عجوز يندب أم عالم يذوب
يسخر منا شبان اليوم حين نمدح أيام زمان ونذم أيامنا الآن فيقولون: تلك هي إمارات الشيخوخة !.. لا .. لقد تغيرت الدنيا كثيراً عما كانت عليه ففي دمشق مثلاً كنا نشرب مياه الفيجة الصافية من حنفيات الشوارع ، وكنا نسبح في بردى، فها هو الماء لم يعد صالحاً للشرب إلا بالتصفية الدقيقة جداً و نهر بردى جفَ وصار مجرى للنفايات. وها هم سكان الأرض يتكاثرون بنسب مخيفة وفي الوقت ذاته نجد الكوكب الذي تعيش فوقه يتصحر وثرواته الطبيعة تتآكل وتنضب والتلوث يغزو حقوله مع تقدم الصناعة و ماتفيض به مداخن معاملها حتى لقد صار واضحاً أن درجة الحرارة على الأرض تتصاعد حتى في أوروبا .
و من هنا يحق لنا أن نتساءل أمام هذه المفارقة المفزعة والمتفاقمة بين التقدم الصناعي والتلوث الفضائي مقابل التكاثر المخيف لأعداد البشر ونضوب الثروات الطبيعية فما عسى الناس يأكلون و يشربون بعد مئة عام مثلاً فكيف بعد قرون إذا ما ظلت البيئة الأرضية تتردى و تفسد أكثر فأكثر ؟!!
لقد بات من المؤكد علمياً وليس عاطفياً أن الحديث عن المستقبل لم يعد حديثاً مبهماً على الرغم من إعتزازنا بالإنجازات العلمية المتسارعة ولهذا لا يجوز أن تسمي مديحنا أيام زمان أنه نزعة رومانسية أو دليلاً على شيخوختي أنا وأمثالي وإنما هي فعلاً حصيلة مؤسفة جداً ولا منجاة منها كما يبدو لكل ما يعد به التقدم الصناعي من إنجازات خارقة قادرة على إبتكار حلول لا تخطر على بالنا اليوم .. و ما من حلول حتى الآن مقنعة ممكنة في يد البشر لمعضلة الخراب الذي يصاحب التقدم الصناعي المرعب …
بلى .. لا بد من التفائل و إن لا قتلنا التشاؤم، و ليكن الحق مع الشباب في إتهامنا بالشيخوخة أو الرومانسية الفارغة التي تعيق التقدم البشري . ليكن الحق معهم فعلاً و ياليتني أكون مخطئاً في كل ما زعمته من مخاوف ، و لكن ما عسانا نصنع مع العلماء المتشائمين وما يقولونه في المؤامرات العالمية للعلم ومخاطره على البيئة …ماذا نقول للعلماء هؤلاء و كثير منهم شبان أذكياء و عباقرة أحيانا ؟!..
ها أنذا و قد أوغلت في العمر لا أشكو فقط الفساد الذي يتفاقم في بلادنا العربية المتخلفة التي تشكو من وباء السلطة الطاغية ومن طغيان المتعصبين دينياً وما يسببونه من عقبات في طريق أي تقدم علمي أو سياسي…مصيبتنا مختلفة عن مصائب الدول الكبرى فما عساني أصنع لكي أسمح للتفائل أن يطهرني من التشاؤم…
ها أنذا أفتح النوافذ في بيتي كل صباح للنور والهواء غير عابئ بركام الفساد عبر السنين المتوالية وكأنني سأعيش حتى يوم تنطفئ الشمس ولا يبقى ثمة أرض كي أقول أنا على حق في مخاوفي ….