«شعب بوتين» أو بعبع اسمه موسكو!
في 19 كانون الأول (ديسمبر) 2020، قال رئيس هيئة الأركان العامة البريطانية، الجنرال نيك كارتر، إنه «من أجل هزيمة روسيا والصين، من الضروري الانتصار عليهما في لعبتهما، ما يعني الانتصار عليهما من دون حرب، فالقوى المعادية لا تستطيع تحمل نزاع عسكري، وبالتالي فهي تتجه إلى الهجمات الإلكترونية والمعلومات المضلّلة». كذلك، أعرب وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو عن قناعته بأن روسيا تنتمي إلى قائمة «أعداء» الولايات المتحدة، وألقى باللوم عليها في الهجوم السيبراني الأخير على بلده. وقال بومبيو، في حوار جرى في 18 كانون الأول مع المذيع مارك ليفين على قناة «فوكس نيوز» نشرت الخارجية الأميركية نصه كاملاً: «يسألونني دوماً من هو عدونا، وجوابي أنّ هناك الكثير من الناس الذين يرغبون في تقويض نمط حياتنا وجمهوريتنا ومبادئنا الديمقراطية الأساسية، وروسيا تحديداً ضمن هذه القائمة» وشدّد على أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يزال يشكل «خطراً حقيقياً على مَن يحبّ الحرية».
في الثاني من نيسان (أبريل) 2020، نشرت الصحافية الأميركية كاثرين بيلتون، التي عملت مراسلة لـ «فاينانشيال تايمز» في موسكو، كتاباً بعنوان Putin’s People: How the KGB Took Back Russia and Then Took On the West (دار فارار، شتروس، جيرو ـــ 2020) يُحاول تتبع عمليات الاختراق الروسية المستمرة منذ عقود لجهات حكومية وغير حكومية في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
تحشد كاثرين بيلتون، في أكثر من 600 صفحة، لقاءات مع العديد من الروس، ومنهم مَن عمل على مقربة من بوتين أثناء فترة عمله في جهاز الاستخبارات السوفياتية آنذاك (KGB) قبل أن ينتقل ليكون سيد الكرملين، في مُحاولة لإيجاد إثبات تاريخي حول ادعاءات جهات بريطانية وأميركية حول التدخل الروسي في الاستحقاقات الانتخابية في البلدين الكبيرين. بالطبع، لم تتمكن بيلتون من إيجاد دليل مادي موثّق ضد روسيا، لكنها صبّت غضبها، مستندةً إلى فترة خدمة بوتين في دريسدن في ألمانيا الشرقية عام 1985 قبل انهيار جدار برلين، الذي تعتبر الكاتبة أنّه شكّل صدمةً لبوتين جعلته يُعادي الغرب ويتعهّد بالانتقام.
تزعم بيلتون أنّ الغرب تهاون مع سياسات بوتين الاستخباراتية في التدخل في شؤونه، وأن الغرب استيقظ فجأة عام 2016 مع ظهور أدلة على أنّ موسكو تدخلت لمصلحة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية آنذاك، إلى جانب تدخل موسكو في السياسة البريطانية، مُستندة إلى ادعاء نواب بريطانيين طالبوا حكومة بلادهم بفتح تحقيق في احتمال تدخل روسيا بالاستحقاقات الانتخابية البريطانية، خصوصاً استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016، واستفتاء آخر نُظم عام 2014 حول استقلال إسكتلندا عن بريطانيا. هذا التدخّل المزعوم تمّ عبر متموّلين نافذين تربطهم علاقات ببوتين استخدموا ثرواتهم «لممارسة نفوذ لدى دائرة واسعة من الأوساط البريطانية الرسمية».
تجاهلت الكاتبة إسقاط وزارة العدل الأميركية الاتهامات بحق مستشار الأمن القومي الأميركي السابق مايكل فلين في قضية تدخل روسيا في انتخابات 2016، والتقرير النهائي للمحقّق روبرت مولر، الذي أجرى تحقيقاً شاملاً في تدخل روسي في الانتخابات الأميركية، وإمكانية ضلوع الرئيس الأميركي فيها. وخلص التقرير إلى أن لا صلة لدونالد ترامب وأي شخص مرتبط بإدارته، بتدخل روسي في الانتخابات الأميركية. كما تجاهلت تقرير لجنة الاستخبارات والأمن البرلمانية البريطانية الذي أشار إلى تعذّر إيجاد دليل محدد على تدخل روسي في الاقتراع على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016 واستفتاء حول استقلال اسكتلندا عن بريطانيا عام 2014. من جهتها، قالت حكومة صاحبة الجلالة: «لم يكن هناك دليل على تدخل ناجح في استفتاء الاتحاد الأوروبي»، ونفت أن تكون تعاملت ببطء مع التهديد. من جهته، قال وزير الخارجية البريطاني، دومينيك راب إن إجراء التحقيق بأثر رجعي يُعد أمراً «غير ضروري».
تتعامل بيلتون بما يمكن اعتباره سذاجة توثيقية، فحشدت كارهين لبوتين لقول روايتهم الهوليوودية عن حقبة الانهيار السوفياتي، مثل تصفية عُملاء، حرق وثائق، تهريب أموال. وهذا ليس كافياً لتكوين صورة حقيقية عن حُكم وسياسة بوتين داخلياً وخارجياً، فمثال سريع عن السذاجة التوثيقية، تتجلّى في توثيق أسماء شركات العلاقات العامة والجمعيات الخيرية والمصالح السياسية والمؤسسات الأكاديمية والثقافية وحتى البرلمانيين في السياسية الأميركية والبريطانية المستفيدين من الأموال الروسية لا يعني إدانة. فهذه العلاقات الروسية – الغربية تتمّ في ضوء القانون الغربي، وما تقوم به روسيا من استثمار في بريطانيا مثلاً تقوم به الهند/ بلدان الخليج، فهل يُعقل اتهام كل دولة بأنها تهدف للتلاعب بالمجتمع البريطاني عبر ضخّ الأموال فيه؟
المثير للاستغراب في الاطلاع على كتاب Putin’s People هو مدى تناسي أولئك الذين يواجهون بوتين أنه ضابط مخابرات لعقود. ويبدو أنه حتى أولئك الذين هم داخل السياسة الروسية يتجاهلون هذه الحقيقة ويظنون أنهم يدركون حركات الرئيس، وهم بذلك يستخفون به، معتقدين أنه يعكس اهتماماتهم أو قيمهم، وأنه في صفهم وصديقهم. إلا أن بوتين له نوع من الكاريزما الباردة، والقوة الصامتة، إذ تمكن فعلاً من الحصول على ثقة أوليغارشية الفساد الروسي بعد الانهيار السوفياتي، لكنه سرعان ما اتخذ إجراءات قوية ضدهم وحيّدهم تباعاً عن السياسة والحياة الاقتصادية. وسارع إلى إعادة بناء وترميم مؤسسات الدولة الروسية التي تضرّرت بشدة من السياسات الغربية منذ عام 1991. لو تلاعب بوتين بالمال والمخابرات والإيديولوجيا، فإنّ ذلك لم يكن ضد الغرب على جانبي الأطلسي، بل ضد الغرب داخل حدود بلاده الأوراسية.
بالنسبة إلى كثيرين في الغرب، كان بوتين ولا يزال العقل المدبر، الذي ينسق صعود روسيا من جديد. ويبدو هذا مُربكاً لأوروبا المُنهكة، وللسياسة الأميركية التي تريد تخفيف عبء مسؤوليتها الدفاعية في أقطار الأرض المُختلفة، وقد عبّر عنها الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب، الذي يبدو أن سياسته الانطوائية والبرغماتية ستدوم في عمل المؤسسات العسكرية والأمنية الأميركية. وبالتالي، فإنّ تنامي قوة موسكو يواجَه حالياً عبر شيطنة أكاديمية وصحافية لصورة الحُكم والحاكم في روسيا.
نظرة بيلتون إلى بوتين تبدو مختلفة، فهي تراه مجرد شخص يجيد لعب دور مدير لا أكثر، لكنه أصبح سيد الكرملين، وصانع عودة روسيا إلى الساحة الدولية. ويمكن اعتباره سيد مجاله عبر حشد كثير من التفاصيل والأحداث التي مرّ بها خلال حُكمه. لكن هي لا تهتم بسرد وقائع تاريخية وسياسية، بل توثّق حكايات تنقلها عمن وصفتهم بأحد المطّلعين. تقول إنّه في وقت مبكر من فترة رئاسته، عانى بوتين من مشاكل مع زوجته ليودميلا، فقد كان يعود إلى المنزل ويأخذ حماماً، ويجلس ليشاهد التلفزيون، ما أدى إلى إفراطها في شرب الكحول. هذه قصة ليست اعتباطية، بل منتقاة بدقة، فالكاتبة تشير إلى أنّها ضد التقويض الروسي للحياة الغربية، والنمط الاستهلاكي الأميركي المرسوم في ذهن الشباب… تلك الفئة المستهدفة دائماً للحفاظ على ديناميكية النظام العالمي الحالي وإيديولوجيته القائمة على المتعة. فالرسالة مفادها: نحن نواجه وحوشاً باردة العواطف لا تحب المولات ولا تشتري المنتجات الأميركية خلال رحلات التبضّع الطويلة مع الزوجة ولا تتأثر بإعلانات: اشرب، افرح، العب، من دون أن يفكر أحد ما هي هذه السعادة في علبة الصفيح؟
أدبيات السياسة الغربية تظهر جليةً في كتاب بيلتون، فدائماً ما كان هناك صوت داخل المجتمع السياسي يدقّ ناقوس الخطر بشأن روسيا، ويبدأ بالصراخ بأنهم مُحاربون باردو الدم، أو ديناصورات. اليوم نجد أنفسنا أمام ردود فعل مشوّشة ضد روسيا، حيث يتم تسييس أي شيء يتعلق بها على الفور. ولعقدين من الزمن، كان البيت الأبيض أو «10 داوننغ ستريت» يستغلان موسكو كبعبع لتمرير السياسات الخاصة بالإنفاق العسكري، والأمن، وحتى القرارات الاقتصادية. وأخيراً، قرّر الديمقراطيون الدفع بالروس ضد دونالد ترامب في محاولة لاستغلال أدبيات الحرب الباردة وتقليص شعبيته، وقد نجحوا بالفعل. أما على الجانب الآخر من الأطلسي، فبريطانيا تداوي المشكلات الاقتصادية والسياسية والخلاف الأوروبي – الأوروبي بالتدخل الروسي. تريد أن تضخم العداء مع روسيا كي يدرك الاتحاد الأوروبي ضرورة الإبقاء على علاقات ممتازة مع بريطانيا، فهي إحدى القواعد الرئيسية للجيوش الأطلسية للدفاع عن القارة الأوروبية ضد السلافيين، ثم السوفيات، واليوم البوتينيين، أو «شعب بوتين»، ترجمة عنوان كتاب بيلتون.
بوتين ليس مُعادياً للغرب كما يتخيّل كثيرون، فقد يتعامل مع الغرب من منطلقات روسية خاصة تأخذ في الحُسبان التاريخ والحضارة والقومية الروسية، والقوة العسكرية النووية، والتأثير في القرار الدولي، والتعاون قائم بقوة بين الطرفين. نجد هذه الأيام العمل على إنهاء خط الغاز الروسي لقلب أوروبا يسير بوتيرة سريعة، فأي خطر أكبر على الغرب: السيطرة على مصادر الطاقة أم طبيعة العلاقة بين بوتين وزوجته؟
صحيفة الأخبار اللبنانية