صراع لا يشبه غيره: سوريا ليست لبنان أو العراق (ميشيل كيلو)
ميشيل كيلو
ما أن تتحدث إلى مواطن عراقي عن أزمة سوريا حتى يبدأ بشرح اوجه التشابه بين الوضعين العراقي والسوري، وبتحذيرك من عقابيل «العرقنة»، التي تعيشها بلاد الرافدين منذ الغزو الأميركي العام 2003. فإن أنت التقيت بأخ لبناني، بدأ يقارن بين الحرب الطائفية التي شهدها لبنان مراراً وتكراراً طيلة عقد ونصف وبين ما يجري في سوريا باعتباره أمراً يشبهها ويتماهى معها. بهذه المناسبة، من المنطقي أن يحذرك المتحدث من عواقب الاقتتال الطائفي، ويقدم لك الحلول الكفيلة بتحصين بلادك المنكوبة، المستوحاة جميعها من تجربة بلاده .
ليست سوريا بلداً خلواً من الطوائف، لكنه ليس بلداً طائفي التركيب والتكوين: مجتمعياً وسياسياً. ولم يسبق للتنوع الطائفي والإتني السوري أن قاد إلى صدامات او حروب طائفية، متكررة أو متفرقة، ولم يوهن يوماً وحدتها الوطنية إلى درجة تستوجب إعادة النظر فيها، ولم يدفع بأطراف طائفية إلى الاستعانة بالأجانب من أجل حسم خلافاتها أو وقف اقتتالها. وكانت سيرورة اندماج حثيثة قائمة على قدم وساق في سوريا عقب انفكاكها عن الإمبراطورية العثمانية وبداية تكون دولتها الوطنية في اعقاب الحرب العالمية الأولى. ثم زاد من ابتعاد السوريين سياسيا عن طوائفهم نضالهم المشترك في سبيل الاستقلال، وواقعة أن فرنسا أرادت تقسيم وطنهم انطلاقا من أسس وحسابات طائفية ومناطقية، فكان رفضهم له وتمسكهم بوحدتهم رفضاً إضافياً لإضفاء أي طابع سياسي خاص على انتماءاتهم الطائفية، أو لاعتبار مذاهبهم وقائع ذات اولوية تحد من هويتهم كسوريين، ومن حاجتهم إلى المواطنة كمبدأ يجب ان تنهض عليه حياتهم العامة ومشاركتهم في شأن عام، يستجيب لحرية الفرد ولوحدة الدولة والمجتمع واستقلالهما. بكلام آخر: كان تاريخ سوريا يمضي في اتجاه يتخطي الانتماءات الدنيا والجزئية، طائفية كانت أم مناطقية أم اتنية، وكانت الانتماءات العليا والجامعة، انتماءات الوطنية والحرية والنزعة الديموقراطية، تصهر في بوتقة الصالح العام المصالح النابعة من توجّهات جزئية ودنيا، بينما كان التطور الاجتماعي يأخذ البلاد إلى عتبات قريبة من تلك التي دخلت عبرها البلدان المتقدمة إلى رحاب تطورها المفتوح، وكانت السياسة تتجسّد في مؤسسات قانونية وأحزاب متنوعة ونقابات وجمعيات ونواد، فضلاً عن نظم تعليم متطورة وعلاقات سوق متنامية، ورسملة طاولت قطاعات زراعية ومناطق ريفية متزايدة الاتساع، في حين بدت طرق المستقبل مفتوحة نسبياً أمام خيارات العدالة والمساوة، وبدت إرادة الشعب مهمة في تقرير مصير الوطن، مثلما حدث مع قيام وحدة العام 1958 مع مصر.
كان مجتمع سوريا يندمج في الداخل وينفتح على أمته العربية في الخارج، ويشارك في الصراعات الإقليمية والدولية، حتى أن مفكراً كبيراً كالياس مرقص اعتبره هو وليس أي مجتمع عربي آخر، الحامل الاكبر للمشروع القومي / التحرري في عالم العرب. هذا التطور الايجابي، تم كبحه تماماً بعد انقلاب 8 آذار 1963، الذي ما لبث أن قام على أسس قوضت الوحدة الوطنية والتطور الحر والدولة المستقلة، وأبرزت السلطة الحاكمة كبديل عن الدولة، وكسرت باسم الثورة كل ما يتخطى مكونات المجتمع الدنيا ويمثل حالة نوعية تتجاوزها. فهل نجح الانقلاب في رد سوريا إلى حال ماضية، قامت على ولاءات جزئية وعصبوية وانتماءات دنيا لطالما همشها وقوضها التطور الذي كانت تشهده البلاد قبل البعث؟ اعتقد جازماً انه لم ينجح، رغم ارساء قواعده على ما في سوريا من تكوينات وكيانات ما قبل مجتمعية، وتنظيمه المنتمين إليها باعتبارهم حالة خاصة: شعباً سلطوياً رباه على العداء للشعب المجتمعي، لعامة الناس العاديين الذين تعرضوا بالامس للقمع والافقار والافساد، ويتعرضون اليوم للذبح بدم بارد.
إذا كان النظام لم ينجح، فهذا معناه أن محاولته وقف تطور سوريا الاندماجي / الوطني لن تنجح في وقف تلاشي الطائفية، وأن فشله سيعني، بين اشياء اخرى، انه لا يمكن ان تختلف في سوريا طوائف من النمطين اللبناني والعراقي، وأن مجتمع سوريا يختلف كثيراً عن هذين المجتمعين الشقيقين: عن العراق الذي عاش قرونا من المذابح بين سنته وشيعته، بشهادة موثقة قدمها الدكتور علي الوردي في كتابه المهم: «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق السياسي»، حيث يصف بإسهاب ودقة ما وقع بين العراقيين من صراعات ومذابح خلال قرون عديدة. وعن لبنان، لان نظام سوريا السياسي ليس مبنيا على توازنات طائفية، ولان الطائفية ليست حامل حياة السوريين العامة وإطارها ومقرر مآلاتها، وأخيرا، لأن نمط الطائفية السلطوية السوري أفضى إلى بلورة «طائفة سلطة» غير مجتمعية وغير منتمية إلى اية طائفة بعينها، ما يفسر فشل النظام في تحويل الصراع السوري الحالي من صراع مجتمع تنشد أغلبية مكوناته الحرية إلى اقتتال بين طوائف تتصارع تحت إشراف السلطة.
ليست سوريا العراق او لبنان، وهي لم تعرف في تاريخها قتالا طائفيا او صراعا طائفيا مديدا، ولم تكن طوائفها تكوينات سياسية/ اجتماعية ذات مصالح خاصة مستقلة او منفصلة عن غيرها، وليس في سوريا طوائف تمارس رعاية او تنمية ذاتية من خلال مدارس وجمعيات ومؤسسات ومرافق وشركات وجامعات ومعاهد ونواد رياضية واجتماعية… خاصة بها وحدها، ولا توجد في سوريا أحزاب طائفية باستثناء «جماعة الأخوان المسلمين»، التي لا تقبل غير السنة في صفوفها، لكنها تعد بتشكيل حزب يتخطى طابعها الطائفي، فليس للعلويين أو للمسيحيين او للدروز أو للاسماعيليين أحزاب خاصة بهم تمثل مصالحهم في مواجهة المجتمع والدولة والطوائف الاخرى، أو تقيم شراكة مصالح بين قيادتها ركيزتها المحاصصة والتقاسم، وفيما عدا الأحزاب الكردية، ليس في سوريا احزاب اتنية، علماً بأن معظم أحزاب الكرد يتبنى مشتركات وطنية جامعة مستمدة من قيم الحرية والمواطنة والديموقراطية وحقوق الانسان والمجتمع المدني، تتعارض مع انفصالها عن بقية المجتمع واقامة كيان كردي خاص بها، وتمكنها، بالمقابل، من الحصول على حقوقها المشروعة في إطار مجتمع مندمج قائم على حقوق متساوية.
ليس في تاريخ سوريا حقب انطبعت بسمات طائفية خاصة وسمت علاقات مكوناتها أو حددتها. ولم يذهب تاريخها من الاندماج الوطني إلى التمزق أو التمييز الفئوي/ الطائفي، بل سار في اتجاه معاكس تحوّلت معه طوائف وفئات كان نظام الملل العثماني يرعاها إلى كيان سياسي ازداد اندماجاً، تحول بمرور الوقت الى تشكيل وطني الملامح والوظائف، عروبي الابعاد والاهداف، تكور على ذاته انطلاقاً من قيم ومقاصد تتخطى انقساماته الذاتية وفئاته الدنيا، صهرته في كلية مجتمعية رفضت اية تسويات مصالحية أو وقتية بين مكوناتها المختلفة. ومع أن سلطة «البعث» اعتمدت بعد العام 1970 بصورة خاصة سياسات فئوية استغلت ما في المجتمع من عوالق طائفية وتفاوت جهوي، وراهنت على التناقض بين الارياف والمدن، والفقراء والأغنياء، والأقوياء والضعفاء، وركزت بصورة خاصة على منطقة الساحل السوري وحمص، حيث توجد كتلة سكانية كبيرة من ريفيين ضاقت بهم جبالهم شبه الجرداء والمزدحمة، وحرموا لفترة طويلة من حقوقهم كفلاحين وكفقراء، لكن درجة تعليمهم المرتفعة نسبياً أهلتهم للدخول في بيروقراطية الدولة كموظفين وعسكريين، فإن تطور السلطة ما لبث أن همش هذه القاعدة الاجتماعية، واستبدلها بحامل مغاير قدمته بالدرجة الاولى قواعد الأجهزة الأمنية والحزبية، التي غلب عليها الطابع الريفي، لكنها ارتبطت بالسلطة واقتصادها وأيديولوجيتها ومصالحها إلى حد جعل منها فئة خاصة انفصلت بصورة متزايدة عن ماضيها واصولها، بينما ابتعدت فئة السلطة القائدة عنها طبقيا وانخرطت في تحالف فوقي ضم اشخاصاً من جميع المذاهب، جسد طائفة سياسية ذات مصالح وانماط عيش وسلوك وتفكير مشتركة انفردت بها دون فئات المجتمع الاخرى، حولت كتلة الفلاحين السابقين، العاملين في أجهزة الأمن والجيش، الى خدم لديها وحراس على أبوابها وشعب بديل لشعب الكد والعمل والفكر: شعب المجتمع الوطني العام.
ليست معركة سوريا الحالية طائفية أو بين طوائف. إنها بالأحرى معركة بين مجتمع مظلوم ومضطهد ومنهوب وبين ظالميه ومضطهديه وناهبيه، وهؤلاء ليسوا بالتأكيد جمهرة منتسبي الأمن والجيش ممن يستخدمون لحماية امتيازات وتسلط طائفة الحكام السياسية /الاقتصادية، ويرابطون اليوم في الشوارع دفاعاً عنها، بما تضمه من لصوص وفاسدين وظلمة، تناضل قطاعات واسعة من الشعب منذ قرابة عامين للتخلص منها، ولا توفر جهدا إلا وبذلته من اجل ازالتها عن قمة الهرم السياسي /الاجتماعي، الذي استخدمت ما يتيحه لها من ادوات ووسائل وقوى من اجل اقامة واقع مصطنع حال بين السوريين وبين استكمال اندماجهم الوطني بما هو ارضية لا بد منها لإحرز الحرية والديموقراطية، ولإقامة دولة العدالة والمساواة، التي اضعفت «طائفة السلطة» ما كان في بلادنا من مقدماتها.
لسنا لبنان أو العراق أو مصر. هذه سوريا، التي تذهب إلى حريتها معلنة أن الشعب السوري واحد، وأن السوري ليس ولا يريد أن يكون سنيا أو علويا أو مسيحيا أو درزيا او اسماعيليا، وإنما يريد أن يكون هذا كله في آن معا، ليكون وطنيا وسوريا بحق!
صحيفة السفير اللبنانية