سجن قصيدة النثر
لم يعد الكلام مغرياً على قصيدة النثر بحسب شروطها أو معاييرها «المعممة» نظرياً. هذه الشروط التي كانت الناقدة الفرنسية سوزان برنار استخلصتها عام 1959 في كتابها «قصيدة النثر من بودلير الى عصرنا» أوقعت هذه القصيدة في حال من الانغلاق وأربكت شعريتها العالية وكادت تهدم قاعدتها الوحيدة: الحرية الخلاقة. مضى على صدور كتاب برنا أكثر من نصف قرن، وهو كان فعلاً الكتاب الرائد والسبّاق في هذا الحقل، ولم تنافسه منذ ذاك الحين سوى كتب قليلة جداً ومنها كتب الناقد والشاعر هنري ميشونيك. أما المعايير التي استنبطتها الناقدة وأضحت بمثابة «مسلمات» نهائية وجاهزة، لا سيما في النقد العربي، فهي لم تعد قمينة بأداء غايتها الشعرية بصفتها ركائز قصيدة النثر. منذ نهاية الخمسينات التي حدّت بها برنار كتابها، شهدت قصيدة النثر في فرنسا والعالم وحتى في العالم العربي تحولات جوهرية بدت شروط برنار عاجزة عن احتوائها بل مقصّرة حيالها. ظلت المقاييس هي نفسها لكنّ قصيدة النثر لم تبق هي نفسها. فالأجيال التي أعقبت جيل الحداثة الأولى كان لها دورها في تطوير قصيدة النثر وتوسيع فضائها وتحريرها من «الجاهز» أو»الثابت» الذي ليس هو أصلاً من صميمها. أضحت قصيدة النثر قصائد نثر يمكن إدراجها في خانة «شعر النثر»، وهو الشعر الذي يضم نماذج شعرية تختلف بعضاً عن بعض، في الشكل والاسلوب واللغة والبنية والرؤية… أضحت معايير برنار تماثل معايير القصيدة الموزونة والمقفاة التي تحصر الشعر في سياق وأطر لا ينبغي الخروج عنها. وهذا ما يناقض طبيعة قصيدة النثر القائمة على لحظتين: لحظة الهدم ولحظة البناء، ما يعني انها قصيدة اللايقين واللاطمأنينة واللاإستقرار، تماماً مثل شعر النثر أو الشعر الحر، المتحرر من الوزن والقافية.
ولعل العودة النقدية اليوم الى هذه المعايير ومقاربتها في ضوء الشعريات الجديدة التي توالت منذ الخمسينات تكشفان تراجعها أو انكفاءها عن اداء معانيها «الاصلية» المستخلصة من قصائد النثر وغير السابقة لها. والمعايير هذه بات يحفظها الشعراء والنقاد غيباً: الإيجاز، الكثافة والمجانية. تُرى هل يمكن حصر هذه الشروط في قصيدة النثر وحدها؟ أليست هذه الشروط متوافرة في معظم الانواع الشعرية، القديمة والحديثة؟ هل تكفي هذه المعايير التي شكّك فيها أصلاً، شعراء ونقاد فرنسيون، لصنع قصيدة نثر حقيقية؟
في كتاب «الأشكال الإيجازية» (دار هاشيت) يكشف الناقد الفرنسي الان مونتاندون في فصل عنوانه «الشعر والإيجاز» أشكال الإيجاز الشعري وأنواعه عبر العصور فتبدو قصيدة النثرهي الاقل التزاماً بالايجاز، ما يعني ان هذا الشرط ليس من خصائص هذه القصيدة وحدها بل هو الاقل تجلياً فيها. أما الكثافة فهي مقولة «مرنة» و»مفتوحة» وليست قصراً البتة على قصيدة النثر ويصفها على سبيل المثل «معجم الاداب» الفرنسي في كونها «درجة عالية من القوة التعبيرية التي تُكتسب بطرائق عدة». ولعل مقولة المجانية هي الاشد اشكالاً كما يعترف الناقد ميشال ساندراس في كتابه «قراءة قصيدة النثر»، فهي تفترض أن على قصيدة النثر ألا تضمّ إحالات الى ظروف خارجية ولا الى عناصر بيوغرافية. على قصيدة النثر في هذا الصدد الاّ تعنى الا بذاتها وهي لا غاية لها خارج ذاتها هذه. الا أن الناقد ايف فاده في كتابه البديع «قصيدة النثر»(منشورات بيلين سوب) الذي يعد من أهم المراجع الجديدة في هذا الميدان، يوسع أفق قصيدة النثر وتخوم شعريتها ويركز على تقاطعها مع «الاشكال الايجازية» والعناصر السردية والطرفة والقصة القصيرة والحكاية الخرافية والوصف… وأتذكر هنا ما قاله الشاعر لويس اراغون وكأنه يسخر من شروط قصيدة النثر: «هل من قاعدة تسمح في التمييز بين مقطوعة نثرمنفصلة وقصيدة نثر…؟».
أنجز الشاعر عبدالقادر الجنابي انطولوجيا عالمية ضخمة لقصيدة النثر واختار لها عنواناً لافتاً هو «ديوان الى الابد» (دار التنوير)، وأحكم ذائقته النقدية في اختيار ما اختار من قصائد نثر عالمية وعربية. هذه الانطولوجيا فريدة عالميا، لا سيما في شموليتها وحملت مقدمة وضع فيها الجنابي خلاصة عمله الطويل والحثيث في حقل قصيدة النثر. وعلى عادة الانطولوجيات حضرت اسماء وغابت أسماء بعضها مهم ومهم جداً. ولعل أول الغائبين هو الشاعر محمد الماغوط و»جريمته» انه لم يكتب قصيدة نثر بحسب شروط سوزان برنار والمعايير «المعممة» على غرار البيانات الحزبية والايديولوجية. انكرت هذه المعايير شعرية الماغوط النثرية، لكنها لا تستطيع البتة لا هي ولا سوزان برنار، ان تنكر شعرية هذا الشاعر الكبير الذي كان ولا يزال، واحداً من رواد قصيدة النثر العربية، شاء من شاء وأبى من أبى.
باتت شروط قصيدة النثر أشبه بقضبان سجن تاريخي. ترى ألم يحن الأوان لهدم هذا السجن والخروج الى هواء شعر النثر الطلق؟
صحيفة الحياة اللندنية