“عايدة” و”نهضة مصر” يصنعان مجد محمود مختار
لم يكن الطفل الذي يصنع تماثيله الطينية على شاطئ الترعة في قريته الصغيرة، يدرك أنه سيصبح نحاتا مشهورا، في بلده وبلدان أخرى ترى في فنه وما قدمه ريادة تخصه وحده في كل ما أبدع، إنه المثال محمود مختار (ولد في 10 مايو/آيار سنة 1891 وتوفي في 17 مارس/آذار 1934).
في سنة 1902، جاء مختار إلى القاهرة وعاش في أحيائها القديمة، واندمج في هذه البيئة الشعبية الصميمة تحوطه في هذا الحي روائع القاهرة الإسلامية وفنونها العريقة وتبهره مآذنها وجوامعها، وتعلم من جو الحي أكثر مما تعلم من مدارس الفن التشكيلي، حيث عاش يرسم انعكاس هذا الجو على الورق دون أن يدرك من أمر مصيره شيئا فقد كان يعلم أنه غريب عن القاهرة، وربما لن يتمكن من شق طريقه في عوالمها الصاخبة.
حين افتتحت مدرسة الفنون الجميلة بحي درب الجماميز سنة 1908، لم يكن يعلم مختار بأمر هذه المدرسة التي كانت على مقربة من منزله حتى أدرك أنها طريق حياته ومستقبله. كذلك أدرك أساتذته أنهم بإزاء موهبة فذة، فأحاطوه بتشجيعهم.
في سنة 1911 سافر إلى باريس، وكان أول الفائزين في مسابقة القبول، ثم لم تمض سنوات حتى يطرق باب معرضها الفني بتمثاله الشهير “عايدة” سنة 1913 فيكون أول أثر فني مصري يعرض في المعارض الخارجية، ولما عاد لمصر أختير ناظراً لمدرسة الفنون الجميلة مكان أستاذه “لابلاني” لكنه رفض برغم إغراء المنصب، مؤكدا أنه مازال في بداية الطريق.
وفي أثناء الحرب العالمية الأولى رشح لتولي منصب مدير متحف جريفين بباريس فقبل هذا المنصب باعتباره خطوة في طريق إعداده ووسيلة تعينه على استكمال تكوينه، ولأنه يرى في دعوته مصدر فخر له ولبلاده، ولكنه ترك المنصب لأنه رأى أنه يصرفه عن رسالته، ولأن فكرة تمثال “نهضة مصر” كانت قد أخذت تستحوذ عليه وتشغل فكره فظل يعمل جاهدا حتى أنجزه، وعندما فتحت المعارض أبوابها حمل تمثاله “نهضة مصر” إلى معرض الفنانين الفرنسيين سنة 1920 فرأى فيه نقاد الفن أول شعاع تنبثق منه نهضة الفن المصري.
وعاد مختار إلى مصر رمزا من رموز النهضة الحديثة، وأثارت عودته في نفس المثقفين والتشكيليين والمهمتين بالحركة الفنية إحساساً بالثقة وبالعزة؛ فتمثاله “نهضة مصر” علامة من علامات الثورة والبعث. وقد أزيح الستار عن تمثال نهضة مصر في سنة 1928 وبذلك كان مختار صاحب دعوة ورائد طريق، باعتبار الفن مصدراً من مصادر الثروة القومية والثقافة الاجتماعية من حيث أثر الفن في الارتفاع بذوق المجتمع، وظل ينادي بوجوب إقامة المدارس الفنية وإنشاء المتاحف وجمعيات الفنون والعناية بالبعثات، وكان حريصاً على أن يوفر للفنان المصري الجو الحر الذي يتيح له أن يعبر بشجاعة عن فنه ورأيه.
واستطاع مختار بشجاعته وصلابة إرادته أن يضع نظرة التقدير الاجتماعي للفنان منذ البدء في مكانها الصحيح، كما استطاع أن يمد الفن التشكيلي إلى كثير من مظاهر الحياة، من خلال الصحيفة والمسرح والمصنع والمبنى الحكومي، وأن يسري بالفن في مسالك الحياة اليومية.
ويرجع الفضل لمختار في إنشاء جهاز مختص بالفنون الجميلة بالدولة، وإليه يرجع فضل بدء البعثات الرسمية في الفن وتخصيص اعتمادات في ميزانية الدولة للفنون، يعود إليه الفضل في تنظيم مدرسة الفنون الجميلة العليا وإنشاء الجمعيات الفنية وإقامة المعارض الدورية، وبرغم إلحاح الظروف في أن يكون مختار على رأس مناصب الفن الرسمية، وإغراء العروض لتولي مناصب فنية في الخارج فإنه كان يؤمن بأن السلطة هي قبر للموهبة الحقيقية، وأن الوظيفة قيد على حرية الفنان فرفضها جميعاً، برغم ما كان يمر بحياته من ظروف صعبة، وآثر أن يكون له سلطة الرأي عن أن يكون له سلطة المركز.
وبالرغم من كثرة شواغله فى الإنشاء والإعداد للحركة الفنية، لم ينصرف عن الإبداع الفني، ولم يقنع بالنجاح الذي أحرزه في معارض باريس. ولم يكتف بما أحاطه من تقدير.. كانت آماله دائماً أكبر من خطاه، وكلما حقق شيئاً ضاعف المسير، وبذلك أقام الدليل على قدرة الفنان المصري على أن يعيش وينتج كأكبر أساتذة الفن دون أن يعتمد على ثروة أو منصب، فقد كان مختار يعيش بالمعاني الباقية من شخصه وبالمثل الذي قدمه كرائد من رواد نهضتنا وبالأعمال الجليلة التي حققها للحركة الفنية والدعائم التي أقامها من أجل الفنانين والمعارك التي خاضها ليمهد لهم الطريق.
وعلى الرغم من أن مختار ظهر بعد أجيال من الصمت الفني، فقد تجمعت في أعماله خلاصة تقاليد مصر، وكان الوريث لحضارتها الفنية، تلقاها فانصهرت في نفسه مع تجارب الفن الحديث، ورغم قصر عمره الفني فقد ترك لنا تراثاً فنيا ضخماً.
ومن أهم أعماله تلك المنحوتات الصغيرة، التي نلمح فيها التطور في موضوعه الأصلي “الفلاحة والجرة”؛ فنراها في أول صورها تنبض بالرشاقة والحركة والعناية بالدقائق والتفاصيل، فتذكرنا بالنحت الفرنسي في الحقبة الأخيرة من القرن التاسع عشر حين كان يصور الجانب الواقعي من حياة الفلاحة بأسلوب يجمع الحيوية والرشاقة، ولكن طول تأمله لفن بلاده أيقظ في نفسه الإحساس بالجمال ونمى عنده مقدرة التحليل والتركيز؛ فتوالت تماثيل الفلاحة والجرة مرة في خطوط منحنية تعبر عن الدلال والليونة كما في تمثال “نحو ماء النيل”. (خدمة وكالة الصحافة العربية)
ميدل إيست أون لاين