سورياليّ بالعامية وشعبيّ بالفصحى
ثمة غموض في حياة الرجل وفي شعره. كانت محكيته نسيج وحدها أما فصحاه فقريبة من شعراء عرب وأجانب. رغم ثوريته المبالغ بها لم يتناول الاحتلال الأميركي ولم يتعرض بالاسم لصدام، وفي النهاية صار اسمه نهباً لشعراء غامضين ينتحلونه.
شخصية مظفر النواب وشعره، دراما من ضوء وظلِّ، يتبادلان شعشعة تستمدُّ فتنتها من التباسهما الصعب في تجربته الكلية، حيث يغدو الظل المشعّ في الخفاء جزءاً من الأضواء الباطنية الجذابة لتتشكل معهما «حالة غامضة» تتنافس فيها الظلال مع الأضواء المعتادة، دراما منحت تجربته خصوصيتها في الثقافة العربية وجعلتها تثير الاهتمام والرغبة بالكشف والاستزادة.
في بغداد السبعينيات والثمانينيات كانت أشعاره أهازيج في مسيرة «الركبان» وجلسات المقاهي، يتمَّ تناقلها شفاهياً كرسائل سرية مغلغلة، أو يجري تداولها بحذر على أشرطة كاسيت، في أوج تألق ثقافة الكاسيت، حيث مرحلة جديدة صوتية من إشاعة الشعار السياسي، فديوانه الوحيد مفقود، وممنوع، وكل ممنوع متبوع! وما من ذكر لأشعاره في الانطولوجيات الشعرية العراقية، وليس من إشارة لتجربته في الدراسات النقدية والمقالات الصحافية التي تتناول الشعر العراقي، هذا التداول الشفاهي في غياب الكاتب والمكتوب، ألحقت بالسيرة الشخصية للنواب، تآويل وأقاويل شتى، بما جعلها أقرب إلى سيرة الأبطال الشعبيين المشوبة عادة بالتفخيم، رسَّخَ هذا الجانب القلقُ المحيطُ بتجربته السياسية مع الحزب الشيوعي وانشقاقه المبكر ضمن تنظيم «القيادة المركزية» بتبنيه الراديكالي للكفاح المسلح، و «العنف الثوري» لتكتمل دائرة الأسرار الجمالية بالأقاويل المتشعِّبة حول قصة هروبه الغامض من العراق، قبل أن نعرف لاحقاً، ومن النواب نفسه، أنه غادر العراق في رحلة طبيعية، بعد أن قابل صدام بوساطة من القيادي البعثي «علي صالح السعدي» وطلب منه أن يسمح له بالسفر إلى بيروت لمتابعة صدور ديوان له، فقدم له صدام جواز سفر والهدية المعتادة لضيوفه: «مسدس شخصي» الهدية التي قال الشاعر إنه اعتذر عن عدم قبولها بأدب.
لا بدَّ من التأكيد هنا أن الدكتاتورية نفسها، طرف آخر، غير مباشر، في صياغة «الحالة الغامضة» لمظفر عبر شحنها بجرعات إضافية مفيدة، منعت الإذاعة بثَّ تسجيلات الأغاني الملحنة من أشعاره والمغنّاة بأصوات عراقية مشهورة، فأسهم هذا «المنع المفيد» في إضفاء بعدٍ سياسي نفعي وملفَّق لتلك الأغاني، وتأويل أكثر مما تحتمله قصيدة عاطفية على لسان امرأة تجاوزت الثلاثين من العمر، وهي تنتظر رجلها بين شباك البيت وفراش الحرمان، صارت معادلاً للثورة اليسارية المنتظرة في التأويل الإسقاطي، هكذا انتصر تأويل القضية على تأوُّهات المرأة، ولم يكن الشاعر «بريئاً» من هذا الانتصار، فهو يتحدَّث، بالأساس، عن قصص الآخرين في شعره: «عوَّدِتْني العِيْد يعني الناس ويَّاهمْ أعيِّدْ» وبهذا المعنى فإن مظفراً شاعر شعبي بامتياز، شاعر العامة لا النخبة، لكن هذه «الشعبية» جعلت من الشخصي منحسراً في شعره، لا يلمس قارئ شعر النواب سيرة شخصية واضحة فيه، بل بقيت مثل تلك السيرة غامضة إلا لمن عرفوه وعايشوه عن قرب، صحيح أن ثمة ملامح لسيرة بطولية، مسرحها السجن، والمنفى والحروب، لكن تلك سيرة مهوَّلة لا تنطوي على اعتراف وكشف للغموض، ومحاورة الباطن الإنساني.
شعر العامية
قبل النواب، كان شعر العامية العراقي يخضع لشروط الزجل الشعري المتوارثة منذ صفيّ الدين الحلي في «المواليا» و «الكان وكان» و «القوما» وما تم استنباطه من هذه الأنماط من أطوار زجلية لاحقة مثل: «الأبوذية» و «الزهيري»، وكان من المتوقع لابن بغداد المنحدر من الطبقة الوسطى أن يتأثر بالعوالم الشعرية والقاموس المحلي للملا عبود الكرخي، وهو ابن الكرخ أيضاً، غير أنه أجال بصره بعيداً عن بغداد كلها، وآنسَ إلى جانب آخر مختلف، إلى الجنوب العراقي حيث «الحاج زاير» أو الموّال الأبدي كما يسميه، وغناء الفطرة في أهوار العمارة، وهكذا استبطنت قصيدة اللهجة المحكية لدى النواب مفردات الأهوار الجنوبية، حيث لغة الأعماق ذات الجرس المختلف والدلالات المكثفة في مفردة تبدو أحياناً أطول من عبارة كاملة، وأكثر اتساعاً من قصيدة بالفصحى!
هذا التوغل في طمي مياه اللهجة الجنوبية للظفر بما خلّف الرواسب من عناصر ثمينة، لم يمنع النوّاب المرتحل في هوية مشتَّتة بين الحجاز والهند وأرض الرافدين، من الاحتفاظ بروح مدينية في قصيدته، فهو وإن استدعى المشاحيف والبردي والقصب، من قاموس أهواري خالص، لكن «الغَطَار» القطار بقي رمزاً مهيمناً داخل تجربته في الوحشة، وهو وإن سكنته المياه وتحالف مع «زرازير البراري» لكن السكك «السچچ» والمحطات كانت هي التي ترسم خريطته في المتاهة، بهذا المعنى هو ليس شاعراً ريفياً خالصاً، رغم مياه العامية الغزيرة في تجربته، بل إنه شاعر مدينة ذو لهجة غريبة، بل شاعر مدن، فمدينته ضاعت مرة واحدة وبقيت المدن الأخرى محطات في تلك الرحلة، لهذا عمد إلى أنسنة الريل «القطار» ومن ثمَّ سيتماهى معه، وبعد أن نزل جميع الركاب في محطاتهم وانتهت السكك جميعها ظل وحده يمشي بلا سكة!: «السِچچْ خلصتْ ومشيتْ وحدي بلايَ سچَّه… ايه يا عشگ الماله سِچَّه…يا وطن يا بيك وبليَّاك أضيع».
الريل وحمد
كان من شأن «للريل وحمد» وحده أن يجعل من النواب أحد شعراء الديوان الواحد البارزين، وهو نال في وقت مبكر ترحيباً لافتاً من سعدي يوسف: «أضع جبين شعري على طريق الريل وحمد» كثافة الملحمة الشعبية في الديوان، والبناء الصوري والبلاغي المختلف للقصائد، لم يكن مما هو معتاد في شعر العامية العراقي، حيث امرأة تتذكر قصة حبها الضائع، وقطار يمضي صارخاً في الصحراء.
كثير من قصائد «للريل وحمد» وما بعدها من أشعاره بالعامية استعار فيها الصوت المؤنث، ليروي سيرة هي في الغالب لامرأة مهجورة، أو تنتظر بمونولوغ من الحرمان، بلغة لا تخلو من بلاغة حسِّية ولذائذية مرمَّزة. هذه الاستعارة للصوت المؤنث تكاد تكون مهيمنة حتى في القصائد السياسية ذات الهزج الثوري الصائت. بيد أنَّ كميَّة السياسي لم تكن طاغية تماماً في الديوان، وإنما مندغمة في متن النسيج العام لتلك الملحمة الشعبية، غير أن اللحظة السياسية الماضية، وتأويلاتها اللاحقة، ربما هي التي اغتالت شعرية الملحمة وتوَّجت شعارية القضية.
في عموم شعره المحكي ثمة شحنة سوريالية غير خافية في تكوين الصورة، وتصاعد الفانتازيا والغرابة على أشدهما، فحين يشبه دهشة الحبيب بتثاؤب الأرنب! و«مثاوَب ارنبْ دَهْشِتَكْ» فهذه صورة فصيحة ونخبوية أكثر من الشعر الفصيح الذي يقوم غالباً على ترجيع الشعارات المعتادة أو على الأقل إعادة فلترة شارعيات الناس.
من هنا التباس الثوري والشعري في تجربته، فبينما بدأ في الشعر العامي منحازاً للثوار الهامشيين المحليين: سعود، صويحب، حسن الشموس، حچام البريس….، فإننا حين نقرأ قصائده الفصحى بشروط الثقافة السياسية اليوم فسيبدو كمن ينتمي لثقافة سياسية ثورية بائدة، فأبطاله هنا «إرهابيون» بمنظور اليوم: جهيمان العتيبي، خالد الإسلامبولي، سليمان خاطر…
«إنني صبٌّ أسمِّي كلَّ ما يسلبُ لبِّي خمرةً
إنْ كانَ حُسناً أو قراحَ الماءِ من كفٍّ كريمٍ
أو حزاماً ناسفاً!
أو بيتَ شِعْرٍ أو مُداما»
بالتأكيد لا يتحمَّل شعر النواب وِزْرَ ثقافة «الحزام الناسف» الراهنة، إلا كما تتحمَّل أفكار نيتشه وشوبنهاور، عن القوة والإرادة، المسؤولية عن نازية هتلر! لكننا مع شعر كهذا يوحِّد بين الخمر والشعر والثورة وإن «بحزام ناسف»! نعرف كيف تتغيَّرُ الأخلاق والمفاهيم، في عقود لا في حقب وعصور، وعندما يقول في وترياته: «أُنبئكَ عليَّا لو جِئتَ اليومَ لحارَبَكَ الدَّاعونَ إليكَ وسمّوكَ شِيوعيَّا» فإن أخلاقية خطابه الشعري لن تنجو من المقاربة نفسها. فقصائده عن «الأساطيل الإمبريالية» أعيد نشرها في جريدة «الثورة» في العراق في أجواء حرب عاصفة الصحراء.
الهامش
لذلك ستبدو قصيدته في رثاء آدم حاتم مثلاً، غريبة وسط مراثي المحاربين المسلحين، فهو يرثي هنا، شاعراً مشرداً أعزل، «ضحية» السياسة والأحزاب، بينما دأب قبلها على رثاء «شهداء» الحركات الثورية، انها عودة للهامشيين، بل عودة متأخرة للذات: «ضَعْ مِعْطفَكَ الصوفيَّ على كاهِلِ حزنِكْ/ تأنَّقْ بالصَّمتِ سنخرجُ للتشييعِ الأزليِّ/ فآدمُ ماتَ/ وبقيتَ وحيداً/ تذهبُ للمقهى بعدَ الآنَ بلا ثِقَةٍ بالدُّنيا/ تضجُّ بعينيكَ خفافيشُ السنوات/ تَنعَى آدمَ؟ أم تنعَى نفسَكَ؟ أمْ تَنْعاهُم؟»
قد نجد لعوالم النواب الشعرية بالفصحى آباءً ومدارس معروفة في الشعر العربي والعالمي، إذ يمكن إحالتها إلى فضاء تلك السلالة المتمردة في الشعر العربي: الصعاليك في زمن الدولة/ الأمبراطورية، لا القبيلة، أو إلى جيل «البيت» في الشعر الأميركي «آلان غينسبرغ» تحديداً بسخريته الصادحة وشتائمه الشعارية، لكن الأمر لا يبدو متاحاً بهذه السهولة عندما يتعلق بشعره بالعامية، فهو هنا نبيٌّ وحيدٌ، ومبشر بوعد شعري مختلف.
لا هجائيات «وتريات ليلية» ولا غنائيات «المساورة أمام الباب الثاني» تضاهي شعر التأمل في ديوانه العامي «للريل وحمد» فمجمل شعره بالفصحى لا يختلف، سوى بطريقة التعبير المتطرف، عن نماذج شعرية هجائية سادت بعد هزيمة 1967، بدأت مع البياتي في « بكائية إلى شمس حزيران، والمرتزقة» ونزار قباني في «الأعمال السياسية».
حين انزوى «أبو عادل» وزهد بفتنة المنبر لمصلحة عزلة صوفية في قصائد تنعطف بتجربته نحو أجواء الخمريات العرفانية، في مزج بين الزهد والتهتك، كان المشهد العربي محتدماً منذ احتلال العراق، وفصول الربيع العربي الدامي، فلم نقرأ لشاعر «الآر بي جي سفن» شيئاً عن الاحتلال الأميركي للعراق، مثلما لم نقرأ له سابقاً هجواً صريحاً في الدكتاتور «الوطني» وهو الذي اعتاد أن يسمي الجميع بأسمائهم وكُناهم ولا يستثني أحداً!
في هذا المناخ السياسي المحتدم استمر «مظفر النواب الآخر» في ملاحقة الأحداث الكبرى، لكنه ظهر هذه المرة اسماً حركياً نموذجياً للانتحال، فقرأنا باسمه قصائد منحولة خاضت المعمان والوحل على حد سواء، أصبح الشاعر الذي أعاد ترجيع المكبوتات السياسية للناس في شعره ومجَّد الأبطال الهامشيين، متاحاً لأولئك الناس والشعراء الهامشيبن ليتولوا نشر قصائد لم يكتبها، نيابة عن عزلته الزاهدة، هكذا انتحلت باسمه وعلى نمط «الوتريات» قصائد في هجاء 14 آذار اللبناني، والربيع العربي، والاحتلال الأميركي للعراق، قصائد وصفها أبو عادل بلغته التهكمية بالـ«عصائد» لكنها حملت لغة النواب وإيقاع صوره وهجائيته اللاذعة، وأظهرت كم غدا نموذجاً سهلاً ومتاحاً للمغمورين ذلك النوع من الشعر. لم يحدث هذا مع شعره العامي مثلاً، حيث الهوية الصلبة والمحتوى والشكل غير القابلين للانتحال والاستحواذ بتلك السهولة.
صحيفة السفير اللبنانية