عاشقة من أفريقية’ .. انتصار الذات النسوية
الكاتبة التونسية مها الجويني ترى أن المرأة ليست حبيسة قيد الرجل وتصوراته بل إن الرجل كذلك هو حبيس هذا القيد ومظلوم أيضا.
عن دار أدال للدراسات الثقافية والنشر، صدرت مؤخرًا المجموعة القصصية للكاتبة والناشطة الحقوقية التونسية مها الجويني، والمجموعة التي ضمت 12 قصة متنوعة تسير في إطار النضال النسوي التي تخوضه المرأة عموماً ضد الهيمنة الذكورية بنزعتها الفردية وحضورها الأبوي على المرأة، أو الهيمنة الذكورية بصفة المجتمع والتعاليم والعادات المنتقصة لحضور المرأة عمومًا وممكناتها وقدراتها البشرية والحياتية.
هذه المرة تأتي الصرخة هذه من إفريقيا، وربما أن المرأة في هذه القارة أقل وطأة من قريناتها في مناطق أخرى تحديدًا في العالم العربي والدول المحافظة فيه، إلا أنه يبدو أن المرأة في العالم بالعموم تقع تحت طائلة الانتقاص والسيطرة وربما الاحتقار أو التوظيف المخل لدورها تبعًا لحاجة الرجل منها لا أكثر.ولعل القاسم المشترك في كل ذلك أن جسد المرأة هو النسق الأول الذي يعقد الرجل من خلاله تصوراته المجملة عن المرأة، وتقديراته الداخلية، بمعنى أن المرأة في استعدادات الرجل عموما هي الجسد والمتعة والخدمة قبل العقل والفكرة والدور والأسلوب، وتبدو هذه المعضلة التي تشكل هذا الاشتباك الوجودي في علاقة الرجل بالمرأة.
لقد غذت هذا التصور والبناء الذهني؛ كثرة التعاليم والتوصيات والعادات والموروثات التي ترمز بشكل دائم وكثيف للتحذير من علاقة الرجل بالمرأة أو العكس، والتركيز على علاقة الجسد بينهما وخطيئاته، فبنت هذه التعاليم كل التصورات والعراقيل الثقافية التي رسخت في هذا الصندوق. وبات من الصعب إخراج هذه التشكلات الفكرية أبعد من هذه اللازمة الراسخة في الذهن البشري.
كثافة هذا النسق واستبساله في هذه النقطة تحديدًا خلق هذا التشوه التاريخي بين الرجل والمرأة، والجدلية الدائمة حولهما وعطلت نمية كبيرة يمكن أن تنتج إذا ما تم تفكيك علاقة الرجل بالمرأة بتصور أكثر موضوعية يضع الجسد في إطاره المحدود، ويضع العقل والإمكانات البشرية في إطارها ايضا. ووضع التشارك الحضاري، وطبيعة الوجود الحياتي لكليهما، والدور الحضاري في مكانه أيضا. ولربما حينها نكون قد وجدنا عالما مختلفا تكون المرأة فيه منطلقة والرجل كذلك، وقد تحررا من قيد هذه التصورات الأضيق من حقيقتهما.
ولعل المرأة ليست حبيسة قيد الرجل وتصوراته وفقا للواقع المفروض عليها وحسب، بل إن الرجل كذلك هو حبيس هذا القيد ومظلوم أيضا.. كيف؟ لأنه حرم نفسه من إسناد المرأة وحرم نفسه من قدراتها ومشاركتها، وحرم نفسه من واقع مختلف وحياة أكثر نضوجا واستمتاعا في حال كان قد حرر نفسه من حصر ذهنه في جسد المرأة وحسب. فالمرأة أكثر من الجسد وأعلى من الأنثى.
هذه هي الثيمة التي تشتغل عليها المجموعة القصصية بطريق خفي، وبشكل قريب من المباشر. تفكيك العلاقة المشتبكة بين تصورات الرجل وتصورات المرأة، هذا ما تحاوله هذه المجموعة لتنتصر للمرأة عمومًا.. للمرأة السمراء تحديدا. وتشتغل على خاصية الجمال بشكل مبهم وعميق، إذ تقدم المرأة على أنها ماهرة ومتفوقة وناجحة، وليس الجمال هو الملمح الأول لها، وهذه رسالة دلالية في المجموعة القصصية للمرأة ذاتها قبل الرجل أيضا.
في المجموعة تنويع فضائي أنيق، تنتقل القصص بشخصياتها بين دول إفريقية عربية وإفريقية قريبة من العربية، لتكون مجالها السردي، فضاؤها المكاني وفضاؤها الدلالي، فما تزال الدول العربية في إفريقيا مرتبطة بالقيم العربية أكثر من عمقها الجغرافي. وربما انتجت هذه الدول قيمًا لا تعدو كونها محاربة للمرأة بالاعتماد والمزج بين الخرافة الإفريقية وأساطيرها، وبين اشكاليات التدين العربي ومظهرياته، فأنتجت اضطهادًا متشكلاً نحو المرأة.
تبدو مها الجويني الكاتبة المثابرة لهذه المجموعة، ملتحمة مع نصها السردي بقدرات فنية مبتكرة وبراعات سردية نالت كثيرًا من الجرأة في الوصف والسرد، وكشف الواقع المحيط بالمرأة واقتربت كثيرًا من المسكوت عنه، وحاولت تشريح النظرة الصلبة والرؤية المتحجرة بين الرجل والمرأة بقدرة سردية ممتعة وهادفة.
لم تكتفِ المجموعة القصصية بالبناء على هذه القيمة، وتفكيكها بطريقة موضوعية، بل قدمت صوت المرأة الإفريقية العربية تجاه قضايا المجتمع والسياسة، تجاه العنصرية، واحتقار اللون والبشرة، تجاه التمايز واضطهاد الأقليات، وحاولت التنبيه بالحقوق للرجل والمرأة على السواء؛ الحقوق العامة. ولامست كثيراً من القضايا السياسية وأساليب الحكم وقيم المجتمع في تونس تحديدًا، موطن الكاتبة، وفي الدول العربية الإفريقية بشكل مجمل.
هذه المجموعة تقدم صوتًا نسويًا مقاومًا، وباحثا عن الحق والعدالة في النفوس قبل القوانين، تقدم قراءة مختلفة لما يجب أن تنبني عليه علاقة الرجل بالمرأة. قد تكون المجموعة ساخطة على الرجل، لكنها أرادت الصورة المثالية منه.
وفي سبيل إثبات المرأة بوصفها قيمة وجودية وكيانًا ملهمًا ومهمًا للحياة أبعد من التصورات الضيقة؛ لم تخرج المجموعة القصصية عن الواقعية. وقدمت المرأة عاشقة وغاوية، لكنها بذلك لا تريد الاقتراب من الطبيعة البشرية لإثبات ضعفها واثبات أنوثتها، بقدر ما هو طرح يقدم المرأة بوصفها نداً للرجل، تحب أيضا وتبادر به وتعشق أيضا وتبرع به، لكنها لا تضع نفسها في هذا الإطار وحسب. هي قادرة على التمييز بين الرجال، والتميز في الحياة، تريد أن تقول إنها كانت أكثر تحررًا من الرجل، لأنها لا تنحصر هنا، ولا تضع نفسها هناك. المرأة قادرة على الحكم النفسي والحكم المادي أيضًا. المرأة قادرة على أن تقوم بدورها الأنثوي والبشري أيضًا. المرأة عاشقة، والمرأة ناجحة، والمرأة صاخبة، والمرأة متقدمة.
ميدل ايست أونلاين