ضِدّ العُنف
لا يدهشني العنف ، الرقّةُ هي التي تُدهشني ، والتسامح ، والمحبّة والإيثار هي المدهشات بحقّ ، فأن أرى رجلاً يشتعلُ غضباٍ ، ويُشهر سلاحاً، أو ينقضّ على خصمٍ لأسبابٍ يمكن تجاوزها مشهد مألوف في حين رؤية آخر يعتدى عليه وهو قادر على ردّ العدوان بأشدّ منه يتماسك، ويبتسم ويصفح هو المشهد الذي تذهلني روعته ورفعته.
الانتقام لدى أغلب الناس هو المبدأ المأخوذ به لديهم حتى لكأنّ الثأر غريزة أصلية، فهل الشرّ هو الأصل في الطبيعة البشرية أم الخير؟ ماالذي يدفع مثلاً جلّاداً مثل “العسكري الأسود” في أقصوصة للكاتب المعروف “يوسف إدريس” إلى المبالغة في تنفيذ الأوامر بدلاً من تخفيف أذاها حتى لكأن ذلك الجلّاد كان يجد لذّةً في تعذيب السجناء .. أهو الجهل أم هي الطبيعة البشرية ؟!
حين أقول إنّ العنف لايدهشني، فليس معنى هذا أنني موافق عليه وإنما لأننا تعوّدنا على مشاهدة مظاهره حولنا مع أن هناك فريقاً من البشر يقاوم هذا العنف بإرادة الخير الكامنة في أعماقه فأيّ من هؤلاء هو الإنسان الطبيعي، من يستخدم العنف دوماً أم هو مَن لا يستخدمه إلّا مضطراً في دفاعه عن نفسه؟
أعترفُ هنا بدوري أن الميل للعنف أصابني ببعض أعراضه حين كنت غضوباً في عهد شبابي، ثم نضجت مع تراكم التجارب وفِعل الزمن فصرتُ أقدر على كبح جماح الوحش الكامن في أعماقي كماهو لدى معظم البشر، فإذا اشتعلت مراجلي توقّفتُ عن الحركة حسب تدريب مقصود، وأطرقت برأسي أمداً دونما كلام وحركت عضلات وجهي بهدف اقتناص ابتسامةٍ ما فإذا بي شيئاً فشيئاً أٌحِسّ أن ناري تخبو وقد هبّت عليها نسائم الرِقّة فذُرَّت فوقها قطرات من ندى التسامح. وحين أعجز أحياناً عن ذلك أجدني متوجعّاً أكثر من الشخص الذي ثِرت عليه، ويالدهشتي حينها إذْ أراني مرتاحاً كمن تخلّص من عبءٍ باهظ كان يؤوده. وهل أبلغ في هذا السياق من الحديث الشريف القائل: “ليس الشديدُ بالصُرعة- أي القادر على صرع خصومه- وإنما الشديد من يملك نفسه ساعة الغضب”.
أنظر إذن إلى وجهك في المرآة حين تغضب يُرعبك المنظر فتميل إلى الهدوء، فإذا لم تكن المرآة قريبةً فتخيّلها بقدرةٍ من ثقافتك وتربيتك ونزعة التعقّل السامي التي وهبنا إيّاها خالقنا ليميزنا عن المخلوقات المتوحشة ، وتذكّر حقيقةً أساسية نعرفها جميعاً ولا نعمل بها كثيراً وهي أنّ العنف هو تصرّف يعبّر عن خسارةٍ للروح مهما كانت مكاسب الجسد وفيرةً من خلال استخدامه. وهي خسارة قد لا تبدو للعيان مباشرةً إلّا أنّها خسارةٌ مريعةٌ بحقّ وأنّه لابدّ من أن ندرك مغزاها ولو متأخرين ، وأن نحني ظهورنا تحت ثِقلها و تتفحّمَ قلوبنا بصاعقتها وعندئذٍ لاتَنفع ساعة الندم.