شمال سوريا متروك لمصيره: هذا هو حُكم الفصائل
بينما كان آلاف السوريين في الشمال الغربي من البلاد يحفرون في الركام بأيديهم في محاولة لإنقاذ ضحايا الزلزال المدمّر الذي ضرب تركيا وأربع محافظات سورية، لم يحرّك الجنود الأتراك المتمركزون في عشرات القواعد ونقاط المراقبة المنتشرة في إدلب وريف حلب ساكناً، تاركين السوريين المنكوبين والفصائل التي تسيطر على تلك المناطق والخاضعة لـ«حكومتَين» يواجهون الكارثة بمفردهم. في الوقت نفسه، تعطّلت خطوط إمداد المساعدات الأممية المجدوَلة سابقاً، فيما لم تلقَ أصوات المتضرّرين أيّ صدى في الدول الداعمة للمعارضة وفصائلها في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وفيما دخل ملفّ المساعدات نفق التسييس إثر رفْض «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً) تمرير معونات عاجلة أرسلتْها دمشق عبر معبر سراقب، تساوقاً مع رغبة أميركية في منْع ترسيخ معابر دائمة تهدم الحدود الوهمية التي رسمتْها خريطة السيطرة الحالية، أظْهر التجاهل الذي أبدته واشنطن وحلفاؤها لمنكوبي الشمال الغربي من سوريا في اليومَين التاليين للكارثة، مفارقة يمكن ملاحظتها عبر مقارنة إمدادات السلاح وعمليات حشْد «الجهاديين» التي جرت خلال سنوات الحرب الأولى، والتصعيد السياسي مع كلّ تقدّم للجيش السوري، بالاستجابة المتثاقلة لاحتياجات سكّان منطقة استثمرتها الدول المذكورة سياسياً، وميدانياً، ولا تزال.
وتسيطر على الشمال السوري الخارج عن سيطرة الحكومة السورية «حكومتان»، الأولى تابعة لـ«الائتلاف» الذي ينشط من إسطنبول التركية (الحكومة المؤقتة)، والثانية تابعة لـ«هيئة تحرير الشام» (حكومة الإنقاذ) التي تسيطر على إدلب، ويمتدّ نفوذها إلى عفرين في ريف حلب. وعلى الرغم من التفاوت في طبيعة «الحكومتَين» والصراع الدائم بينهما على النفوذ، لم يختلف سلوكهما إزاء الكارثة. إذ اكتفى مسؤولوهما بتكثيف الزيارات الميدانية الدعائية للمناطق المنكوبة، والتقاط عشرات الصور لهذه الزيارات، بالإضافة إلى محاولة استثمار الكارثة سياسياً عبر طلب دعم عابر للحدود، من دون توجيه أيّ انتقادات للدول «الحليفة». كذلك، أُبرز دور منظّمة «القبعات البيضاء» التي تأسّست بدعم من الاستخبارات البريطانية، وتتّهمها دمشق وموسكو بأداء أدوار سياسية تخدم الفصائل المسلّحة والولايات المتحدة الأميركية. وأعلنت المنظّمة أنها استنفرت 2900 متطوّع قاموا بعمليات إنقاذ عالقين تحت الركام، وهو ما جرى استغلاله سياسياً في وقت لاحق بعد تصدُّر «البيضاء» حملة هجوم على الأمم المتحدة والمنظّمات التابعة لها اتّهمتْها فيها بالتقصير في إدخال المساعدات، بالإضافة إلى محاولة واشنطن وحلفائها التستّر على تقصيرهم عبر الإعلان عن إرسال مساعدات مالية إلى المنظّمة.
ودخلت أوّل قافلة إغاثة أممية بعد ثلاثة أيام على الكارثة، سُجّل فيها دخول بعض المساعدات وفريقَي إنقاذ صغيرَين. وفي وقت لاحق، وافقت الحكومة السورية على فتْح معبرَين إضافيين مع تركيا لتمرير الإغاثة إلى منكوبي الشمال لمدّة ثلاثة أشهر، في خطوة استبقت من خلالها دمشق خطّة تصعيد أميركية لاستثمار الزلزال، وتحميل دمشق مسؤولية الكارثة الإنسانية التي حلّت بتلك المناطق من البلاد. مع ذلك، لا تزال قوافل المساعدات التي تمرّ يومياً خجولة، ولا تلبّي إلّا جزءاً صغيراً من احتياجات مئات آلاف السوريين المتضرّرين، وسط اتّهامات توجّه عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى جماعات مسلّحة تعمد الى استغلال هذه المساعدات، في ظلّ حالة الفوضى الفصائلية التي يشهدها ريف حلب، وإحكام «هيئة تحرير الشام» سيطرتها على كلّ المعونات. ويرسم المشهد في الشمال السوري المنكوب فشَل 12 عاماً من محاولة مأسسة الفصائل وخلْق «حكومة» قادرة على إدارة المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية، الأمر الذي يمكن أن يفسّر التأخّر الكبير في إرسال المساعدات، ومحاولة إيجاد آليات لها، وخصوصاً أن الإغاثة يجب أن تتمّ بشكل علني وموثّق، على عكْس شحنات الأسلحة وآلاف «الجهاديين» الذين أُدخلوا إلى سوريا بعيداً عن الضوء.
في الوقت الحالي، يتكدّس مئات آلاف السوريين في مساحة جغرافية ضيّقة في إدلب وريف حلب، قرب الحدود مع تركيا، حيث أصبح عدد كبير منهم بلا مأوى، يعيشون في خيم قماشية قدّمها متبرّعون محلّيون، عبر قوافل إغاثة شعبية كسرت الخطوط الوهمية التي رسمتْها الحرب. وتجاوَز عدد الضحايا في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية 2200 وفاة، بينهم نساء وأطفال، بالإضافة إلى تسجيل أكثر من 12 ألف إصابة، في وقت تقدّر فيه بعض المصادر المعارِضة، تحدّثت إلى «الأخبار»، عدد المباني المتضررة بأكثر من ألفَي مبنى، ثلثها تقريباً دُمّر بالكامل. وبالإضافة إلى تمرير جثث السوريين الذين فقدوا حياتهم في مناطق ضربها الزلزال في تركيا لدفنهم في بلادهم، تُتابع الحكومة التركية عمليات ترحيل الأحياء إلى الشمال السوري، حيث أعلنت الداخلية التركية عودة عشرة آلاف سوري إلى بلادهم، استكمالاً للخطّة التي تقضي بترحيل مليون لاجئ، في وقت يتمّ فيه استكمال عمليات بناء مجمّعات سكنية بدائية قرب الشريط الحدودي لإعادة توطين اللاجئين المرحَّلين.
صحيفة الأخبار اللبنانية