سيناريو ما بعد الإنسانية والفنتازيا الهجين

 

أصدر الكاتب الشاب عمار المصري الجزء الثاني من سلسلتة الروائية “العالم الجديد”، والمعنونة “عرش أطلانتس”، والرواية الأولى في السلسلة “ظلال أطلانتس”، حيث تدور الأحداث في الجزأين حول عوالم المستقبل التي تحكمها الآلات المتعلمة – لا الذكية – والتي تتمرد على صانعها (البشري) وتصيب العالم بالخراب الداهم.

وتبدو صلة العنوان بالمتن الروائي في كون البطل الروائي “نور” له الشغف الكبير بكل ما يخص الحضارة الأسطورية المفقودة “أطلانتس“، حيث تم روائيًا اكتشاف آثارًا لها عند الصحراء الغربية المصرية، وحول مكان هذا الاكتشاف بُنيت مدينة أطلانتس الجديدة، وتطور الحدث بسقوط الكثير من الأجسام السوداء الغريبة حول العالم، يصحبها انتشار ضباب مهلك، وعلى أثره تمردت الروبوتات على البشر بطريقة صادة وفجائية رغم استحالة تمردهم طبقًا لقانون “أزيموف”.

ويتابع السياق الروائي بتفاصيل منهمرة وكثيفة في طقس مثير ومغامر حول مجموعة من الشخصيات البشرية والآلية والهجين أيضًا والأجناس المنوعة. وأتي التشويق الروائي عبر التفاصيل وطائفة الغوامض التي تم إزاحة الستائر عن حقيقتها عبر المسار الحداثي السردي بإزاحة الزمن الخطي، والتماس مع الفانتازيا الكوكبية.

وتمنح شواهد كثر أننا أمام جهد روائي قيم ينتمي إلي عوالم فانتازية، والتي تسعي لتقريب الواقع الحديث المتشظي – الذي يعاني من الانكسارات الاجتماعية ودق عنق الطموحات القومية – للقراء بسبل خيالية، حيث تضم أماكن ومجتمعات وكائنات تنتمي لعالم الخيال الخالص، لتأسيس المنطق الخاص بالنص الروائي. لكن من جهة أخرى نجد السلسلة الروائية بين أيدينا “العالم الجديد” تضم مكونا من أدب الخيال العلمي وإن كان العنصر الفنتازي هو الأشمل، ليؤكد أن توتر وأزمات وتعقيدات العصر، واللهاث التكنولوجي ينفي نقاء النوع الأدبي.

ويأتي مكون الخيال العلمي عبر صيغة الممكن والمحتمل، بمناقشة مضمرة روائيًا لسيناريوهات المستقبل حول “الذكاء الاصطناعي”، يشير السيناريو الأول “الإنسان الخارق” حيث استخدام التكنولوجيا والعلوم لتطوير الإنسان للتفوق على التحديات، ونجده روائيًا عبر التقدم العلمي غير المسبوق والهيمنة على عوالم الآلة والفضاء والحماية من المخاطر بصوبة أطلانتس الجديدة. أما السيناريو الثاني حيث الإنسان الذي يخضع لنوع من الآلات الأكثر منه تفوقًا، ونجده روائيًا بتمرد “الروبوتات”، ويأتي السيناريو الثالث الوسطي بين سابقيه، حيث اندماج البشر جزئيًا مع الآلات لتشكيل نوع هجين نصف آلي “سايبورج”، مثله روائيًا شخصية الصيني “كينو رينوس”.

وتشتغل الرواية التي ضمت مئات الصفحات في فكرة رئيسة لها حول تمثل أو تناص مع قصة “أهل الكهف”، أو استعمال “آلة الزمن” عبر تقنية الحلم لنكتشف أنه كابوس الدمار الواقع، باستيقاظ ثماني شخصيات روائية منوعة فيما يشبه مختبر سري، يتعرضون خلال بقائهم لتدريبات ومسابقات عنيفة، وإكتساب قدرات هائلة، فعند يقظتهم لاحظوا تقدم عمرهم: “نور ازداد طوله وأصبح صوته أكثر خشونة وشعره أكثر طولًا وقد انسدل على كتفيه.

ويعمد السياق السردي عبر الجو الغرائبي الغامض – خاصة مع فقدان الشخصيات الثمانية الذاكرة الجزئي – إلى التشويق بكسر أفق توقع القارئ، وتخليق المسافة الجمالية سر متعته، حيث الكتابة في أصلها مباراة بين الروائي في تأسيس الحبكة وإحكام السرد، وإضاءة الاكتشاف الروائي المثير من ناحية، وتوقعات القارئ للقادم الراوئي من ناحية أخرى. فنور يقول، والقارئ معه أيضًا: “أشعر بأننا في دوامة كبيرة”، وفي موضع آخر: “وكينو شعر أن أسئلته تزداد، فهو لم يجد منذ استيقاظه على هذا الكوكب غير الأسئلة والحيرة”، وشواهد نصيه كثيرة مثيلة، حيث جانب من الحيرة بسبب الصراع بين أطراف الرواية، والصراع في حقيقته هو صدام الإرادات، والتي قد يعمد طرف إلى تمهيد نيراني استباقي بإثارة الغبار والتشويه المقصود لاجتثاث الخصم، وهو أمر نجده روائيًا عبر تقنيات خداعية، وإرادة للهيمنة على مصائر الشخصيات الثمانية وتوجيهها وصوغ مصيرها بما يحقق مصالح أحد أطراف الصراع، يقول “كينو”: “يا إلهي لم أعد أدري أين هي الحقيقة في كل هذا الهراء والخداع المستمر؟ الجميع يلعب بنا كالدمية”. ويقول “إيفانونف” صاحب المركز الثالث في سباق الموت: “حسنًا لقد منعنا الغموض الذي يكتنف كل هذه الأحداث الغريبة من الاستمتاع بوقتنا”.

ومع رحلة الرواية لتفكيك تشبيك خيوط السرد، نجد شغف القارئ لتحقيق التئام شبكة السرد، لذلك نجد ضرورة منح القارئ جوائز مستمرة لتثبيته وتغذية صبره لحين التفكيك المنشود، ويأتي هذا عبر تقنية “الإعلان السردي” بتسريب إشارات موجزة لوقائع من غوامض الرواية، هذا الإعلان يقول ضمنًا للقارئ، اصبر معي لتكتشف القادم الروائي المثير، نموذجًا: “فرأى نور أزهارًا بجميع الألوان والأشكال العجيبة التي لم تقع عليها عيناه من قبل”، هذه الإشارة اليسيرة تحمل للقارئ الذكي أن مكان الحدث غرائبيًا مثيرًا، وأنه يمكن أنه يكون كوكبًا آخر، الأمر الذي يدعمه مستقبل حبكة الرواية.

وهذا الشأن يعد مهمًا للكتابة الفنتازية البعيدة عن المألوفات والتي تؤسس عوالم غرائبية كاملة. ويتضافر مع هذه التسريبات المقصودة تقنية التلخيص الروائي والتي يتم بثها بين حين لآخر، لضم خيوط السرد وتذكير القارئ بها وإنعاش ذاكرته لبدء مرحلة جديدة، نموذجًا يقول “نور”: “ألم يكفيني فقدان الذاكرة واحتجازي شهورًا داخل هذا البرج الغريب، والآن لا اعرف أين أنا وما هي هذه المدينة المدمرة، ولماذا تهاجمنا بعض الروبوتات الغريبة؟”.

ودرجة الراوي في الرواية فهي الراوي العليم الذي يكاد لا يكون عليمًا، أي أنه أقرب درجات الراوي العليم قربًا من الراوي الذاتي (ضمير أنا) بسبب منظور الرؤية السردية، فكل شخصية يصحبها الراوي العليم لا ليقص لنا من فوائض علمه وإحاطته بعوالم الرواية، بل ليقص لنا من منظور عين الشخصية ذاتها رغم استعماله ضمير السارد العليم “هو”، نموذجًا: “أكمل طريقه وهو يتفحص المكان شاعرًا بالاختناق والتوتر في نفس الوقت فأخذ ينظر حوله في محاولة بائسة منه لكي يجد أي مخرج”، وفي موضع آخر: “وبعد فترة طويلة من الركض بدون أي يجد أي أبواب أو نوافذ أحس أخيرًا بالتعب فتوقف مكانه”. هنا نجد الرؤية بعين ومشاعر الشخصية نفسها، وليس السرد من بواطن علم الراوي العليم. وهذا يناسب بطبيعة الحال استراتيجية الراوية القائمة على الاكتشاف التدريجي للتشبيك الروائي.

وبالرواية هذا الملمح المعاصر لأدب الخيال العلمي العربي، والذي أسسه رائد الأدب النوعي عربيًا نهاد شريف، حيث الحفاوة بمصر، وتمنيات تقدمها العلمي المستقبلي، وبالرواية نرى وكالة الفضاء المصرية “سيترا” ترسل السفن المتطورة واحدة تلو الأخرى للبحث العلمي في أنحاء المجرة، ونرى مدينة “أطلانتس الجديدة” المصرية حيث تصبح الجهة الوحيدة الصامدة أمام العدوان الجسيم للروبوتات، فتصبح ملاذًا للبشرية، بما جعلها متعددة الجنسيات.

ويعاضد هذا المنحي فكرة مقترنة حول وجوب قبول الآخر، وإقرار التنوع الثقافي، سبيلًا لا بد منه للنجاة من عواصف تكتنف السفين الذي تحيا به البشرية معًا، والرواية حققته عبر سفين كوني وأجناس فنتازية تعتمرها، فنجد روائيًا فكرة سوء الفهم وعدم التريث للتثبت والغضب، رغم قول الآخر: “أنا معك”، ففي شاهد نصي: “لكن عقل نور لم يكن يعمل، كل ما كان يحركه غريزة البقاء”، وهو إلماح إلى أن الظروف الضاغطة تسبب الصراع وتؤججه، وأن الغضب ثمرة مرة لأخلاق الزحام وضيق التنفس الاجتماعي.

 وفكرة التنوع الثقافي الكوني جاء عبر سياق تاريخي مسرود لنفي غوامض الرواية، حيث عاشت لقرون طويلة الكثير من المخلوقات منعزلة كونيًا فعاشت صراعات مع بني جنسها وأهلكوا أنفسهم بأيديهم، بما تسبب في فناء الكثير من هذه الأجناس، في مقابل مخلوقات أخرى لم تنعزل كونيًا وحققت الحوار الحضاري وتوحدت ولم تتحارب وتعاونت ووصلت لأعلى درجات العلوم، ومهدوا لاكتشاف الحيوات الأخرى.

وإذا كان النص الأدبي يحتوي العبارة اللامعة التي تشكل لافتة النص ونافذته المضيئة، فهنا نجدها عبر إكسير الخيال المدهش، الذي يحتوي ذائقة القراء الشباب ويستهويهم، حيث الصراع والاحتراب والتعثر الإنساني يجعل الكائنات تغيب عن اكتشاف: “لمحة عن حقيقة هذا الكون وما فيه من مخلوقات ومن أسرار تلهب الخيال والعقل والفؤاد”.

 حيث الفانتازيا وهي الخيال المجنح أو التوغل في التخييل يعني بطرح فكرة من صميم الواقع الأسيف رغم أنه يبدو أنه أدب يفارق الواقع بخياله الواسع، لكنها رمزية تساعد على إدراك الواقع، وبالرواية هناك فقرة مهمة حول الفرار للفضاء: “أنا لم أجد مكاني على هذا الكوكب البائس المليء بالحروب والكراهية والتفاهات التي لا تنتهي، الجميع تحركهم الأطماع والمصالح، حروب لا تنتهي، دمار لا ينتهي، معاناة لا تنتهي ولن تنتهي حتى ينتهي هذا الكوكب، لذا فإن سبيلي الوحيد للخلاص من كل هذه الآلام هو الإبحار بعيدًا حيث العجب العجاب وحيث تلتقي النجوم والكواكب تسبح بلا توقف في سلام وهدوء وسكينة”، ويأتي صوت روائي يحدث “نور” المأسور: “فأنت بيدق في هذه الحياة للأنظمة العالمية والمحلية فلا مفر ..”، لذلك كان طريق الهروب الحتمي والوحيد من الواقع المنتهك هو طوق النجاة “الخيال”، تقول لنا الرواية “ولنا في الحياة خيال”.

 

 

ميدل ايست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى