سلام عادل .. الدال والمدلول وما يمكث وما يزول:ح 1
مدخل شخصي
حين أكتب عن سلام عادل فثمة اعتبارات شخصية وعائلية، إضافة إلى علاقات شيوعية وسياسية، فكلانا ينتمي إلى النجف المدينة المعطاء والمركز الحضاري الثقافي المفتوح للعلم والأدب والفقه والدين والسياسة والتنوّع العرقي واللغوي على الرغم من طابعها العروبي وحفاظها على لغتها العربية السليمة.
وكان عمّي ضياء شعبان صديقاً لسلام عادل ويفتخر بصداقته، خصوصاً وأنه يعتبر نفسه من “أنصار السلام” لأنه وقّع على نداء ستوكهولم الشهير الذي استهلّه عالم الفيزياء الفرنسي فريدريك جوليو كوري في العام 1950 والذي وقّع عليه ما يزيد عن 273 مليون إنسان، والذي دعا إلى حظر الأسلحة الذرية.
وبعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958 وظهور سلام عادل إلى العلن، كان عمّي ضياء غالباً ما يحاول استثارة حفيظتنا بقوله :” إنني صديق سكرتير حزبكم” وأحياناً يمازحنا بقوله أنه سيشتكينا عمّي شوقي وأنا إلى ” أبو إيمان” إذا تأخّرنا في تلبية طلباته أو قصّرنا في تأدية واجباتنا المدرسية.
وكنّا أيضاً نعرف والد سلام عادل السيد أحمد الرضي، كما كان نجيب ناجي يوسف شقيق زوجته “ثمينة” صديقاً مقرّباً جداً لخالي ناصر شعبان، إضافة إلى العلاقات العائلية ومعرفتي اللاحقة بشقيقه إبراهيم وبالدكتورة إيمان كريمة سلام عادل التي عرفتها في موسكو أواسط السبعينات والتقيتها في دمشق وكردستان حين التحقت لفترة وجيزة بقوات الأنصار الشيوعية في مطلع الثمانينات ، وأم إيمان “ثمينة ناجي يوسف” التي التقيتها في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي في موسكو وأعتزّ بها وبشقيقتها نوال ناجي يوسف وشقيقها الصديق نزار ناجي يوسف الذي استشهد في العام 1983 في كردستان في معارك جانبية مع الاتحاد الوطني الكردستاني بعد جريمة بشتاشان.
لهذه الأسباب وغيرها فإن الكتابة عن سلام عادل ليست سهلة، خصوصاً حين يختلط العام بالخاص والوطني بالسياسي والحزبي بالمبدئي، لاسيّما وأن وقصة استشهاده وحدها والبطولة التي أبداها في مواجهة جلّاديه حسبما اعترفوا بذلك تكفي لأن تجعل منه رمزاً كبيراً على مختلف المستويات، سواء في شجاعته وكبريائه أو دفاعه عن المثل والقيم التي آمن بها لدرجة أنه دفع حياته في سبيلها وقد رحل وهو لا يزال في أوج طاقته وحيويته وإبداعه حيث لم يتجاوز الأربعين إلّا ببضعة أشهر.
وإذا كان الحزب قد خسر في العام 1949 قيادة فهد فإنه نُكب بغياب قيادة سلام عادل في العام 1963، وكلاهما كانا مشروعي زعامة شيوعية ، بل ويمكن القول زعامة وطنية عراقية، لكن النظام الملكي ومن خلفه الاستعمار البريطاني حصد زعامة فهد وهي في طريقها للاكتمال والتفتّح، مثلما اقتطعت الموجة الفاشية زعامة سلام عادل الشابة وهي في طريقها إلى النضج والاغتناء، وهما قيادتان من الوزن الثقيل سياسياً وعملياً وتنظيمياً، وهو الأمر الذي عانى منه الحزب في السنوات التي تلت استشهادهما، خصوصاً وأن غالبية من تولّى موقع القيادة والمسؤولية بعد سلام عادل كان أقرب إلى الإدارات الحزبية والمسؤولين التنفيذيين باستثناءات محدودة كعامر عبدالله مثلاً، على الرغم من أن ذلك يثير ردود فعل الآخرين من أقرانه ومجايليه مع إقرارهم بمواهبه ومؤهلاته .
القائد لا يصنع بقرار ولا يتكوّن بناء لرغبة أو لإملاء فراغ أو استناداً لقرار حزبي أو سياسي، وإنما تُنجبه ظروف وأوضاع، بعضها موضوعي وآخر ذاتي، وهذا مهمّ جداً لجهة كارزميته وتجاربه ومعارفه والأدوار التي لعبها في حياته والخبرات التي اكتسبها وعلاقاته مع الآخرين وقدرته على التميّز، سواء برأي مستقل أو من خلال موقعه، ناهيك عن قدرته على التراجع والتقدّم حسبما يتطلّبه الموقف الذي يجمع بين المبدئية وبين إمكانية تحقيق الأهداف بمرونة عالية، أي حسن اتخاذه القرار وتنفيذه، وتحمّل نتائجه حتى لو كان خاطئاً، ومن متطلّبات القيادة الحسم وعدم التردّد.
على طريق الشيوعية
ولد سلام عادل في النجف العام 1922 وهناك من يقول إنه ولد في العام 1924 وهو ما نشرته جريدة البرافدا إثر استشهاده واسمه الحقيقي “حسين أحمد الرضي الموسوي” ووالده “سيّد” معمّم يعتمر العمامة السوداء في إطار الحوزة الدينية النجفية، تخرج من دار المعلمين الابتدائية في بغداد (الأعظمية) العام 1944 وعمل معلّماً في الديوانية وكان رياضياً ورساماً ومخرجاً مسرحياً ومتذوقاً للشعر، وخلال وجوده في دار المعلمين اقترب من تنظيمات الحزب الشيوعي ثم انتمى إلى الحزب في العام 1944 على يد محمد حسين فرج الله في الديوانية، والتقى بـ زكي بسيم في بغداد، الذي اصطحبه إلى أحد البيوت السرية في الكرادة الشرقية، وهناك التقى بفهد (يوسف سلمان يوسف) أمين عام الحزب الذي أبلغه بأنه أصبح “عضواً” في الحزب وكان قد تم اختيار “مختار” اسماً حركياً له، ثم عُرف لاحقاً باسم “عمّار” وما بينهما هناك من يقول أنه استخدم اسم ” هاشم” بعد عودته من لندن، حيث شارك في مؤتمر للأحزاب الشيوعية لدول الكومنولث العام 1954، ودخل لندن وخرج منها دون أن يُكتشف أمره، ولكن الاسم الذي اشتهر به وظلّ ملازماً له حتى استشهاده هو”سلام عادل”.
وصادف أن كان بهجت العطيّة في العام 1946 قد أصبح مديراً لشرطة الديوانية حيث وضع خطة لمضايقة الشيوعيين وكان قد عرف النشطاء منهم بعد مراقبة دقيقة، وربّما هي التي أهّلته لكي يحتل موقع مدير التحقيقات الجنائية لاحقاً، بل أصبح أحد الأعمدة المهمّة للعهد الملكي، وكان العطية قد أرسل في طلب سلام عادل وجرى بينهما حوار كانت نتيجته فصل سلام عادل من وظيفته.
حوار سلام عادل مع بهجت العطية
تروي ثمينة ناجي يوسف التي أصبحت لاحقاً زوجة لسلام عادل وأنجبت منه إيمان وعلي وشذى، أن بهجت العطية قال له : إن أمر فصلك وصل إليّ وهو الآن معي وبإمكاني إيقاف تنفيذه، وحاول توجيه النصح له بترك الشيوعية قائلاً : لو كنت أنت وجماعتك من الـ”فابيين” أو “الاشتراكيين الديمقراطيين” لأمكن التساهل معكم ، لكنكم شيوعيون وأنتم مشكلة مثل “جرثومة السلّ” تتكاثر بالانقسام وليست هناك وسيلة لمقاومتكم غير القوة ، وطلب منه بنبرة لا تخلو من تهديد ، تخفيف حماسه واندفاعه مخاطباً إياه : إنك تحطّم نفسك نتيجة هذا الاندفاع.
فماذا كان جواب سلام عادل؟ فبدلاً من أن يرد على أسئلته ومطالبه بادر هو بتوجيه السؤال لبهجت العطية مخاطباً إياه: كيف يمكن أن نُصلح الوضع؟ فأجابه العطية: ليس أنتم بيدكم إصلاح الوضع ، واستمرّ بسياسة الإقناع والتهديد (العصا والجزرة) قائلاً: عليك أن تختار وأنت شاب ذكي بحيث تخط لنفسك طريقاً جيداً ومريحاً، وفهم سلام عادل مثل هذا القول المبطّن فردّ عليه بالقول: هل تريد أن تشتريني وتساومني على شرفي وأصبح جاسوساً؟ فأجابه العطية : أنت لم تفهمني، الأمر ليس كذلك، ثم خاطب سلام عادل قائلاً ماذا لو جاء قرار فصلك من الوظيفة ؟ كيف يمكنك العيش؟
هنا تغيّر منطق الحوار بالنسبة لسلام عادل الذي استشاط غضباً وقال له: تسألني ماذا أعمل؟ وأنا أجيبك: لدي يدان وتقول لي ماذا أعمل؟ أبيع لبناً على الجسر، سخر بهجت العطية وردّ عليه: نعم ” بلي” كم من المعلّمين رأيناهم يبيعون اللبن على الجسر؟ وأضاف تذكّر يا حسين بعد أن تذوق الجوع أني حاولت أن أجنّبك نتائج هذا الطريق ، فأجابه سلام عادل : أنت لا تحميني، بل تريد أنت أن تدافع عن معاهدة 1930 وعن الاستعمار ، فردّ بهجت العطية على سلام عادل بغضب: أنت مفصول، (انتهى الحوار).
وكانت حملة الفصل قد بلغت نحو 100 معلم ، هذا ما قاله سلام عادل لفهد الذي طلب منه الاحتراف الحزبي براتب 6 دنانير ، لكن سلام عادل كان له رأي آخر عبّر عنه للسكرتير العام بالتالي: لقد قلت لبهجت العطية بأنني سأبيع لبناً على الجسر وأريد أن أقدم نموذجاً للمعلمين المفصولين. وهكذا اختار عمله، فاشترى منقلة وفحماً وأسياخاً وبدأ ببيع الأكباد والقلوب (الفشافيش) على قارعة الطريق في منطقة “علاوي الحلة” بالقرب من “سينما الأرضروملي” أو “سينما قدري” كما كانت تُعرف أو “سينما بغداد” لاحقاً، وكاراج السيارات المزدحم بالسوّاق وكان ذلك بصحبة رفيقه محمد حسين فرج الله الذي كان هو الآخر مفصولاً، ثم عمل في عدة أماكن منها أنه فتح دكاناً لبيع الكبة لتحضير وجبات الإفطار والطعام للعمال في ساحة الوصي ( ساحة الوثبة لاحقا قرب سينما الفردوس) ثم عمل مفتشاً لباصات مصلحة نقل الركاب وهناك قاد إضراباً للعاملين وحينها قررت الحكومة فصله مرّة أخرى.
بعدها عمل معلماً في مدرسة أهلية للأكراد الفيلية بتوصية من ناجي يوسف وبدعم من الحاج علي حيدر والد عزيز الحاج ، كما عمل في المدرسة التطبيقية النموذجية (دار المعلمين الريفية) وكان مبنى هذه المدرسة في الرستمية بصحبة محمد شرارة ومهدي المخزومي ومدحت عبدالله، وخلال تلك الفترة كانت قد نشأت له علاقات مع بدر شاكر السياب وكاظم السماوي ونازك الملائكة وكان يلتقيهم في بيت محمد شرارة ولكنه فُصل من التعليم مرة ثانية في نهاية العام 1948، وكما تقول ثمينة ناجي يوسف بأن سلام عادل تعرّف في تلك الفترة على حسين مروّة الذي كان صديقاً مقرّباً لوالدها.
ثم أُلقي القبض عليه في 19 كانون الثاني (يناير) العام 1949 وحكم لمدة ثلاث سنوات وسنتين تحت الإقامة الجبرية، وانتهت محكوميته بداية العام 1953 وقد نقل إلى سجن نقرة السلمان الصحراوي ثم إلى الموقف العام في بغداد، وكان من المفترض أن يقضي مدة الإقامة الجبرية في مدينة الرمادي، ولكنه هرب منها في اليوم الثاني لوصوله.
انتدبه الحزب ليكون مسؤولاً عن المنطقة الجنوبية وهي تضم الناصرية والعمارة والبصرة التي كان مقرّه فيها، كما يقول كريم أحمد الداوود الذي تسلّم مسؤولية القيادة في نيسان (إبريل) العام 1953 بعد اعتقال المسؤول الأول بهاء الدين نوري (في محلة السفينة بالأعظمية مع مادلين مير زوجته وصادق جعفر الفلاحي) وذلك بعد التشاور بينه وبين ناصر عبود (المسؤول الثاني) وارتقى بعدها لعضوية اللجنة المركزية.
زواج سلام عادل
تزوّج سلام عادل من ثمينة ناجي يوسف التي ارتبط مع عائلتها، وخصوصاً والدها بعلاقة طيبة حميمة، وكان ناجي يوسف (الطالقاني ) شخصية وطنية وتربوية وأصبح نقيباً للمحامين في الستينات وكان يعرف نشاط سلام عادل ويتعاطف معه ولكنه في الوقت نفسه حاول أن ينبّهه للمخاطر التي تهدّده.
وكان سلام عادل قد خطب ثمينة قبل دخوله السجن حتى أنه حين ألقي عليه القبض ودخل السجن كان خاتم الخطوبة بإصبعه، وبعد خروجه منه ارتبط بها رسمياً في حزيران (يونيو) العام 1953 وبعدها بثلاثة أيام سافر إلى البصرة مقر علمه ، علماً بأن مقتضيات السكن في بيت حزبي تقتضي وجود عائلة دفعاً للشبهات، وكانت ثمينة قد أصبحت عضواً في الحزب منذ العام 1949، وقد تأثرّت بسلام عادل منذ أن تعرّفت عليه في الديوانية، عندما كان معلماً خاصاً لها بتكليف من والدها، وقد وافقت على الزواج منه، وتمت إجراءات الزواج الأصولية المدنية وطبقا للتقاليد الدينية المعروفة، وسافرت مع زوجها سلام عادل إلى البصرة.
وعن زواج سلام عادل واقترانه بثمينة تقول السيدة نوّار سعد صالح أن ” خاله أم نجيب” عقيلة ناجي يوسف ووالدة ثمينة اتصلت بهم ودعتهم بإلحاح إلى زيارتها في موعد محدد “دون أن نعرف السبب وذهبنا إلى بيتهم أنا ووالدتي وكنت طفلة حينها في الصف الخامس ابتدائي، وعند وصولنا عرفنا أن المناسبة هي عقد قران ثمينة على سلام عادل (حسين أحمد الرضي) وكما عرفنا فإن الموضوع كان في غاية السرية وأنه كان سجيناً وهو لا يزال مطلوباً، لكن “خاله أم نجيب” اعتزازاً بنا أصرّت على حضورنا ومشاركتها الحفل الذي لم يضمّ سوانا، وكانت هذه هي المرّة الأولى التي رأيت فيها سلام عادل بملامحه الذكية الحادة” ( حوار خاص مع الباحث في براغ 8 كانون الأول/ديسمبر 1989 ولندن 1992 وعمان 2004- انظر كتابنا : سعد صالح: الضوء والظلّ – الوسطية والفرصة الضائعة، الدار العربية للعلوم، بيروت ، 2009، ص 146).
وكنت قد وجّهت أسئلة إلى المحامي لؤي سعد صالح كما التقيته في عمّان العام 2007 في جلسات مطولة ودوّنت فيها بعض إجاباته واستكملتها من خلال مسوّدة مذكراته التي لم تنشر، حيث اقتبست منها بعض الفقرات التي أدرجتها في كتابي المذكور، ومن جملة ما يذكره لؤي سعد صالح أن والده كان يقيم كل يوم أربعاء منتدى أدبياً يعرف باسم “مجلس الأربعاء” يتم فيه استقبال عدد من الأدباء والفنانين والمثقفين والسياسيين وغالبيتهم الساحقة من الرجال، لكن الملفت أن امرأتين كانتا تحضران المجلس وكان والدي يحترم المرأة ويحب كثيراً مناقشتها وكانت ثمينة ناجي يوسف على صغر سنّها تناقش الوالد وتحاوره، وكما كنت ألاحظ ، فقد كان والدي معجباً بمنطقها وشخصيتها، وكذلك كانت الدكتورة فاطمة الخرسان (أعدمت العام 1969) تحضر مجلس الوالد وكان يجلس معها طويلا ًويحاورها في مسائل شتى .
وتذكر نوار سعد صالح أن ناجي يوسف وزوجته كانوا الأقرب إلى والدها ووالدتها، وتقول: وكانت الزيارات مستمرة بين العائلتين واستمرت العلاقة حتى بعد وفاة والدي، ومن المفارقة أننا عرفنا بإعدام سلام عادل العام 1963، وذلك عبر الخالة أم نجيب وقد حدثتنا عن تعذيبه وإعدامه وعن مراسلاتها السرية مع ثمينة حين كانت في موسكو. وتذكر أن إيمان الابنة البكر لسلام عادل “وهي طفلة” كانت تهدد جدّتها(أم نجيب): إذا لم يلبوا رغبتها فسوف تقوم بإخبار الآخرين عن والدها ووالدتها، كما تقول أن والدتها أي السيدة رباب زوجة سعد صالح ، أخفت ثمينة في إحدى المرّات وقامت بتغطيتها بعباءتها ونقلتها من مكان إلى آخر بسيارتهم الخاصة، لأن رقم سيارة سعد صالح “10 كربلاء” معروف للشرطة ولم يكن يتم تفتيش سيارتهم.
ويروي ناصر عبود أن سلام عادل كان قد تزوج في بيته المتواضع في منطقة القاهرة ببغداد وبقي فيه لثلاثة أيام وقد تم إرساله بعدها إلى البصرة لقيادة العمل الحزبي في المنطقة الجنوبية، وأصبح بعدها عضواً في اللجنة المركزية في العام 1954 دون أن يمرّ بمرحلة ترشيح .(انظر: توفيق التميمي، مقابلة مع ناصر عبود، صحيفة التآخي، 4/8/2015)
الدولة واليسار
لا يمكن الكتابة عن سلام عادل دون الكتابة عن جزء مهم وحيوي من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، بل وتاريخ العراق المعاصر وحين نتحدث عن تاريخ الدولة العراقية الحديثة، فلا بدّ أن نتناول تاريخ اليسار العراقي والحركة الشيوعية ولن نمرّ عليها إلّا بالخط العريض وليس مروراً عابراً.
ولعلّ ما هو بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى هو وقفة جدّية للمراجعة الجريئة بخصوص مسيرة اليسار النضالية ودور بعض شخصياته البارزة بما فيها الشيوعية ، بكل ما لها وهو كثير وكبير جداً، وكل ما عليها وهو ليس بقليل، وذلك بعيداً عن التقديس والتمجيد، لاسيّما حين يكون الهدف هو البحث عن الحقيقة ومعالجة ما يستلزم إزاءها. ولأن الكثير من المياه جرت تحت الجسور وإن اللحظة التاريخية لا يمكن استعادتها، لكنه يمكن قراءتها حتى وإن كانت الزوايا مختلفة، الأمر الذي يحتاج إلى قراءة تأملية ونقد ذاتي ورؤية جديدة، خصوصاً بوجود حقائق ومعطيات جديدة.
ولعلّنا حين نكتب فإننا نحاول قدر الإمكان تجنّب ادعاء الأفضليات والزعم بامتلاك الحقيقة وهدفنا هو البحث عنها ورؤيتها خارج نطاق الآيديولوجيا والتصورات المسبقة، لذلك ليس مهمتنا غضّ النظر عن النواقص والعيوب أو التعامل في نوع من المجاملة والارتياح، ولكن بالطبع دون نسيان البطولات والتضحيات الكبيرة.
لقد اختزلت بعض الكتابات “الحزبوية” قيمة الجانب القيادي في شخصية سلام عادل المتميّزة وانجازاته السياسية والتنظيمية وتعاملت معها بطريقة التلقي والتلقين وخارج دائرة النقد، دون أن تمعن النظر في مدى الحيوية الفائقة التي كان يتمتع بها والمبادرات التي أقدم عليها بشجاعة وثقة، فضلاً عن كفاءاته ومواهبه التنظيمية الإبداعية، تلك التي جعلت منه قائداً حقيقياً وليس مجرد مسؤول أو موظف إداري أو مسلكي يقوم بمهمات إدارية وروتينية، وبالطبع فإن القائد الحقيقي لا ينزّه عن الأخطاء أو النواقص وهي لا تنتقص منه أو تقلّل من شأن ما أنجزه، بل على العكس تُظهر حقيقة منجزه وعلى حد تعبير الجواهري الكبير في وصف عبد الناصر :
أكبرتُ يومَكَ أن يكون رثاء
الخالدون عهدتُهم أحياءَ
لا يعصم المجدُ الرجالَ ، وإنما
كان العظيم المجد والأخطاءَ
تُحْصَى عليه العاثرات ، وحسبه
ما فات من وثباته الإحصاء
وحين سألته لمن كنت تتمنّى يا أبا فرات أن تقول هذه القصيدة لو لم تقلها لعبد الناصر؟ فقال كنت أتمنى أن يقولها أحدٌ بحقي، فلديّ من النواقص والمثالب ما لا أخشاه ولا أخفيه ، وبالطبع كان مثل هذا الاعتراف الجريء يقوم على قاعدتين أساسيتين أولاً لأننا بشرٌ والبشر بطبعهم خطاؤون على حد تعبير فولتير، وثانياً ففي أي عمل ثمة ثغرات ونواقص، لكن ذلك لا ينفي ولا ينتقص من النجاحات والمنجزات، والأمر ينطبق على الجميع فما بالك حين يتعلق بشخصية رمزية كسلام عادل الذي ختم حياته المفعمة بالعطاء ببطولة استشهاده الأسطوري.
ونحن إذْ نكتب فذلك لأننا جزء من هذه المسيرة الطويلة والعويصة، وساهم كل منّا بدوره فيها وكل من موقعه بغضّ النظر عمّن أصاب أو أخطأ أو اقترب أو ابتعد عن قيم الشيوعية ومثلها، وتاريخ الأشخاص والحركات مهما كَبُر وصَغُر ، فقد مضى ولا يمكن إعادته، والكلام عنه يبقى مجرد اجتهادات وتقديرات واستنتاجات وهي التي تُبقي التاريخ مفتوحاً وقابلاً للإضافة والحذف ، حسبما تقتضيه الحالة وطبيعة القوى المهيمنة، فالتاريخ مراوغٌ أو ماكرٌ أحياناً حسب هيغل، وقد يعيد التاريخ نفسه ففي المرّة الأولى يظهر على شكل “مأساة” مثلما قد يظهر في المرّة الثانية على شكل “ملهاة” حسب ماركس الذي استلهم عبارته من هيغل ذاته، وهو سجال مفتوح وبلا نهاية حسب المؤرخ بيتر جيل.
إنجازات سلام عادل
وكان من أهم إنجازات سلام عادل هي تمكّنه من استعادة وحدة الحزب وتجميع قواه، خصوصاً بقدرته على استيعاب التنظيمات المختلفة وضمّها إلى الحزب مشخّصاً النواقص والأخطاء لدى جميع الفرقاء، لاسيّما بانتهاج سياسة جديدة قوامها البحث عن الجوامع والمشتركات التي تقرّب ولا تُبعّد والسعي للبحث عن نقاط مشتركة وإيجابية لدى الجميع بعيداً عن التخوين والتأثيم، وذلك حين وضع نصب عينيه إنهاء نهج الإقصاء والتفريط والعزل، وهو الأمر الذي جعل من الحزب قوة أساسية برزت خلال الانتفاضة الشعبية التي حدثت عقب العدوان الثلاثي الأنكلو فرنسي – الإسرائيلي على مصر في العام 1956 إثر تأميم قناة السويس .
جدير بالذكر أن الحزب بقيادة سلام عادل (بعد تنحية حميد عثمان)، كان قد استجمع قواه وكتله وتنظيماته المنقسمة حيث اعترف الجميع بأخطائهم بهدف توحيد الحزب وكانت منظمة راية الشغيلة قد انشقّت عن الحزب في العام 1953 ومن أبرز قياداتها آنذاك جمال الحيدري وعزيز محمد، وقد وصفتها جريدة القاعدة بأنها زمرة بلاطية (نسبة إلى البلاط الملكي) وإنها انحطّت في المستنقع والقاذورات اليمينية، متهمة إيّاها بالانتهازية.
أما “منظمة وحدة الشيوعيين” فكانت برئاسة عزيز شريف وعبد الرحيم شريف التي ساهم عامر عبد الله بحكم صلته الوطيدة معهما في إقناعهما، والبقية الباقية بحلّ المنظمة والالتحاق بالحزب. كما انضمت كتلة داوود الصائغ “رابطة الشيوعيين “ لاحقاً إلى الحزب، واعترف الجميع بأخطائهم في لحظة تطّهر غير مسبوقة، بما فيها التنظيم الأصلي (القاعدة) الذي اعترف أن القيادة التي اتّخذت قرارات الفصل كانت جاهلة والمقصود بذلك قيادة حميد عثمان الذي جرت محاولات لمحاسبته وتجميده فيما بعد، وكان قد هرب من السجن ليصبح المسؤول الأول، لكنه تصرف بفوقية وبيروقراطية، ونشر بيانا باسمه، فتقرّر مساءلته وتجميد عضويته بمبادرة شجاعة من سلام عادل ساهم في تنفيذها ناصر عبود وشارك فيها حكمت كوتاني مسؤول محلية الموصل.
وكان ناصر عبود قد اصطحب حميد عثمان كما يروي من الموصل إلى بغداد واستبقي في بيت حزبي لكنه قرر السفر إلى كردستان وهناك انتمى إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني (انظر: توفيق التميمي، مقابلة مع ناصر عبود ، صحيفة التآخي، مصدر سابق).
وهكذا تم استعادة وحدة الشيوعيين بتدخّل من خالد بكداش والحزب الشيوعي السوري الذي تم الاحتكام إليه، لا سيّما بإنهاء انشقاق راية الشغيلة، وصدرت حينها جريدة “اتحاد الشعب” (السرّية)( العام 1956) لتعلن عن قيام وحدة الحزب.
ولعلّ موقف سلام عادل من وحدة الحزب وحرصه على الرفاق بغض النظر عن الاختلافات والتباينات في اتجاهاتهم، لاسّيما في المنعطفات الحادة هو ما كان حاضراً ومتداولاً بين الرفاق كجزء من الثقافة الحزبية ما بعد الانقسامات والانشقاقات المتكررة. وقد كان باقر ابراهيم وحسين سلطان يردّدان مقولته الشهيرة ” إن إخراج أي رفيق من الحزب إنما هو اقتلاع شعرة من عيوني” وقد استعاداها في الثمانينات حين جرت حملة تصفيات وفصل وتفريط بالجملة يوم احتدم الخلاف بشأن قضايا فكرية وسياسية وتنظيمية ، وأهمها الموقف من الحرب العراقية- الإيرانية.
وبالطبع لم تكن حياة سلام عادل الحزبية سهلة فقد سبق أن تعرّض هو ذاته لعقوبات وتنحيات من جانب عناصر بيروقراطية وانتهازية ، ففي فترة تولي مالك سيف إدارة الحزب بتوصية من فهد أُبعد سلام عادل في العام 1948 اثر اعتراضه على الموقف الحزبي من فلسطين وبقي بصلة فردية وسُحبت بعض مهماته كما تنقل ثمينة ناجي يوسف.
وفي فترة حميد عثمان الذي تولّى إدارة الحزب في العام 1954 بعد هروبه من السجن استبعد سلام عادل من اللجنة المركزية وكان عثمان قد اتهمه بالإنحراف اليميني، ونُقِل إلى منطقة الفرات الأوسط. وحين تبلور موقف جديد لأغلبية أعضاء اللجنة المركزية ضد حميد عثمان تم استدعاءه فتسلّم دفة القيادة في حزيران/يونيو 1955 بعد أن تم وضع اليد على مطبعة الحزب كما يذكر حنا بطاطو في كتابه الثاني بعنوان : العراق – الحزب الشيوعي ، ص 342) . علماً بأن عمله في منطقة الفرات الأوسط كما نقل لكاتب السطور بعض من عاصره مثل حسين سلطان وعدنان عباس وصاحب الحكيم ومحمد الحياوي كان متميزأً، سواءً على الصعيد السياسي أم على الصعيد الحزبي والإعلامي، وخصوصاً في الريف. وفي مطارحات خاصة في بشتاشان خريف العام 1982 كان الباحث قد وجّه أسئلة إلى كل من مهدي عبد الكريم وعبد الرزاق الصافي حول شخصية سلام عادل ودوره القيادي وموقفه من القضية الكردية ارتباطاً بالتطور الذي حصل في الموقف من القضية العربية في العام 1956 وبالتحديد بعد الكونفرنس الثاني، وعقب انتعاش حركة التحرر الوطني العربية بُعيد تأميم مصر لقناة السويس ومقاومة العدوان الثلاثي.
إن ما تعرّض له سلام عادل من بيروقراطية حزبية تدلّ على أنه باستمرار كان له رأي متميز ومستقل ونقديٌّ بما فيه إزاء القيادات ، حيث اعتاد على التعبير عن وجهات نظره، بكل وضوح حتى لو أدى ذلك إلى خسارة مواقعه الحزبية، وتلك إحدى سماته القيادية البارزة، حيث لم يعرف المهادنة والتزلّف واسترضاء المسؤولين كجزء من الأمراض التي تفشّت في الحزب في وقت لاحق .
جدير بالذكر أن سلوك حميد عثمان اتّسم بالتهور، وعلى حد تعبير حنّا بطاطو كان يمتاز بـ ” حماسة كبيرة وحكمة ضئيلة” وقد ورط الحزب الشيوعي بمواجهات مكلّفة ولا معنى لها مع الشرطة، حيث دعا للإضراب السياسي العام ثم رفع شعار الكفاح المسلح وبناء “جيش شعبي ثوري” واعتبار الريف “قلاعاً ثورية”، ويبدو أنه تأثر بالمسيرة الكبرى التي قادها ماوتسي تونغ وبالثورة الصينية.
وهكذا بدّد قوى الحزب وفرط برفاقه ورفع شعارات لم يكن الحزب قادراً على تنفيذها، فضلاً عن قراراته الفردية وأوامره الهستيرية ومبادراته المغامرة ومعاركه الانتحارية، ولهذه الأسباب أزيح من موقعه وهو ما ورد في مقتبسات من كتاب حنّا بطاطو (ج2 ص 343، وج3 ، ص 13 وما بعدها) .
وقد شكل سلام عادل لجنة مركزية جديدة عملت هذه اللجنة لنحو عام في التحضير للكونفرنس الثاني أي من (حزيران/يونيو 1955 ولغاية 1 حزيران/ يونيو 1956) وقد ضمّت الرفاق التالية أسماؤهم:
1- حسين أحمد الرضي (سكرتيراً عاماً)
2- عامر عبدالله
3- كريم أحمد الداوود
4- فرحان طعمه
5- جورج حنّا تلو
6- محمد صالح العبلّي
7- هادي هاشم الأعظمي
8- عطشان ضيّول الايزرجاوي
9- ناصر عبود
ومنذ أيلول أي بعد انعقاد الكونفرنس الثاني العام 1956 ولغاية أيلول/سبتمبر العام 1958 ضمّت قيادة الحزب بعض الأعضاء إلى اللجنة المركزية وأصبح عددهم 12، والأعضاء الجدد هم : شريف الشيخ ومحمد بابلي – كاكا فلاح وجمال الحيدري والأعضاء الاحتياط هم : عزيز الشيخ وصالح الحيدري وعبد الرحيم شريف وحكمان فارس الربيعي وداود الصائغ وصالح الرازقي (المصدر السابق – حنا بطاطو، ج3، ص 18-21).
الكونفرنس الثاني والتوجّه الجديد
ومن منجزاته في تلك الفترة أيضاً عقد الكونفرنس الثاني للحزب العام 1956 والذي أقرّ سياسة جديدة بقراءة المتغيّرات على الساحة الدولية والتي رجّحت الخيار السلمي الجماهيري تأثراً بنهج التعايش السلمي الذي اتبعه الاتحاد السوفييتي وكان التقرير الذي صدر عنه يفصح عن هذا التوجه البارز.
وقد انعقد الكونفرنس في بغداد الجديدة وحضره 28 كادراً حزبياً وانتخب لجنة مركزية جديدة مضفياً شرعية جديدة على القيادة الحزبية التي ظلّ اختيارها غالباً يتم بالتعيين، فتحت ظروف القمع أحياناً يجري إملاء الفراغ لمن يعتقل أو لمن يضطر للخروج من دائرة النضال، ولم تكن الاختيارات موفقة في الكثير من الأحيان بسبب الظروف غير الطبيعية، خصوصاً بضعف الكفاءة ونقص المعرفة وقلّة التجربة، إضافة إلى الارتباطات الشخصية، ناهيك عن عدم قناعة الكادر أحياناً وهناك أمثلة كثيرة لا مجال لذكرها.
وقد كان انعقاد الكونفرنس والاحتكام إلى الشرعية الحزبية في الانتخاب تطوراً مهماً حصل في ظل قيادة سلام عادل التي حاولت أن تجميع ملاكات الكادر وتوحيدها في إطار قيادة جديدة متنوّعة المشارب والاتجاهات تجمعها وحدة الإرادة والعمل والانسجام، دون تمييز بسبب ماضيها سواءً كانت مع هذه الكتلة أو تلك، وسرعان ما اندمجت المجموعات والكتل والشخصيات ، بل وانصهرت في بوتقة حزب مديد وذا حيوية كبيرة.
صحيفة الزمان العراقية