صواريخ لنقل الركاب؟ لعلها تنجو من ذكريات الـ «كونكورد»
«الخطوط الجوية الفرنسية («آر فرانس»)، رحلة رقم 4590». الأرجح أنّ الرقم ما زال يرن كئيباً في الذاكرة الحديثة للبشر. لم يمض سوى 19 عاماً على تلك الرحلة الجويّة المشؤومة التي قتل فيها مئة راكب وتسعة كانوا هم طاقم الطائرة و4 أشخاص على الأرض، خلال إقلاع طائرة «كونكورد» من مطار شارل ديغول في باريس، متوجهة إلى نيويورك.
في المعنى العلمي، كانت هناك ضحية أخرى لم تكن صامتة أبداً. ومع احتراق طائرة الـ «كونكورد»، دوّت مأساة سقوط المشروع العلمي لرحلات جوية تجارية تجري بسرعة تفوق الصوت، بل تصل إلى ضعفيه. أوقفت طائرات الـكونكورد» عن التحليق، بعد أن تباهت طويلاً بأنها قصّرت المسافة بين جانبي الأطلسي إلى أقل من 4 ساعات، ما جعلها أقرب إلى رحلة ريفيّة بالسيارة. وأحيل مشروع «كونكورد» إلى التقاعد، مسدّداً ضربة مؤلمة للمشروع العلمي لنقل البشر جوّاً بسرعة تفوق الصوت.
ويضم موقع «معهد التاريخ البريطاني المعاصر» محاضرة عنوانها «صنع الكونكورد»، تتضمّن وصفاً كاملاً للمسار الذي أوصل إلى صنعها. كتب المحاضرة مهندس الجو البريطاني جوك لوي في العام 1998. وتتوافر على الوصلة الإلكترونية icbh.ac.uk/seminars/concorde.html.
نجاح «فالكون» أطلق مارد الأحلام
لماذا تطلّ هذه الأيام أشباح مأساة الـ «كونكورد»؟ ربما لأنها مثّلت مشروعاً علميّاً طموحاً وجريئاً للقفز بالرحلات الجويّة إلى سرعة تفوق الصوت، ما اعتبر في جرأة متناهية في ذلك الوقت. وقبل أيام، قفز إلى سجـــل المشاريع العلميّة المتصلة بالرحلات الجويّة مشروع ربما فاق الـ «كونكورد» توثّباً وجراءة، بل حتى سرعة. إذ اقترح المستثمر العلمي الأميركي إيلون ماسك، وهو الرئيس التنفيذي لشركة «ســـبايس إكس» الأميركية الانتقال بالرحلات الجويّة إلى مرحلة الاستغناء عن الطائرة، والانتقال إلى الصاروخ. ورسم صورة لصواريخ متطوّرة تستخدم للتنقل بين مدن الكرة الأرضيّة، كما تصلح أيضاً للسفر إلى القمر والمريخ، بل ربما حمل بشر إليهما.
وفي مؤتمر للشركات الكبرى المهتمّة بصناعة الفضاء، أوضح ماسك أن مشروعه الصاروخي يتيح إتمام معظم الرحلات الجويّة للمسافات الطويلة (قرابة 14 ألف كيلومتر) بقرابة نصف ساعة، بل الانتقال من أي نقطة على الأرض إلى أخرى (قرابة عشرين ألف كيلومتر) في أقل من ساعة. ويعني ذلك الطيران بين سنغافورة وهونغ كونغ في 22 دقيقة، والانتقال من لندن إلى نيويورك أو دبي في 29 دقيقة! ووعد أيضاً بألا يزيد سعر تذكرة الطيران الصاروخيّة المقترحة عن نظيره في طائرات النقل الجويّة حاضراً.
واقترح ماسك أن يتولى صاروخ نوعي ضخم يشار إليه بإسم «بي أف آر» BFR، تعد شركة «سبيس إكس» أيضاً بصنعه قريباً، مهمة تلك الرحلات. إذ يقترح ماسك أن «بي أف آر» سيحمل مركبة فضاء عملاقة (هي بديل الطائرة) إلى مدار حول الأرض، وبعد ذلك ينفصل الصاروخ عن تلك المركبة التي ستهبط على منصّات عائمة قرب المدن الكبرى. ويذكر أن العام الحالي شهد تحقّق وعد- حلم لشركة «سابيس أكس» عندما استطاع صاروخها «فالكون» إيصال مركبة فضاء إلى مدار حول الأرض، وعاد ليهبط بسلام على منصة عائمة، ما يجعله قابلاً للاستخدام مرّات أخرى.
وأوضح ماسك أيضاً أنّه يأمل بالشروع في بناء الصاروخ «بي أف آر» بعد قرابة 9 شهور. ولشرح فكرته، عرض ماسك شريط فيديو يستقل فيه ركاب قارباً من ميناء نيويورك إلى منصة إطلاق عائمة، ثم يركبون «بي أف آر»، لكنه لا ينقلهم إلى المريخ، بل يحملهم إلى أعالي الغلاف الجوي للأرض. ثم ينفصل الصاروخ عن مركبتهم التي تهبط على منصة عائمة قبالة شنغهاي في الصين، مع إشارة إلى أنّ تلك الرحلة المتخيّلة لا تستغرق سوى 39 دقيقة. وقدّر ماسك سعة المركبة الصاروخيّة بما يتراوح بين 80 و200 راكب.
بين كوبا وكوريا الشماليّة
يقدم أسلوب السفر الذي يقترحه ماسك أسرع وسيلة تنقل عرفها البشر على الإطلاق بين مدن الأرض. إذ تصل أقصى سرعة للمركبة المقترحة إلى قرابة 29 ألف كيلومتر في الساعة، ما يفوق سرعة الصوت (يسمّى «ماك» ويساوي 1234.8 كيلومتر في الساعة) بقرابة 23.5 ضعف!
ربما يتوجّب على ماسك التأمّل في ملف الكونغرس في مشاريع السفر جوّاً بسرعات فائقة، قبل المضي في مشاريعه. ولعلها مفارقة أن تظهر مبادرة ماسك في ظل أزمة صواريخ كوريا الشماليّة. إذ برزت فكرة الطائرات الأسرع من الصوت للمرّة الأولى أميركيّاً في العام 1961، إبّان ولاية الرئيس جون كينيدي، تحت تأثير «أزمة الصواريخ» الشهيرة في كوبا. وآنذاك، تولّت شركة «لوكهيد مارتن» صنع طائرة تجريبيّة حلّقت بسرعة 3.4 ماك، عُرِفَت باسم «العصفور الأسود». وكانت تلك بداية برنامج «النقل بأسرع من الصوت» أو الـ(«سوبر سونيك») Super Sonic. وفي العام 1966، تحطّمت إحدى طائرات البرنامج أثناء تحليق تجريبي، فنقل البرنامج رهانه إلى شركة «بوينغ».
وفي كانون الأول (ديسمبر) 1969، وقّع الرئيس ريتشارد نيكسون برنامج «النقل بأسرع من الصوت» وموازنته. وبذا، دخلت «بوينغ» في منافسة علميّة شرسة مع طائرات «سوبر سونك» أخرى كالـ «كونكورد» و «توبوليف تي يو 144» tupolev tu 144 اللتين كانتا قيد الإنشاء في أوروبا. وآنذاك، أوضحت «بوينغ» في أحد منشوراتها، أن «ثمة فارقاً ضخماً بين مركبة الـ «إس إس تي» الأميركية، وبين نظيرتيها الفرنسية- البريطانية والروسية. فقد صنعت الطائرات غير الأميركية من الألمونيوم، كما كانت سرعتهما 2ماك للتوبوليف و2,2 ماك للكونكورد، بينما ستمتلك الـ «بوينغ 2707- 300» Boeing 2707- 300 القدرة على الطيران بسرعة 3 ماك»! وعلى رغم الاقتدار التقني لـ «بوينغ»، لم يسر برنامجها إلى خواتيمه. إذ ظهرت أدلة علميّة على حدوث أضرار بيئيّة من طائرات الـ «سوبر سونيك» التجاريّة، فأوقف الكونغرس تمويل برنامج «النقل بأسرع من الصوت» كليّاً.
هناك مفارقة مأســويّة أخرى أن «تي يو – 144» تحطمّت في رحلة استعراضيّة في «معرض باريس للطيران» في 1973، كما تحطّم نموذج متطوّر منها في 1978، فأخـــرجت مـــن رحلات نقل الركاب، وتقاعدت نهائيّاً في 1983. ومثّل الأمر نهاية الرحلات التجاريّة لنقل الركّاب بأسرع من الصوت. وأعادت وعود ماسك عن نقل الركاب بالصواريخ، أحلاماً طال الظنّ بأنها تلاشت.
صراع على السرعة بين العسكري والمدني
في أحد سجلاّتها، وصفت شركة «بوينغ» طائرتها الـ «سوبر سونيك» التي لم تحلّق فعليّاً، بالكلمات التالية: «تتمتع بهيكل رفيع وطويل له مواصفات عالية في الديناميكيّات الهوائيّة، يعزّزه جناح مثلث منساب إلى الخلف، وذيل تقليدي. وتأتيها قوة الدفع من أربعة محركات نفّاثة «تيربو»، من صنع شركة «جنرال إلكتريك». ووُضِع كل محرك في حجيرة خاصة، فتوزّعت المحرّكات على الطرفين البعيدين في الجناحين. بُنيت المركبة كلها من معدن الـ «تيتانيوم» الصلد. وتستطيع الصمود في وجه الحرارة العالية عند تحليقها بسرعة 3 ماك».
ورأى المفكّر الأميركي بول فيريليو (توفي في صيف 2017)، أن السبب وراء إلغاء الكونغرس برنامج الـ «سوبر سونيك» لا شأن له بالبيئة. ونسبه إلى أنّ الأميركيين لم يتقبلوا فكرة صُنع طائرات نقل مدنيّة تستطيع الطيران أسرع من النفّاثات العسكريّة. وأعرب فيريليو الذي تخصّص في التفكير فلسفيّاً في التكنولوجيا، عن اعتقاده بأن ذلك كان ليعني «انتقال السرعة من كونها ضرورة عسكرياً إلى اعتبارها ضرباً من الرفاهية مدنياً».
وثمة ما يبرر القول إن ما ذهب فيريليو إليه لا يخلو من الدقّة، ولو نسبيّاً. يظهر ذلك في ملاحظات الطيّار البريطاني جوك لويل، الذي خدم لأطول مدة على «لكونكورد» عما لاحظه عند مجموعة من طيّاري سلاح الجو الأميركي. ووفق لويل: «جاءت المرّة الأولى التي تثبتُ فيها من نجاح الكونكورد، عند مشاركتي الأولى في «معرض تورنتو للطيران» في كندا. هناك، قابلتُ مجموعة من طيّاري «العصفور الأسود» المخصّصة للتجسّس. وأخبروني أنهم اعتادوا الطيران للتصوير من ارتفاع 60 ألف قدم فوق كوبا، مرتدين بدلات الفضاء. وذات يوم، طلب منهم مراقب الملاحة الجوية التحرّك مسافة 20 ميلاً إلى اليمين، فسألوه عن السبب. وردّ موضحاً أن مركبة جوية تمرّ قربهم، آتية من كاراكاس. وأجابوه بأنهم ينظرون إليها الآن، وأنها طائرة كونكورد فرنسيّة، عبرت قربهم حاملة مئة راكب يرتدون قمصاناً خفيفة ويشربون الشمبانيا، بينما هم مضطرون إلى ارتداء بدلات الفضاء».
صحيفة الحياة اللندنية