سقطات برنار هنري ليفي المتتابعة (إسكندر حبش)
إسكندر حبش
كلّ ما يفعله أو يقوم به، لا بدّ أن يجد صدى واسعاً ـ لا في الوسط الثقافي فقط بل أيضاً في الوسط الاجتماعي بأسره. أي مقالة أو رأي صادر عنه، لا بدّ من أن يثيرا الكثير من الحنق وردود الفعل الساخطة والمنددة، ومع ذلك لا بدّ من أن تجده محتلا وسائل الإعلام برمتها، المكتوبة والمسموعة والمرئية، حيث لا يتوقف فيها عن التسويق لفكرته التي تجد في النهاية آذانا صاغية عند بعض السياسيين الذين يتبنونها.
في حين أنه لا تنقصه وسائل إعلامه «الخاصة»: هو صاحب مجلة «قواعد اللعبة» التي تصدر ثلاث مرات في السنة وتعنى بـ«الأدب والفلسفة والسياسة والفنون»، كذلك لديه مقالة أسبوعية في الصفحة الأخيرة من مجلة «لوبوان»، بالإضافة إلى مدونة على الانترنت يضع فيها كل تحركاته ونشاطاته وصوره وبالطبع «وجهات نظره الفريدة» بكل ما يجري من أحداث (متنوعة) في العالم. وأيضاً وأيضاً، تفتح له أبواب التلفزيونات ليطل منها بانتظام، في حين أن الكثير من المثقفين الحقيقيين لا يسمح لهم حتى بالظهور أو لربما بالتعبير، من دون أن ننسى المؤتمرات الصحافية العديدة التي يعقدها والتي تحظى بتغطية إعلامية واسعة.
منذ أيام و«الثقافة» الفرنسية مشغولة «بطفلها المدلل»، برنار هنري ليفي، أحد رموز «الفلاسفة الجدد»، وأحد «المفكرين» الذين حفروا حضورهم مع سبعينيات القرن المنصرم. أطلقت عليهم الكثير من الألقاب المتنوعة، التي لا تقتصر على المديح، بل أبعد من ذلك، إذ اعتبروا أنهم يحملون الفكر الفرنسي إلى مناطق أبعد وأعمق. مضت الأيام، ولم يحدث شيء من ذلك، سوى أنهم تصدروا وسائل الإعلام، ليبدوا أشبه بنجوم السينما أو مغنّي الروك، لدرجة أن اسم ليفي تحول إلى «ماركة مسجلة» بمعنى أنه يكفي أن تكتب (BHL) ليعرف القارئ أنه هو المقصود.
والسبب في هذا الاهتمام؟ مقالة كتبها منذ أيام في «لوموند» (19 الحالي) طلب فيها من الرياضيين الفرنسيين مغادرة سوتشي، حيث تجري الألعاب الاولمبية الشتوية، أو على الأقل «يتوجب عليهم مقاطعة حفل الاختتام» كي يدينوا الموقف الروسي من الأحداث الجارية في أوكرانيا (قد تكون انتهت اليوم)، مع العلم أن ليفي، زار أوكرانيا حيث المتظاهرون، من دون أن ينسى بالطبع أن يثير المحتجين بكلامه وأن يصطحب معه فريق تصوير كاملاً، ليقف أمام الكاميرات بأوضاع مختلفة كي «يبكي على الديموقراطية المهانة».
وقفات أمام الكاميرا تشبه وقفاته الماضية أكانت في سراييفو يوم الأزمة «اليوغسلافية» في بداية التسعينيات، ومن ثم في صربيا بعد أن دكت «الديموقراطية» الأميركية والحلفاء الأوروبيون تلك المدينة، ومن دون أن ننسى بالطبع وقفته الشهيرة فوق أنقاض ليبيا، خلال الثورة، حتى أن هناك من يقول إنه السبب المباشر في إقناع ساركوزي بالمشاركة في الحرب، التي أراد أن تستمر في سوريا (من دون أن ننسى المؤتمر الذي أقامه لدعم المعارضة السورية مع بداية الأزمة).
لم ينتظر الفرنسيون طويلا حتى بدأوا بالرد على تصريحات ليفي، منهم من قال إن حقده على الرياضة هو ما دفعه لقول ذلك، ومنهم من اعتبر أنه لا يحق له تسييس الرياضة لأن ذلك يخالف مبدأ الألعاب الأولمبية نفسها، ومن جهة ثالثة، جاء من يقول الأمر لا يزيد عن «حقنة» جديدة من تلك الحقن التي يستعملها لتلميع صورته ونفخ «أناه»، في حين اعتبر آخرون أنها سقطة جديدة من سقطاته الثقافية التي لا تحصى ولا تعد الخ..
سقطة ثقافية
هذه الإشارة إلى السقطة الثقافية تعني بالعمق «الفضيحة» التي واكبت منذ سنوات قليـلة، أحد كتبه الأخيرة الذي جاء بــعنوان «عن حرب الفلسفة» إذ اعتمد فيه على مرجع بعنوان «الحياة الجنسية لكنط» (الفيلسوف الألماني) معتبراً أنه يمكن لنا أن نقرأ مؤلف كنط الرئيسي «نقد العقل المحض» بصفته عـذاباً إنســانياً، في ما لو كنا قرأنا عن حياته الجنسية.
لا تبدو القضية في هذا الكلام سوى فكرة يمكن لها أن تكون مثيرة، لكن المشكلة تكمن في أن هذا الكتاب عن كنط ملفق، أي كتبه أحد صحافيي «الكانار أونشينيه» في منتصف التسعينيات، ونسج أحداثه للتسلية من دون الاعتماد على أي وثيقة علمية، والكلّ يعرف هذا. بمعنى أنه كان يكفي «المفكر» المعاصر أن يبحث لدقائق على الانترنت ليعرف قصة هذا الكتاب. أمر آخر مشابه حدث معه حين أصدر كتاب «الإيديولوجيا الفرنسية» (1981)، ففيه قرر أن يعيد قراءة التاريخ الفرنسي المعاصر على هواه، ليستنتج أشياء أثارت حفيظة المؤرخين الفرنسيين الذين اتهموه بالتزوير.
تزوير ينسحب على كلّ شيء، وبخاصة حين يلفق قضية الصراع العربي الإسرائيلي على هــواه، لكن ما يبدو مثيراً، هذه الماكينة الإعلامية التي تسانده، فلو قرأنا الصحف والمجلات الفرنسية التي أشارت إلى هذه القضية لوجـدنا هذا الدفاع المرعب عنه، كأنه لم يرتكب أيّ خطأ علمي مشين، معتبرين أنه وقع فقط ضحية عدم الانتباه.
وبالتأكيد، يحظى ليفي منذ «حملته الأوكرانية» بحملة صحافية مساندة، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على هذا اللوبي الحقيقي الذي نجح في فرضه بعض «مثقفي» فرنسا المنطلقين من هذا الجانب السياسي. بالتأكيد لا تقع كل الثقافة الفرنسية في هذا المطب، إذ علينا أن نذكر مثالا يدل على بعض «صدق» هذه الثقافة، أقصد «التسمية الأخرى» التي تطلق عليه وهي (BHV)، أي تلك التي تقارنه بسلسلة المحلات الكبيرة، بمعنى أنه تاجر يبيع كل شيء.
فعلا، من قال إن الثقافة ليست تجارة عند البعض، حتى لو تم تزوير كلّ شيء.