صورة الأم في الرواية والمسرح
عند ذكر الأمومة، يتبادر إلى أذهاننا الحمل ورعاية الطفولة، والتربية والتعليم، والمتابعة. وذلك ما قرأناه في ثلاثية نجيب محفوظ، بين القصرين، حول شخصية السيدة أمـينة زوجة الرجل الدكتاتور سي سيد.
وفي اعتقادي أن السيدة أمينة كانت تعرف أن زوجها وإن كان تاجراً قوياً، ورجلاً وطنياً، فهو غير سوي السلوك الاجتماعي، بانحرافاته نحو الملاهي من جهة، ومن جهة أخرى بتعامله القاسي معها، وهي التي لم تكن غبية ولا ضعيفة، ولا بشعة، أمام جبروت زوجها، بصفته عمود البيت، ولكن الأمومة التي تسري في شرايينها، هي التي تجعلها تتابع القيام بدور الأم الأمينة، والزوجة الخاضعة لرغبات الزوج، ليس لسبب سوى أن هذا الخضوع للزوج، رغم قسوته، هو الذي يحفظ البيت بعيداً عن تفسخ الطلاق، فلا تضيع الأسرة، ولا ينحرف الأولاد ولا البنات. ولهذا فأنا أُكبر هذه الأم، وأقدِّر بُعد نظرها في خلق جيل من الأطفال الشباب الرجال، غير المنحرفين مثل أبيهم.
هنا كانت الأم مدرسة. وهذه الأمومة تعد لصالح أدب نجيب محفوظ الذي وضّح لنا العمق الفكري للمرأة، فهي ليست ناقصة عقل ودين كما يدّعي الجهلة. إنما متحملة لمشاقّ مسؤولية عش الزوجية، ومتابعة النشء الجديد.
وكما ذكرت الروائية فاطمة العلي في مجلة “دبي الثقافية” (التي للأسف الشديد أعدموها هذا الشهر)، أن بعض غواصي اللؤلؤ الخليجيين كانوا يموتون في قيعان بحر الخليج، بحثاً عن اللؤلؤ، بينما تبقى الزوجة تتحمل مسؤولية أطفالها بعد وفاة الزوج.
ولكنني أقول هنا: “صحيح أن المرأة مناضلة جداً إذ تتحمل المسؤولية بعد استشهاد زوجها دفاعاً عن الوطن، أو سعياً وراء لقمة العيش. ولكن الرجل يا جماعة يُستشهد ويموت، بينما هي تبقى تعيش وتستمتع بحياتها ولو نسبياً، وتقبض المعاش بالزيادة. وذلك ما نقرأه في رواية “أصوات الليل” لمحمد البساطي حول شخصية الأم، أرملة الشهيد:
“العربة مكدسة بهن.. يلبسن الأسود.. أمس الأول صرفن المعاش بالزيادة.. تتساءل أرملة شهيد قائلة: “هو صحيح يا خالة أنه طلع قانون جديد يسمح للواحدة تتزوج وتاخذ المعاش؟”
وتعليقي على ذلك، هو، أن زوجها مات وشبع موتاً، ولكنها لا تزال تعيش، وتقبض المعاش بالزيادة، وتنتظر الزواج من غيره.
فمن هو الأوفر حظاً في هذه الحياة، الرجل أم المرأة؟
وإذا قرأتم عن الأم في رواية “عذبة” للعبد لله صبحي فحماوي، وفيها ينفي السارد مقولة “إن الفاقد لا يعطي”، إذ أن الأم الفاقدة للأمن والأمان، إذ استُشهد زوجها ببنادق الاحتلال الصهيوني لفلسطين، تهرب مع أطفالها خائفة مرتعبة بين الغابات والوديان، بينما هي تغني لهم، وتُضحكهم، لتشعرهم بالأمان، بينما هي في منتهى الرعب من الأعداء المنزرعين في كل زاوية من الطرقات، وهم متربصون لقتل أي فلسطيني يمر بطريقهم.
وتشاهد في رواية” عذبة ” أيضاً الأم التي قُتلت على طريق الشتات، بأسلحة المحتلين الغرباء عن فلسطين، وبرد جسدها، بينما بقي رضيعها يرضع رضعته الأخيرة وهو متقرفص على جسدها الذي برد وهي ممددة على الأرض.
لاحظوا صورة الأمومة المعطاءة للحليب، مصدر حياة الأطفال، حتى بعد أن تموت، ويبرد جسدها.
ولو انتقلنا إلى المسرح، فلقد تأثرتُ بمسرحية “دائرة الطباشير القوقازية” للألماني بريخت، والتي يعزو فيها الأمومة لمن تربي، وليست للأم التي ولدت.. خاصة في هذه السنوات العجاف، إذ نجد أن بعض الخادمات هن اللواتي يربين الأطفال، وليست أمهاتهم.
وفي مسرحية بريخت هذه، نجد أن الأم قد هربت أثناء الحرب، وتركت رضيعها للخادمة التي رعت الطفل، وحمته، وربته، وعندما عادت الأم بعد ست سنوات، طالبت بابنها، فرفضت الخادمة إعطاءها إياه، فاشتكت الأم للقاضي الذي أمر بوضع الطفل المتنازع عليه داخل دائرة طباشير، وطلب من كل امرأة أن تشده من أحد ذراعيه، قائلاً:
“إن من تشده لجانبها فهو لها.” فشدته الأم بقوة، بينما تركت الخادمة ذراعه خوفاً من تمزقها.. ولكن القاضي الذكي، خلف وعده، فأعطى الطفل للخادمة صاحبة التربية والرعاية والحماية أثناء الحرب، وحرم الأم التي هربت منه، وتركته في سنوات الرعب.
وفي كل الظروف نحن نقدس دور الأم… ولكن ليست أم دائرة الطباشير القوقازية التي هربت وتركت وليدها للخادمة، بل الأم التي تحملت وصبرت مثل أمينة، سي السيد، والأم الفلسطينية التي بقيت تعطي وتحتضن رضيعها المستمر بالرضاعة، رغم أنها قد سقطت شهيدة منذ مدة، وبرد جسدها.
ميدل ايست أونلاين