 ألف ليرة، دير الزور 147 ألف ليرة، وحلب 150 ألف ليرة. وهي تناقضات تبررها الظروف الاقتصادية والاجتماعية الخاصة بكل محافظة، والتي تم على أساسها تقدير مستويات المعيشة وخطوط الفقر الثلاثة.
لذلك، وبالنظر إلى مستويات الدخل الشهري التي لا تزال متدنية وضعيفة، فإن وصف المجتمع السوري بالمجتمع الفقير بات حقيقة، قد تختلف النسب بين جهة وأخرى، إلا أن ذلك لا يغيّر من مأساوية مشهد الوضع المعيشي للسوريين بعد ست سنوات من الحرب.
صحيفة الأخبار اللبنانية