طرد دواوين محمود درويش من «معرض الكتاب»… فتلقفتها «ساحات الجهاد»
في شهر آذار (مارس) الماضي، تفاجأ الوسط الثقافي العربي، ولاسيما السعودي، بما طالعتهم به الصحف المحلية من خبر «طرد» المجموعة الكاملة للشاعر الفلسطيني محمود درويش من أروقة معرض الكتاب الدولي بالرياض في اليوم الذي يصادف ميلاد الشاعر، من مجموعة من المحتسبين الذي رأوا فيما هو مكتوب «تعدي على الله ورسوله»، ملخصين ما ورد في أكثر من ألف صفحة، وتتضمن 33 مجموعة شعرية، بأنه «كفر وزندقة». وأحدث ذلك الخبر ضجة بين أوساط المهتمين، ودفع بعض المنظمات والروابط الأدبية العربية إلى التعبير عن انزعاجها في بيانات متعددة، ترفض فيها أن يُهان شاعر بحجم وقامة درويش في أحد أهم معارض الكتاب العربية.
بين دفتي ذلك المجلد، الذي تحول سحبه إلى مادة ساخنة للتجاذب الفكري بين التيارات السعودية، كانت تقبع قصيدة «يحكون في بلادي» ضمن ديوان «أوراق الزيتون» الصادر عام 1964، والتي شاء لها القدر أن تطرد من محفل ثقافي، لتتلقفها «ساحات الجهاد» ليصدح بها أحد أبرز المنشدين الجهاديين وهو أبو هاجر الحضرمي، لتتحول تلك القصيدة/الأنشودة إلى أيقونة يقصدها «طلاب الشهادة» لترنم بها، ولترافق عدد من الأفلام والمقاطع المصحوبة بلقطات التفجير والقتل المأخوذة من وحي الواقع العربي المضطرب.
وهنا يأتي السؤال: لماذا طرد إبداع محمود درويش، وغيره الشعراء والأدباء، من محافل الثقافة والفكر لتتلقفها «ساحات الجهاد»؟ ولأي سبب طرده سلفيٌ من الفضاء المفتوح ودفعه إلى أقبية سلفية أخرى مغلقة؟ وكيف تحولت أشعار «الزنادقة» محل ترحيب تارة، ورفض ومصادرة تارة أخرى؟.
من العروبة… إلى الإسلام!
في ظل «التوهج» القومي الذي اجتاح الوطن العربي منذ خمسينات القرن الماضي، صعدت موجة فنية وأدبية مواكبة لها، لتؤدي دور الدعاية والترويج لذلك المشروع، ومنها صدحت أهم القصائد والتي تحولت لاحقاً إلى أغانٍ ذائعة الصيت، منها «لبيك علم العروبة» التي صدح بها المخرج والممثل اللبناني محمد سلمان أثناء العدوان الثلاثي عام 1956. كما ذاع صيت قصيدة الشاعر نزار قباني في رثاء الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر «رفيق صلاح الدين هل لك عودة؟»، وغيرها من القصائد والأعمال الفنية. وبعد عقود حدثت المفارقة، إذ تحولت «لبيك علم العروبة» إلى «لبيك إسلام البطولة»، وقصيدة نزار قباني إلى «أيا عمر الفاروق هل لك عودة؟».
ويرى الكاتب السعودي أحمد الجنديل أن «الإسلاميين لم يبدعوا كثيراً في المجال الفني والشعري، بل كانوا محاربين له حتى فترة قريبة، لذا أصبحوا متطفلين على إبداعات غيرهم، وتحديداً اليسار، لما يملكه تراثهم من أعمال نضالية مميزة»، مستشهداً بمجموعة من الأعمال «إذ نجد مثلاً، أن نشيد «خندقي قبري وقبري خندقي» الرائج بين الإسلاميين هو سرقة للحن «يا زمان الوصل في الأندلس». وأيضاً نشيد «أمتي أمتي» هو سرقة للحن «موطني موطني»، وكما هو واضح فقد تم تغيير كلمة «موطني» لتصبح «أمتي» وتم تغيير «سوف نبقى هنا حتى يحلو النغم» إلى «سوف نبقى هناك كي يزول الصنم»، وكل ذلك من أجل تتناسب الكلمات مع الآيديولوجيا التي يتبنونها في محاربة مفهوم الوطن».
ويشير المشارك في تأليف كتاب «في معنى العروبة» لـ«الحياة» أن الداعي لتسخير هذا النصوص «مشروط بسلطتهم على النص، فحينما يكون النص تحت سلطتهم سيكون بمقدورهم تقرير إذا ما كان متوافقاً أو داعماً لمجموع القيم التي يتبنونها وينصِّبون أنفسهم حراساً عليها، وبين تلك النصوص التي تكون مضادة ومحاربة لهذه القيم»، لافتاً إلى أن «هذه السلطة على تراث الشعراء والملحنين ستخول لهم أن يكونوا انتقائيين فيمررون النص الذي يناسبهم ويهلك النص الذي لا يناسبهم تحت مقصلة حماية قيم الإسلام»، مضيفاً: «إنهم لا يسمحون بمرور النصوص فقط، لكنهم يعيدون توجيهها ويعيدون كتابتها لتوافق منهجهم الفكري. وهذا يعطي النصوص فعاليتها التي يرجونها، ويتخلصون من المقاطع والفقرات التي لا تناسبهم».
أزمة نص
اعتبر الروائي التونسي كمال الرياحي هذه الظاهرة «تعبر فعلياً عن وجود أزمة نص في الوطن العربي»، مشيراً إلى أن ما يجري «تطويق لحرية نص الأدبي بشهوة الإفتاء»، مستشهداً بما جرى في معرض الكتاب الدولي بالرياض «إذ تم سحب المجموعة الكاملة لأحد أهم الشعراء العرب، وهو محمود درويش، بعد أن قفز إلى هذا الميدان من هو ليس أهلاً له، وقام مباشرة بتجريم الاستعارة وتحويلها إلى خطيئة وكفر، بينما العمل الإبداعي موكول تأويله إلى المختصين في تفسيره وقراءة دلالته، بغية البحث عن جمالياته ومكنوناته، وليس من خلال تطويقه بالتفسيرات الأخلاقية التي باتت تهدد الإبداع العربي»، موضحاً في حديث مع «الحياة» أن هناك «تصدعاً في المؤسسة الرسمية، وهي التي أفرزت حالة من التذبذب والاعتداء عند المسلحين وتعاملهم مع هذا النصوص بالتحديد، إذ يتم رفضها مرة والحط من قيمتها الفنية والمعنوية، وتقديسها واستخدامها في الدعاية الإعلامية لهم مرة أخرى»، مشبهاً هذا الأمر «في نظرة هذه المجموعات إلى المرأة، فهي مقدسة ويحرصون على تطويقها بالسدود والحصون، ومع ذلك هم يمارسون عليها أشد أنواع الإذلال من خلال مفهوم السبي والبيع والشراء في السوق كما هو حاصل الآن».
وذكر أن تحويل أشعار محمود درويش إلى أناشيد حماسية في «ساحات الجهاد» دليل على «وجود ارتباك وعدم توازن نفسي عند هذه المجموعات؛ لبحثهم عن هوية مفقودة، إذ إن الساحات باتت ساحة للعولمة، تهدف من خلالها إلى تذويب الهويات المتقاطرة من دول العالم لصنع هوية خاصة بهذا المقاتل، من خلال سلبه مكوناته الهوياتية كافة، ليبقى مقاتلاً مجرداً يهرول خلف أمر ميتافيزيقي مقتنع بصحته، وبعد ذلك يأتي الدور لصناعة نظرته للعالم والأشياء الحية من حوله».
الفضاء المفتوح
في الوقت الذي كانت الأعمال الكاملة لمحمود درويش معروضة للمتجولين في معرض الكتاب الدولي بالرياض، وفي غمضة عين تم الهجوم عليها وطردها بتهم الكفر والزندقة، كانت هناك نسخ منها ملطخة بالتراب بين جنبات إحدى خنادق تنظيم «القاعدة» أو «الدولة الإسلامية» (داعش)، ويقوم المشرف عليها بالفرز والانتقاء ليصدح بها أحدهم لشحذ همم إخوانه المقاتلين.
ويفسر الدكتور محمد القحطاني لـ«الحياة» هذه الظاهرة بأنها «تجسيد واضح للرغبة السلطوية في ممارسة الوصاية على المتلقي، من خلال السماح له بالاطلاع على نصوص معينة، شريطة أن تكون تتماهى مع فكره»، مشيراً إلى أن «هناك حرصاً من هذه المجموعات الاحتسابية على أن تطبخ الأمور في غرف مظلة لا يحضرها إلا من يطلق عليهم «أهل حل وعقد» في كل مجموعة، وهم من يقررون ويجيزون ويرفضون، فمثل هذه الأجواء هي التي تناسبهم، بينما الفضاء المفتوح والنقاش الحر يخنقهم».
وعن وجود تناقض بين رفض أبيات شعراء بعينهم، ثم إنشادها في «ساحات الجهاد» لاحقاً، قال: «قد يبدو ذلك للمتلقي للوهلة الأولى، ولكن من يعرف طبيعة هذه الجماعات سيدرك، إضافة إلى هيمنتها على النص وممارسة فلترة قبل وصولها إلى المتلقي، إلا أنها لا تمانع من الاستفادة من أي نص وتوظيفه في خدمتها من خلال انتقائية مكشوفة لدى المراقب المطلع، وليس لدى الجماهير العربية التي بسبب أحداث سياسية واقتصادية وثقافية انقلب مزاجها العام إلى اللجوء إلى كهوف التشدد الحقيقة أو المعنوية، طمعاً في الاطمئنان والحصول على إجابة تحاكي تفكير رغبوي يطمحون إليه، لا يجدونه بين جنبات روافدهم وخياراتهم المطروحة أمامهم في فضاء ضبابي لم ينعم بالحرية حتى الآن».
وأوضح أستاذ مساعد بقسم الاتصال والإعلام في جامعة الملك فيصل الدكتور لطفي الزيادي أن «للأناشيد أثراً ووقعاً حماسياً على مستمعها، فهي تستنهض فيه طاقة إيجابية؛ كونها تتمحور حول قيم متعلقة بالرموز الدينية التاريخية ومفاهيم حيوية في السياق الثقافي العربي، كالرجولة والشهامة والشجاعة، وكل ذلك يتم الاشتغال عليه عبر أدوات سايكيولوجية عميقة». ولفت في تصريح إلى «الحياة» أن المنع «وإغلاق الفضاء المفتوح بشكل عام، يكشف عن أزمة معرفية وبحثية لدى من يتبنى منهج مقاومة كل أمر يختلف معه، بينما الأفضل أن يتم مقابلة كل اختلاف بالتحليل والتفسير، لا التعتيم والتضليل وممارسة سلطة الحجب، بخاصة في ظل وسائل التواصل والتقنية الحديثة، التي تقوم على إجهاض هذا الرغبة وتجعل النص متاحاً للتداول والنشر بكبسة زر لا أكثر». واتفق الروائي التونسي كمال الرياحي مع أخصائي اجتماعي على وجود نزعة عند الأدباء والمثقفين لممارسة العنف والقتل، وتحويلها إلى واقع بعد أن كانت حبيسة أعمالهم الفنية. إذ يقول الرياحي لـ«الحياة» إن «المسلحين حرصوا على المزاوجة ما بين صور القتل والتعذيب وفنون الأدب، كالإنشاد مثلاً، وهو ما يستدعي دراسة نفسية عميقة، لفهم سبب المزج بين ما هو مؤثر بصرياً وبين تفريغ الشحنات النفسية والعاطفية؛ لتعبير عن الغضب»، لافتاً إلى أن «النزعة نحو التطرف ومزجة بالفن والأدب ليست حكراً على فئة أو مجموعة، بل نجد أن هناك مجموعة من الفنانين الذي التحقوا، سواء أكانوا عرباً أم أجانب بساحات الجهاد والقتال، والذي لا نستبعد أن تكون لديهم رغبة في ممارسة العنف بوصفه نوعاً من التعبير عن الذات، وتحقيق طموح نفسي مستوطن في عقلهم الباطن». واستشهد الرياحي بالفيلسوف الفرنسي جورج بطاي والرسام الإسباني سلفادور دالي «إذ تزخر أعمالهما بكمية هائلة من السادية، إضافة إلى المنتمين كافة إلى المدارس السيريالية، التي تحرص على إظهار ما في مكونات النفس البشرية، وهنا مكمن الخطورة في أن يتحول الفن من الجنون الفني إلى مستوى التحقيق الواقعي».
وأوضح الأخصائي الاجتماعي فهد المقحم لـ«الحياة» أن «الأعمال الأدبية والفنية وإن كانت نسجاً من خيال يحاول محاكاة الواقع عبر المجاز، إلا أن ذلك لا يمنع من دراسة هذه النصوص نفسياً، ومحاولة معرفة الدافع لتكرار مجموعة من الألفاظ والأفكار»، مشيراً إلى أن «هناك مجموعة من الفنانين والأدباء تزخر أعمالهم بإبداء الرغبة في ممارسة العنف، وعندما سنحت لهم الفرصة مارسوا عنفهم واقعاً، أما بشكل شخصي أو عبر الالتحاق بجماعات وتنظيمات»، منوهاً إلى أن «هناك أدباء مصابين بأمراض وعقد نفسية تتكشف للدارس من خلال إبداعهم».
«الثقافة والإعلام» تتوعد بمقاضاة «محتسبين».. منذ 8 أشهر
صرحت وزارة الثقافة والإعلام بعد حادثة سحب الأعمال الكاملة لمحمود درويش من المعرض الدولي للكتاب بالرياض بأنها ستقوم بمقاضاة المحتسبين الذي قاموا بطلب سحب الكتب، إضافة إلى كتب أخرى، معتبرين إياهم «مثيري زوبعة». ونشر هذا التصريح في صحف عربية، رداً على بيان رابطة الكتاب الأردنيين، الذي اتهم السعودية بمنع دواوين درويش. وعلى رغم مرور أكثر من 8 أشهر على الحادثة، وقرب افتتاح معرض الكتاب للعام المقبل، إلا أنه لم يصدر أي تصريح رسمي من الوزارة حول ما وصلت إليه مقاضاة المحتسبين. و«الحياة» تواصلت مع المتحدث باسم وزارة الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز الملحم إلا أنها لم تتلق منه رداً.
صحيفة الحياة اللندنية