شرق الفرات وغربه أيّ مصير ينتظرهما؟… كان من الملفت للنظر البيانات والمواقف المتتالية، التي صدرت عن القيادات الكردية السورية، تجاه الولايات المتحدة وقوات التحالف الدولي، بما ينسجم مع حجم المخاطر والتهديدات، التي يمكنها أن تؤدي بتجربة الإدارة الذاتية للزوال، وبالمقابل الصمت المطبق للقيادات السورية في دمشق، تجاه ارتفاع مستوى التهديدات الوجودية لكامل سوريا، من جرّاء السياسات الأميركية والإقليمية من جهة، والسياسات الداخلية المتبعة تجاه ما تبقّى من السوريين، في مناطق سيطرة الجيش السوري.
تميّزت تصريحات القادة الكرد بوضوح المواقف، بخلاف البيانات والمواقف السابقة، التي كانت تتغاضى عن الشراكة الأميركية بمأساة عفرين 2018، وتحميل روسيا وحدها قرار السماح لتركيا باجتياحها، وقبلها اجتياح جرابلس 2016، لفصل تواصل الكرد في الشمال السوري، كما أنها لم تصل لحد اتهام الولايات المتحدة بصمتها عن الهجمات العسكرية التركية بالطيران المُسيَّر على القيادات الكردية، وعلى المدنيين، لدرجة أن ممثل الإدارة الأميركية في سوريا، نيكولاس جرينجر، رفض التعليق على مطالبات القوى السياسية الممثّلة بـ “مجلس سوريا الديمقراطي”، بالضغط على تركيا لمنع اغتيال واستهداف المدنيّين بالحد الأدنى.
كانت البداية مع كشف صالح مسلم الرئيس المشترك لحزب الاتحاد الديمقراطي، بأن التحالف الدولي بلَّغ “الإدارة الذاتية” بعدم إمكانية القيام بأي شيء لوقف الهجمات التركية، وأتبع مسلم لصحيفة المونيوم، بأن “صمتهم ليس أمراً جديداً، ولا نعرف ما يجري خلف الأبواب المغلقة”.
ولم يتوقّف الأمر عند ذلك، بل وصل بالمتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، لإنكار التغيير الديمغرافي الواسع، الذي تقوم به تركيا في منطقة عفرين، مما دفع بدران جيا كرد، الرئيس المشترك لدائرة العلاقات الخارجية في “الإدارة الذاتية”، لرفض التصريحات واعتبارها “غير عادلة وغير واقعية”.
كان من الواضح منذ أن لجأت الولايات المتحدة لاحتلال مناطق الجزيرة السورية، ومنطقة التنف على المثّلث الحدودي لسوريا مع العراق والأردن، بأنها استخدمت ذريعة مكافحة الإرهاب الذي صنعته بـ “داعش”، في إطار صراعها المتعدّد الساحات على بنية النظام الدولي، وأن هذه المناطق المحتلة، تُشكِّل قواعد ارتكاز أساسية، لمواجهة القوى الآسيوية الناهضة، إضافة إلى حماية أمن واستقرار واستمرار الكيان الإسرائيلي، وليس بأولوياتها إحداث كيان سياسي للكرد في سوريا، على حساب الأهمية الجيوسياسية القصوى لتركيا، التي يمكنها أن تؤدي دوراً كبيراً في الصدام مع روسيا والصين، إضافة إلى إيران.
والأمر الثاني الذي يدفع بالولايات المتحدة إلى عدم الاهتمام بالمشاريع السياسية للكرد، هو التناقض الأيديولوجي والتاريخي لحزب العمال الكردستاني مع المنظومة الرأسمالية العالمية، ورفضه لمبدأ الدولة القومية، إضافة إلى علاقاته السابقة مع الاتحاد السوفياتي، ورعاية سوريا له، وتناقضه العميق مع التجربة البرزانيّة في أربيل، الموالية لتركيا وأميركا و”إسرائيل”.
الأمر الثالث مرتبط بالسياسات العسكرية التي اتبعتها قوات “قسد”، بعدم الصدام مع الجيش السوري الذي يعتبر خطاً أحمر، ففي تصريح سابق لـ “مسلم” بأن “قوات قسد لن تدخل في مواجهة عسكرية مع الجيش السوري وحلفائه، إذا ما اقتحم مناطق شرق الفرات، شرط أن لا تكون تركيا مشاركة بأي عمل عسكري”، وهذا ما تمّ إبلاغه للأميركيين أخيراً، بعد الحشود العسكرية المتبادلة على طرفي نهر الفرات، وكان يدركه الأميركيون سابقاً، مما دفعهم لتغيير سياساتهم العسكرية، إرضاءً لتركيا من جهة، وتعزيزاً لخياراتهم العسكرية المقبلة في أي مواجهة كبرى محتملة، للاعتماد على عناصر من بعض العشائر العربية، واستبدالهم بقوات “قسد” في خطوط المواجهة بالقرب من حقل “كونيكو”.
تجتمع جملة من المخاطر على تجربة الإدارة الذاتية وقدرتها على الاستمرار، فالموقف التركي واضح بعداوته الشديدة لما يعتبره امتداداً لحزب العمال الكردستاني في تركيا، وما يمكن أن يشكّل ذلك من مخاطر مستقبلية على بنية الدولة القومية التركية، في حال نجاحها، إضافة إلى الدوافع السياسية الشخصية للرئيس التركي إردوغان، الذي يرى بإنجازاته العسكرية في شمال سوريا، وسيلة لشدّ عصبية القوميين الأتراك، أمام استمرار ارتفاع مستوى التضخّم الاقتصادي، الضاغط بشدة على الأتراك.
الخطر الثاني هو الخطر الأميركي، الذي لم يقدم على أي خطوة للاعتراف بهذه الإدارة، بل كان سعيه هو الدفع بحوار قسري بين حزب الاتحاد الديمقراطي، وبين المجلس الوطني الكردي الموالي لتركيا وأربيل، في خطوة أولى نحو تقليص دور حزب الاتحاد الديمقراطي، وإحلال المجلس الوطني مكانه، والعمل لم يتوقّف على هذا المستوى، بل ذهب الأميركيون نحو تفعيل دور بعض العشائر العربية الموالية لهم، وتشكيل قوات عسكرية عربية خارج إطار قوات “قسد”، إضافة إلى دورهم الغامض في دعم قوات مجلس دير الزور العسكري بقيادة “أبي خولة”.
الخطر الثالث هو الحساسيات العصبية بين الكثير من العشائر العربية والكرد، خاصة بين مناطق جنوب الجزيرة السورية وشمالها، وعزز من هذه العصبية ما تعتبره هذه العشائر استئثاراً بالسلطة والثروة في كامل منطقة الجزيرة، إضافة إلى تجربة مريرة عام 2003، في إثر مواجهات دموية بين بعض العشائر العربية والكرد في القامشلى، وهي قابلة للانفجار إذا ما تغيّرت السياسات الإقليمية، والدفع بهذه العشائر نحو صناعة صدام دموي جديد.
هذه المخاطر الثلاث تدفع لإعادة التفكير من جديد في تدوير الزوايا، للبحث عن حلول من خارج الصندوق المغلق، وهذا الأمر لا يتوقّف على الكرد فقط بل على كل الأطراف السوريّين، وخاصةً دمشق التي بإمكانها أن تنقذ ما يمكن إنقاذه في أخطر مرحلة من الحرب في سوريا، فكما أن اللامركزية السياسية والعسكرية، لا تتوفّر لها عناصر النجاح، عدا عن عدم تقبّلها من معظم القوى السياسية، فإن المركزية الشديدة وما تركته من آثار باهظة على المجتمع السوري، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، لم تعُدْ قابلة للاستمرار بالكيفية الحالية، في ظل مناخ داخلي وإقليمي ودولي ضاغط.
الأمر لا يتوقّف على هذين الطرفين، وإنما على كل الأطراف الوطنية السورية، المؤمنة بضرورات التغيير السياسي والاقتصادي، على أسس وحدة وسيادة واستقلال سوريا، في الزمن المتبقّي والضاغط على مصير سوريا، وقد يكون تصريح صالح مسلم الرئيس المشترك لحزب الاتحاد الديمقراطي، بتوصيفه للوضع السوري وللحلول الممكنة، “مصيرنا بات بيد الفاعلين، بينما السوريون مفعول به، وليس أمامهم سوى التنسيق أو وحدة الصف ليصبحوا فاعلين”، بمثابة وجهة نظر يمكن العمل عليها بما تبقّى من زمن أمامهم.