صراع الأفيال فوق رقعة العشب الدولية
تعكس الحرب الدائرة حالياً على الساحة الأوكرانية صراعاً دولياً من نوع غير مألوف. فهي ليست حرباً بين دولتين، على الرغم من أن روسيا وأوكرانيا هما طرفاها المباشران، ولا هي حرب بين معسكرين أيديولوجيين مختلفين، على الرغم من مشاركة حلف الناتو كطرف مباشر فيها، بل هي حرب بين قوى كبرى تتنافس على قيادة النظام الدولي، وتشارك فيها، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، دول أخرى مرتبطة بها، بحكم تداخل وتشابك المصالح المتبادلة في ما بينها. ويلاحظ هنا أن هذه الحرب لم تندلع بسبب صراع على الموارد والأصول، أو على الأرض والحدود، بل بسبب عدم مواءمة القواعد والمؤسسات المسؤولة عن إدارة النظام الدولي الراهن ورغبة القوى الصاعدة في تغييرها، كما يلاحظ أنها لا تدار بقوة النيران وحدها، بل بمختلف عناصر القوة المتاحة، الخشنة منها والناعمة والذكية. لذا، تبدو أقرب ما تكون إلى صراع أفيال فوق رقعة العشب الدولية، ومن ثم يتوقع أن تتسبّب في دمار كبير للعالم بأسره، من دون أن يكون بمقدور أحد أن يضمن أنها ستفضي بالضرورة إلى تأسيس نظام عالمي أكثر توازناً وقدرة على تحقيق العدالة للبشرية ككل.
اندلاع هذه الحرب، بأبعادها المشار إليها سلفاً، يعدّ في حدّ ذاته دليلاً على ضعف مؤسسات النظام الدولي الراهن وانهيار قواعده. فالولايات المتحدة وحلفاؤها يرون أن إقدام روسيا على استخدام القوة المسلحة ضد أوكرانيا يعدّ انتهاكا خطيراً لأهم القواعد المتضمنة في ميثاق الأمم المتحدة، والتي تقضي بتحريم استخدام القوة في العلاقات الدولية أو حتى مجرد التهديد باستخدامها، ومن ثم بضرورة التزام الدول كافة باللجوء إلى الوسائل السلمية في تسوية المنازعات التي قد تنشب في ما بينها، كما يرون أنهم ملتزمون، قانونياً وسياسياً وأخلاقياً، بضرورة تقديم كل مساعدة ممكنة لتمكين أوكرانيا من الصمود في وجه العدوان الذي وقع عليها، وأن هذه المساعدة تندرج في إطار حق الدفاع الشرعي عن النفس، الفردي والجماعي، المنصوص عليه في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
أما روسيا فترى، على العكس، أن النزعة التوسعية لحلف الناتو، بما تنطوي عليه من إصرار على تحريض أوكرانيا على الانضمام إلى هذا الحلف وتشجيعها في الوقت نفسه على التحلل من التزاماتها بموجب اتفاق مينسك، هي السبب الرئيسي في اندلاع الأزمة الراهنة، وأن عجز المؤسسات الدولية القائمة حالياً عن التدخل لحمل أوكرانيا على تنفيذ التزاماتها هو ما دفعها إلى استخدام القوة العسكرية لمواجهة ما تعتبره تهديداً وجودياً.
ولأن روسيا ترى في الوقت نفسه أن استخدامها للقوة العسكرية ضد أوكرانيا لا يمثّل خرقاً للقانون الدولي أو لميثاق الأمم المتحدة، بل يعدّ إعمالاً لحقّ الدفاع الشرعي عن النفس، فمعنى ذلك أننا إزاء وضع يدّعي فيه أطراف الصراع كافة أنهم يستندون في صحة ادّعاءاتهم إلى المرجعيات القانونية نفسها؛ فالجهة المنوط بها تحديد من هو الطرف المعتدي ومن هو الطرف المعتدى عليه، وهي مجلس الأمن في هذه الحالة، لا تستطيع القيام بدورها المنشود، بسبب امتلاك أحد طرفي الصراع لحق الفيتو الذي يكفل له القدرة على شل حركته، وهو ما أدى إلى إصابة منظومة الأمن الجماعي المتضمنة في ميثاق الأمم المتحدة بالعطب التام.
لم تكن روسيا، العضو الدائم في مجلس الأمن، هي الدولة الوحيدة التي لجأت إلى استخدام القوة المسلحة كوسيلة لتسوية نزاعها مع دولة أخرى، وذلك بالمخالفة لقواعد القانون الدولي ولميثاق الأمم المتحدة، فالواقع أنه سبق لكل الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، ربما باستثناء الصين، أن فعلت الشيء نفسه في مناسبات مختلفة كثيرة (فرنسا وبريطانيا إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، والولايات المتحدة إبان غزوها واحتلالها للعراق عام 2003، وذلك على سبيل المثال لا الحصر)، ومن ثم لا يحق لأي من القوى الكبرى المتنافسة على الساحة الدولية ادّعاء العصمة أو التفوّق الأخلاقي على هذا الصعيد. غير أن الأزمة الأوكرانية كانت المناسبة التي استخدمتها الولايات المتحدة وحلفاؤها لفرض عقوبات شاملة على روسيا، بالمخالفة أيضاً للقانون الدولي ولميثاق المنظمة الأممية. فالعقوبات جزء لا يتجزأ من منظومة الأمن الجماعي، ومن ثم لا ينبغي أن تفرض إلا من خلال الجهاز المسؤول عن تطبيق هذه المنظومة، ألا وهو مجلس الأمن. لذا يمكن القول إن الحرب في أوكرانيا تعدّ أول أزمة في تاريخ الأمم المتحدة تشهد استخداماً متزامناً من جانب أطرافها لكل من القوة العسكرية والعقوبات الاقتصادية خارج نطاق مجلس الأمن، ومن ثم خارج نطاق الشرعية الدولية. وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن القوى الكبرى لم تعد حريصة بشكل جماعي ومتعمّد على احترام قواعد القانون الدولي، وتتصرّف وكأن الأمم المتحدة لم تعد قائمة، ما يعني بداية دخول النظام الدولي في مرحلة تتّسم بالفوضى الشاملة، الأمر الذي يعدّ تراجعاً وانتكاسة كبيرة إلى الوراء. فهل يعني ذلك عودة المجتمع الدولي إلى مرحلة ما قبل التنظيم الدولي؟
كانت العلاقات الدولية، في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى، تدار وفقاً لمبدأي السيادة المطلقة والسعي لتحقيق التوازن بين القوى المتنافسة على الساحة. غير أن المزاوجة بين هذين المبدأين أفضت إلى سباق تسلح بين القوى الكبرى، عجز النظام الدولي في ظله عن تحقيق التوازن المطلوب لتحقيق الأمن المنشود، ما أدى إلى اندلاع حرب عالمية تسبّبت في دمار غير مسبوق للبشرية. وأمام هول الدمار الناجم عن الحرب العالمية الأولى في تاريخ البشرية، اقتنع قادة العالم الكبار بضرورة الانتقال إلى مرحلة جديدة لإدارة العلاقات الدولية من خلال مؤسسات عالمية تتولى تطبيق نظام “أمن جماعي”، كبديل لنظام توازن القوى الباحث عن تحقيق الأمن الفردي لكل دولة على حدة. هكذا بدأ عصر “التنظيم الدولي” الذي مثّلت منظمة “عصبة الأمم” أولى محاولاته الرامية إلى تطبيق نظام مؤسّسي للأمن الجماعي. ومن المعروف أن “نظام الأمن الجماعي” ينظر إلى المجتمع الدولي باعتبارة كلاً واحداً لا يتجزّأ، ومن ثم فإن الاعتداء على أيّ جزء فيه يعدّ اعتداءً على الكل الذي ينبغي عليه أن يتضامن معاً لردّ العدوان. ولأن المجتمع الدولي لم يكن آنذاك قد وصل بعد إلى مرحلة العالمية الحقة، بسبب انقسامه إلى دول مستعمِرة، (بكسر الميم)، ودول مستعمَرة، (بفتح الميم)، فقد كان من الطبيعي أن تندلع حرب عالمية ثانية، تحت وطأة التنافس على المستعمرات بين القوى الكبرى، وأن تؤدي هذه الحرب بدورها إلى انهيار العصبة، وإلى قيام منظمة عالمية بديلة، هي “الأمم المتحدة” التي استهدفت إقامة وتطبيق نظام للأمن الجماعي يكون أكثر شمولاً وإحكاماً من سلفه.
لقد عانت الأمم المتحدة، منذ نشأتها عام 1945 حتى الآن، من مظاهر قصور كثيرة، وذلك لأسباب كثيرة، ربما أهمها اندلاع الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، ومع ذلك فقد تمكّنت هذه المنظمة الدولية العتيدة من تهيئة الأجواء لتحقيق مسألتين على جانب كبير من الأهمية:
الأولى: تصفية الاستعمار، الأمر الذي أسهم في تحويل المجتمع الدولي إلى قرية كونية واحدة تواجه مصيراً مشتركاً بالضرورة، وذلك تحت تأثير الثورات العلمية والتكنولوجية المتعاقبة.
الثانية: لفت الانتباه إلى مصادر التهديد غير العسكرية الكامنة في بنية النظام الدولي، كالفقر والإرهاب والجريمة المنظمة والتغير المناخي والتلوث، وغيرها من المظاهر التي تهدّد البشرية ككل، والتي لن يكون بمقدور أحد أن يواجهها أو ينجو من تأثيراتها السلبية منفرداً.
الحرب الدائرة حالياً على الساحة الأوكرانية، بما ترمز إليه من صراع للأفيال على رقعة العشب الدولية، وبما تثيره من فوضى عارمة، تعني انهيار قواعد ومؤسسات نظام الأمن الجماعي الذي أرسته الأمم المتحدة، وهو النظام الذي تطور في ظل حرب باردة امتدت أربعة عقود متتالية، قبل أن يعود للتجمّد تماماً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وهي حرب تظهر في الوقت نفسه مدى حاجة المجتمع الدولي إلى قواعد ومؤسسات أمن جماعي جديدة، تأخذ في اعتبارها مجمل التطورات التي طرأت على نظام دولي أصبح كونياً ومتعولماً بامتياز.
المشكلة هنا تكمن في عدم الاطمئنان إلى حكمة الجنس البشري وعقلانيّته. فتجربة “عصبة الأمم” لم تتبلور وتنضج إلا بعد دمار كبير أحدثته الحرب العالمية الأولى، وتجربة “الأمم المتحدة” لم تتبلور وتنضج إلا بعد دمار أكبر أحدثته الحرب العالمية الثانية. ولأن الجنس البشري لا يحتمل اندلاع حرب عالمية ثالثة ستكون نووية بالضرورة، لأن في اندلاعها فناءه الحتمي، فلم يعد أمامه، إذا ما تمكن من إطفاء نار الحرب الدائرة حالياً على الساحة الأوكرانية وحال دون تطورها إلى حرب عالمية ثالثة، سوى بلورة نظام قادر على تحقيق الأمن الجماعي للبشرية كلها، لا لهذه الدولة أو تلك، أو لهذا الحلف أو ذاك.
الميادين نت