سوريا مطلع الحرب الباردة: هكذا دفعها الغرب نحو الاتحاد السوفياتي
لتاريخ الجمهورية العربية السورية السياسي الباكر، منذ برز هذا البلد دولةً مستقلةً في العام 1946 إلى اندماجه مع مصر لتشكيل الجمهورية العربية المتحدة في العام 1958، صلة مباشرة بفهم الأزمة السورية الحالية. وتتفحص هذه المقالة الكيفية التي تُحَدِّد بها المصالحُ الجيوسياسية سلوكَ القوى الغربية في ما يتعلق بسوريا. والحال، إنَّ في الفترة الباكرة من التاريخ السوري كثيراً من أوجه الشبه مع الأحداث الأخيرة.
منذ البداية، واجهت سوريا المستقلة تحديات جيوسياسية عملت على تقويض الاستقرار السياسي في البلاد. فعلى المستوى الإقليمي، شككت النزاعات العربية البينية، وقضية الاستعمار الصهيوني في فلسطين، في قابلية سوريا للحياة بوصفها دولة مستقلة. وغدت سوريا، إضافة إلى ذلك، منطقة متنازعا عليها في الحرب الباردة بين القوى الغربية والاتحاد السوفياتي. ويعود ذلك في المقام الأول إلى رفض حكومة الولايات المتحدة دعم الدولة السورية من الناحية الاقتصادية والعسكرية، كما طلب في العام 1945 شكري القوتلي، أول رئيس سوري. وكان الدافع وراء الرفض ما تبذله الولايات المتحدة من جهد لدعم الصهيونية، ولا علاقة له البتّة بمسألة نظام الحكم في سوريا، وما إذا كان يحكمها حكام ديموقراطيون أو سلطويون. وفشل سوريا في الحصول على دعم القوى الغربية هو الذي يفسّر التحول اللاحق في أواسط خمسينيات القرن العشرين باتجاه الاتحاد السوفياتي نظراً لغياب أي بديل ممكن.
الأحداث الرئيسة التي تتناولها هذه المقالة هي ما يلي: (1) التحالف الأنكلو ـ أميركي لاستبعاد فرنسا من بلاد الشام في نهاية الحرب العالمية الثانية؛ (2) الانقلابات العسكرية الثلاثة التي وقعت في سوريا العام 1949 في سياق مطالبة الولايات المتحدة بمنحها حقّ مدّ أنابيب «التابلاين» النفطية (ثم مشروع البناء الرئيس للولايات المتحدة في الشرق الأوسط الرامي إلى ربط حقول النفط السعودية بالأسواق الأوروبية الغربية) عبر الأراضي السورية؛ (3) الفترة ما بين 1955 و1957 التي بذلت خلالها وكالات الاستخبارات الأميركية والبريطانية جهداً مشتركاً لإقصاء الحكومة السورية؛ (4) الصراع على سوريا منذ أواسط خمسينيات القرن العشرين بين أنظمة المنطقة المدعومة من الغرب (الأردن وتركيا والعراق) ومصر عبد الناصر والذي أدّى إلى قرار الاتحاد السوفياتي تقديم مساعدة كبيرة للجيش السوري، ووضع حدّ لمحاولات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تغيير النظام في سوريا وتسهيل اندماج مصر وسوريا لتشكيل الجمهورية العربية المتحدة في العام 1958.
نجح التحالف الإقليمي الأنكلو ـ أميركي في الشرق الأوسط في تنحية فرنسا كلاعب إقليمي لكنه فشل في دمج سوريا ما بعد الاستعمار التي كانت في السابق تحت سيطرة فرنسا، في بنية أمنية إقليمية جديدة. وكان السبب الأساس وراء غياب سياسة سورية متماسكة أن الولايات المتحدة كانت تركز على تحالفات إقليمية مع السعودية وتركيا (ومع إسرائيل منذ العام 1948) في حين التزمت المملكة المتحدة بحلفائها الإقليميين الهاشميين في الأردن والعراق. وبقيت سوريا، بمصادفة جيوسياسية، خارج البنية الإقليمية للدول الشرق أوسطية التابعة للتحالف الأنكلو ـ أميركي.
أقصت الانقلابات العسكرية السورية الثلاثة في العام 1949 حكومة الرئيس شكري القوتلي الدستورية وجاءت بسلسلة من الحكام العسكريين (العقداء حسني الزعيم وسامي الحناوي وأديب الشيشكلي). وكان لكل انقلاب من هذه الانقلابات السورية أبعاده المحلية والإقليمية والعالمية. وعلى الأقل، كان الانقلاب الأول بدفع مباشر من وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) الحريصة على الإتيان بقيادة سورية جديدة مستعدة للموافقة على «مشروع التابلاين» بعدما اعتبر المراقبون الأميركيون القوتلي أحرص من أن يمرر صفقة عسيرة مع مصالح الولايات المتحدة النفطية.
تبيّن مصادر استخبارية أميركية وبريطانية أنّ المراقبين الغربيين اعتبروا الأنظمة العسكرية الثلاثة أضعف من أن تكون جديرة باستثمار جيوسياسي غربي كبير. كان القادة العسكريون السوريون مختلفين في الأسلوب والتوجّه الجيوسياسي ـ مع كون الشيشكلي تكتيكياً أبرع من سلفيه بكثير – لكنهم كانوا يفتقرون إلى ما يكفي من موارد السلطة المحلية اللازمة للحفاظ على حكمهم. على وجه الخصوص، لم يتمكنوا من تلبية المطالب الغربية بإقرار ما كسبه الصهاينة من أرض بقبول أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين وإعادة توطينهم في سوريا من دون تلقي أي مساعدات عسكرية واقتصادية غربية كبيرة بالمقابل. ونظراً إلى رفض الدول الغربية مثل هذه المساعدة – الأمر الذي يعود في حالة الولايات المتحدة، جزئياً على الأقل، إلى التدخل المباشر لسفير إسرائيل في واشنطن – فشلت الأنظمة العسكرية السورية في الالتحاق بنظام أمني إقليمي يسيطر عليه الغرب.
لكن الإهمال الغربي لسوريا بلغ نهايته في الفترة بين عامي 1955 و1957. في هذا الوقت، باتت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة مهتمتين بانتشار قومية جمال عبد الناصر العربية التي نظرتا إليها على أنها غطاء لتوسع الاتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط. ونظراً إلى السياق الجيوسياسي المتغير، بدأت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إجراءات سرية مشتركة ضد الحكومات السورية في تلك الفترة بغية إقامة نظام موال للغرب في دمشق. وأدّى ذلك إلى قائمة طويلة من العمليات الاستخباراتية الغربية ضد سوريا. وكان السياق الأوسع هو «مشروع أوميغا» الذي قادته الولايات المتحدة، ووافق عليه الرئيس الأميركي أيزنهاور في آذار 1956 وكان وفقاً للمؤرخ الأميركي دوغلاس ليتل بمنزلة «خطة سرية لمكافحة القومية الثورية في أنحاء العالم العربي».
أجريت على الأقل ثلاث عمليات سرية غربية كبرى في سورية خلال هذه الفترة: (1) «عملية ستراغل»، وهي محاولة أميركية وبريطانية مشتركة بين آذار وتشرين الأول 1956 للقيام بانقلاب عسكري موالٍ للغرب قبل أن تكتشفه الاستخبارات العسكرية السورية؛ (2) «عملية وابن»، وهي محاولة من وكالة المخابرات المركزية الأميركية لتجنيد منشقين يمينيين داخل الجيش السوري للقيام بانقلاب يهدف إلى إعادة الشيشكلي كديكتاتور موالٍ للغرب في سوريا وكشفتها المخابرات السورية في 12 آب 1957؛ (3) «الخطة المفضّلة»، وهي محاولة مشتركة أخرى بين القوتين الغربيتين طُرحت في أيلول 1957 لإثارة القلاقل بين الأقليات في سوريا بقصد استخدامها ذريعة لتدخلات مسلحة من الدول المجاورة واغتيال الشخصيات السياسية والعسكرية السورية الأساسية التي أفشلت محاولتَي الانقلاب الغربيتين السابقتين. إضافةً إلى ذلك، انخرطت الولايات المتحدة في محاولة لتشجيع تركيا على غزو سوريا بعد آب 1957 في حين شجعت المملكة المتحدة شنّ هجوم أردني و/أو عراقي على سوريا لفرض خطط بريطانيا الرامية لجعل سوريا عضواً في حلف بغداد الذي تقوده بريطانيا، وهو حلف دفاعي يرمي إلى دعم سيطرة بريطانيا على الشرق الأوسط.
في النهاية، فشلت كل العمليات الاستخباراتية الغربية نتيجة تضافر الجهل الغربي بالسياسة السورية وضعف التنسيق بين المصالح الأميركية والبريطانية. وعلى وجه الخصوص، عانت «عملية ستراغل» من سوء التوقيت نظراً لتداخلها مع الغزو الإنكليزي الفرنسي لمنطقة السويس 1956 الذي فجر الخلاف بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة حول كيفية هزيمة عبد الناصر. وولّدت التدخلات الغربية اللاحقة في الشؤون السورية استياءً شاملاً تقريباً بين الأطراف السياسية الفاعلة في سوريا: ودعا الرئيس السوري المعاد انتخابه آنئذ شكري القوتلي الولايات المتحدة بـ «العدو السافر» لسوريا في تموز 1957، ما جعل القائم بأعمال الولايات المتحدة في ذلك الوقت يطلق تهمة مضادة أنّ خطاب القوتلي «لا يفرق عن الدعاية الشيوعية».
بصرف النظر عن العوامل السورية الداخلية، برز توازن عام للتهديدات والتهديدات المضادة على المستوى الإقليمي والعالمي في نهاية العام 1957: عانت تركيا ضغطاً سوفياتياً للكفّ عن حشد قواتها العسكرية على الحدود السورية، بينما استغل عبد الناصر هذه الفرصة لإنزال قوات مصرية في ميناء اللاذقية في يوم 13 تشرين الأول تأكيداً على «الوحدة العربية». ولما كانت مبادرة عبد الناصر مدعومة من الاتحاد السوفياتي عملياً، اعتبر الغرب أنَّ الغزو التركي لسوريا بات بالغ الخطورة. وأخيراً وليس آخراً، فإن تزويد الاتحاد السوفياتي الجيش المصري والسوري بكميات كبيرة من المقاتلات النفاثة المتقدمة (وهي السلاح الاستراتيجي الأهم في تلك الفترة) زاد القوة النسبية لكلا البلدين في السياق الإقليمي.
باختصار، فشلت كلّ الجهود المدنية والعسكرية الرامية إلى تحقيق الاستقرار في الدولة السورية بعد الاستقلال في العام 1946 نتيجة تضافر صراعات الحرب الباردة، والنزاعات العربية البينية على الهيمنة الإقليمية، والخلافات الداخلية السورية. وهذه المستويات المختلفة من عدم الاستقرار أضعفت معاً قدرة جميع الأنظمة السورية بين عامي 1946 و1958 على توفير موارد مهمة في المجالين العسكري والاقتصادي تعزز استقلال البلاد. وغدت سوريا، كدولة ضعيفة، هدفاً للتدخل الأجنبي، في حين افتقرت الجهات الفاعلة المحلية إلى القدرة على تعزيز النظام من الداخل. لكن هذا تغيّر عندما برزت مصر كمركز للقوة السياسية العربية المستقلة تحت قيادة عبد الناصر. وهكذا سرعان ما تمدد التحالف الاستراتيجي الناشئ بين عبد الناصر والاتحاد السوفياتي باتجاه سوريا، واستطاعت البلاد أن تخلّف وراءها بعضاً من عدم الاستقرار المزمن الذي وسم الفترة بين عامي 1946 و1958. مع ذلك، لم ينفع «علاج» ضعف الدولة السورية إلا في تمهيد الطريق لتحديات جديدة قوية، تماماً كما فعل في الحالة المصرية. فزيادة قوة الجيش ونفوذه السياسي أدّت إلى سيطرته البنيوية على الدولة، مع كل تداعيات ذلك المتواصلة على سياسات مصر وسوريا. ولقد برزت عزلة سوريا النسبية في المنطقة مرة أخرى عندما تمكن صنّاع السياسة الأميركيون من استعادة السيطرة على قيادة مصر في أواسط سبعينيات القرن العشرين خلال حكم أنور السادات، وكسرت بذلك ميزان القوى بين العرب وإسرائيل لمصلحة خصم سوريا الرئيس.
هكذا، عمل الحادث الجيوسياسي المتمثّل بظهور سوريا كدولة مستقلة، لكنها ضعيفة وتفتقر إلى رعاية جيوسياسية مستقرة، وتحالفها مع الأضعف بين القوتين العظميين نظراً إلى غياب أيّ بديل قابل للتطبيق، على تهيئة المنصة أمام التحديات الوجودية التي فُرضت على الشعب السوري منذ العام 2011. وفي هذا السياق، حان الوقت كي ندرك أن زعزعة الغرب استقرار سوريا بدأت قبل وقت طويل من قيام نظام «البعث» السوري.
(*) أستاذ جامعي وأكاديمي ـ ألمانيا
المقالة ملخص مُترجم لـ دراسة مطوّلة منشورة على موقع «مركز الدراسات السورية» التابع لجامعة «ساينت آندروز» البريطانية، وهي تُنشر بالاتفاق بين جريدة «السفير» والمركز.
صحيفة السفير اللبنانية