عشر سنوات على أحداث درعا… آلية تشكّل الأزمة السورية
لم يلحق الرئيس السوري، مع الانفجار المجتمعي السوري البادئ منذ أحداث مدينة درعا في 18آذار/ مارس2011، بالرئيسين التونسي والمصري عندما سقطا في الشهرين الأول والثاني من العام، وكان وضعه أفضل من الرئيسين اليمني والليبي بعد انفجار مجتمعَيْهما في شباط/ فبراير.
في تونس ومصر وقف الجيش على الحياد مع بدء الانفجار المجتمعي وفي منتصفه ثم ضغط على رأس السلطة للتنحي، كما أن الراعي الدولي للسلطتين التونسية والمصرية، أي واشنطن، كان في النهاية مع التنحي. في ليبيا واليمن انقسم الجيش، وكان الراعي الدولي والإقليمي، أي الولايات المتحدة والسعودية، مع تنحي الرئيس اليمني، وكان المبعوث الدولي المكلف بالمسألة اليمنية ضد عناده بالبقاء، فيما وقف الغرب الأميركي – الأوروبي مع إزاحة معمر القذافي، وتخلّت موسكو عنه عند إصدار القرار الدولي1973في 17آذار/ مارس2011 الذي كان غطاءً لتدخل حلف الأطلسي- الناتو في ليبيا. كانت المعارضة في البلدان الأربعة قوية وقاعدة السلطة ضعيفة من الناحية الاجتماعية.
في سوريا ظلّ الجيش تحت قيادة السلطة السياسية ولم يقف موقفاً مضاداً لها أو يقف على الحياد بتأثير نشوب الاحتجاجات الاجتماعية المعارضة، وكانت انشقاقات الضباط وصف الضباط والجنود السوريين جزئية وسطحية وليست عميقة في بنية المؤسسة العسكرية. السلطة السورية كانت لها قاعدة اجتماعية أقوى من السلطتين التونسية والمصرية، والمعارضة السورية كانت أضعف من تونس ومصر وحتى من اليمن وليبيا، وفي مجتمع متنوّع دينياً وطائفياً وتوجد فيه أقلية قومية كردية، كان من الصعب أن تنتصر معارضة كان يتزعّمها الإسلاميون أو هم أصبحوا في صفها الأول أو يمسكون بمقود باص المعارضة منذ خريف2011. كان للسلطة السورية تأييد كاسح عند الأقليات الدينية والطائفية(25%من السكان)وكان لها تأييد كبير عند التجار والصناعيين في مدينتَي دمشق وحلب وباقي المدن السورية وأغلبهم من السُّنة، وكانت فئة رجال المؤسسة الدينية السنية مع السلطة وهي التي يسودها التفكير الأشعري- الصوفي الذي يرى «المناصحة أفضل من الخروج على الحاكم» أو الحصول على المكاسب الثقافية مقابل التأييد السياسي، كما نجد تأييداً حذراً للسلطة كان موجوداً في عام 2011 عند أغلب الفئات الوسطى من السُّنة. المسافة التي للسلطة السورية عن واشنطن كانت ميزة لها وليست عاملاً سلبياً لها ، أولاً من حيث إنها، رغم تقارب باراك أوباما من دمشق في عامَي 2009و2010، لم تؤدّ إلى وجود قوة ضغط دولية مؤثرة في داخل بيت السلطة كما في حالتَي زين العابدين بن علي وحسني مبارك تدفع أطرافاً في السلطة للتحرك أو للضغط على رأس السلطة للتنحي، وأيضاً هذه المسافة التي للسلطة السورية عن الأميركيين قد دفعت طهران وموسكو لكي تشكّلا سنداً للسلطة السورية وخاصة مع تشكّل استقطاب أميركي- أوروبي- تركي- خليجي ضد السلطة السورية اكتملت ملامحه في شهر آب\أغسطس2011.
هذه العوامل للقوة عند السلطة السورية قد جعلتها لا تميل للتنازل أمام الحراك المعارض في الشارع، وكان هذا واضحاً في خطاب الرئيس السوري في 30آذار\مارس2011، ثم مع نزول الجيش إلى مدينة درعا ومنطقة حوران في 25نيسان/ أبريل، حيث اختارت السلطة طريق المجابهة العنيفة، مع تنازلات جزئية، للحراك المعارض الذي امتد في ربيع وصيف 2011 بسرعة من درعا وحوران إلى ريف دمشق ومدن اللاذقية وحماة (قبل انكفاء هاتين المدينتين عن الحراك في خريف2011) وحمص ودير الزور وإلى أرياف محافظات حمص وحماة وإدلب وحلب ودير الزور. لم تستطع السلطة السورية عبر المجابهة العنيفة للحراك المعارض أن تنهيه أو تهزمه أمنياً- عسكرياً، كما حصل من قبل السلطة السورية في أحداث حزيران1979-1982،حيث كان من الواضح أن هناك قاعدة اجتماعية أقوى وقادرة على الاستمرار تمنع إمكانية سحق أو إنهاء الحراك المعارض وهزيمته، ولكن هذه القاعدة الاجتماعية للحراك السوري المعارض قد كان من الواضح أنها لا تعطيه القدرة الذاتية على إسقاط السلطة السورية ولا على إجبارها على التنازل عبر تسوية حل وسط من خلال حل انتقالي في سلطة انتقالية تتشارك فيها السلطة والمعارضة كما طرحت (هيئة التنسيق) في مؤتمر حلبون في 17أيلول/ سبتمبر 2011 وهو ما خالفت الهيئة فيه باقي المعارضين.
في أيلول/ سبتمبر2011 كان من الواضح أن هناك توازناً يمنع انتصار السلطة ويمنع انتصار الحراك المعارض، وقد كان جلياً أنهما لا يملكان الرغبة والميل نحو التسوية والحل الوسط. تعزّز هذا الميل لعدم التنازل عند المعارضة مع دعوة الرئيس الأميركي للرئيس السوري بالتنحي في 18آب/ أغسطس، لكنها كانت تدرك عدم قدرتها على تحقيق ذلك بوسائلها الذاتية ولو مع وجود دعم دولي- إقليمي، لذلك بدأت في تلك الفترة الدعوة عند أغلبية المعارضة السورية (من دون هيئة التنسيق) للتدخل العسكري الخارجي ولو تحت قناع «المناطق الآمنة»، وكان الاتجاه بالتزامن مع ذلك عند أولئك المعارضين نحو العمل المسلح المعارض(منذ خريف 2011) هو من أجل إنشاء حرائق سورية تأتي القوى الدولية للتدخل بذريعتها. بالمقابل تعزّز هذا الميل للمجابهة عند السلطة السورية مع الفيتو الروسي في 4 تشرين الأوّل/ أكتوبر2011 الذي أعلنت من خلاله موسكو في مجلس الأمن أنها لن تكرر في سوريا ما فعلته قبل سبعة أشهر تجاه ليبيا، وبالتالي تختار الانخراط مع السلطة السورية، بالتعاون مع إيران، في مجابهة الحلف الأميركي – الأوروبي – التركي – الخليجي على الأرض السورية.
ما جرى بين يومَي 18آذار/ مارس2011 و 4 تشرين الأوّل / أكتوبر2011، قد أنشأ تشكيلاً لأزمة سورية، بدأت داخلية وظلت كذلك حتى العشرية الأولى من الشهر الثامن من العام عندما أعلنت تركيا والسعودية الافتراق والمجابهة مع السلطة السورية لتصبح إقليمية وخاصة مع وجود دعم إيراني للسلطة السورية كان واضحاً منذ ربيع 2011، ثم أصبحت أزمة دولية في 18آب \أغسطس مع دعوة باراك أوباما للرئيس السوري بالتنحي ومع الفيتو الروسي في نيويورك في 4 تشرين الأوّل/ أكتوبر، مع إعلان «جبهة النصرة»، وهي امتداد لـ»تنظيم القاعدة»، عن نفسها في 23كانون الثاني/ يناير2012 أصبح هناك طابق منظمات دولية عابرة للحدود هو الطابق الرابع من بناء الأزمة السورية بطوابقه الثلاثة الداخلية – الإقليمية – الدولية، وقد كانت هناك منظمات عابرة للحدود تتبع طهران انخرطت في الصراع السوري متمثلة في تنظيمات عسكرية شيعية عراقية وأفغانية، قبل أن ينخرط حزب الله في الصراع السوري منذ نيسان/ إبريل2013. في هذا الصدد كان لافتاً وفي بلاغ رسمي أن يعلن حلف الأطلسي – الناتو في أول تشرين الثاني/ نوفمبر 2011 أن «لا نية له بالتدخل العسكري في سوريا». كان يعني هذا أن لا تكرار للسيناريو الليبي عندما حسم (الناتو) الصراع المسلح الداخلي الذي كان يميل لمصلحة القذافي، وجعل الساحة السورية في أزمة مفتوحة يتم عبر نارها المشتعلة الإتيان بطناجر طبخات متعددة يتم إنضاجها على النار السورية المشتعلة بفعل تغذية داخلية وخارجية.
هنا، الأزمة تشكّلت داخلياً بفعل استعصاء توازني يمنع طرفَي الصراع من الحسم لمصلحة أيّ منهما، ومن عدم وجود ميل عندهما للتسوية. أصبحت أزمة إقليمية- دولية متراكبة مع الداخلي بفعل انخراط دول إقليمية ودولية متخندقة في خندقَي الصراع السوري تريد منع دول إقليمية ودولية من تحقيق أجنداتها ضدها، أو أجندات غير مرغوبة منها، عبر الساحة السورية.كان دخول «النصرة»، ثم «داعش» الذي تأسّس في 9 نيسان/ أبريل 2013، عاملاً مؤثراً في رسم مواقف قوى دولية وإقليمية تجاه الصراع في سوريا وعلى سوريا.
في هذا الصدد، هناك أزمات تُترك مفتوحة، وهناك أزمات يتم إغلاقها بسرعة بعد أن تُترك مفتوحة لفترة من الزمن، كما في ليبيا أغسطس2020- فبراير2021، بعد أن تُركت الأزمة الليبية مفتوحة منذ صيف 2014. كان من الواضح أن هناك رغبة دولية – إقليمية بترك الأزمة السورية مفتوحة منذ عام 2012 ومصير (بيان جنيف1) الصادر في 30حزيران \يونيو 2012 والقرار 2254 الصادر في 18كانون الأول/ ديسمبر2015، من حيث تركهما بوضعية (لا معلق ولا مطلق)، يوحي إلى ذلك.
يبدو أن السبب في هذا، يعود إلى أن تغيير المشهد السوري أو التسوية الدولية- الإقليمية- الداخلية لأزمته ستكون لهما آثار بالغة دولياً وإقليمياً أبعد من تغيير عراق2003. التغيير السوري عام2011 كان سيولد تغييرات لمصلحة المحور الأميركي- الأوروبي- التركي- الخليجي، وهو ما لم تكن تريده موسكو وطهران، وكان سيولد تغييرات في مشهد الصراع العربي- الإسرائيلي ،وهو ما لم تكن تريده طهران الممتدّة للصراع من خلال لبنان وقطاع غزة، وكان هذا التغيير سيزعزع تركيبة عراق ما بعد 9 نيسان\أبريل2003 ولبنان ما بعد7 أيار\مايو 2008، وهو ما لم يريده الإيرانيون، وكان هذا التغيير سيولد فراغاً في الجغرافية السورية أو بعضها، كما حصل في عراق ما بعد صدام حسين، يجعل الإسلاميين، ومنهم «تنظيم القاعدة»، على الحدود مع إسرائيل، وهو ما لم تكن تريده تل أبيب وواشنطن، وكان هذا التغيير من الممكن أن يجعل جماعة الإخوان المسلمين في صدارة المشهد السوري كما حصل في قاهرة ما بعد حسني مبارك، وهو ما كان لا تريده السعودية لأنه سيؤثر على الوضع الداخلي هناك، وعلى الأرجح أن انخراط السعودية في الصراع السوري كان لمنع ذلك من خلال إحداث توازنات في المعارضة تمنع (الإخوان)من تصدّر المشهد المعارض، وهو ما رأيناه في جهود الرياض لتوسعة «الائتلاف» في أيار/ مايو 2013.
كل ما سبق، جعل مصالح الأطراف الدولية والإقليمية، المتصارعة في سوريا وعلى سوريا، تتفق وتتلاقى على ترك الأزمة السورية مفتوحة لما يقارب تسع سنوات ونصف سنة من الزمن حتى الآن، بعد أن تشكّلت الأزمة السورية في عملية زمنية استغرقت ستة أشهر ونصف شهر.
صحيفة الأخبار اللبنانية