عشر سنوات من الاحتمالات
“كلما كانت الهاوية التي تسقط فيها أعمق …كانت فرحتك بتعلم الطيران أكبر”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نيسان – ابريل 2008
تجربة أولى بالنسبة إلي، إقامة حفل توقيع كتاب.
الكتاب هو رواية “إلى الأبد ويوم”.الرواية الاولى .
جاء الأصدقاء، والأقرباء، والفنانون والكتاب والصحفيون. وامتلأ المكان برائحة ود مقطوع في ازدحام الحياة، ود لا يحتاج إلى أكثر من شرارة لمناسبة ، ومصافحة لدهشة الغياب بين البشر، وهم يتنفسون هواء مدينة واحدة… حتى تتوهج شمعة .
اكتشفت الكثير من الأفكار، واستمتعت بالكثير من الانطباعات. ولدي في ذاكرة القلم، كما لدى كل الكتاب ، ذلك الحب الذي أخفيناه طويلاً عن أنفسنا وعمَن نحب ، لأننا نتلقى، مع حليب الحياة اليومية، ثقافة التحفظ الذي يواري ما نريد أن نخفيه من هشاشتنا ، فلا نقول لمن نحب : انا احبك .
اكتشفت، وأنا أوجه رسائل الدعوة عبر الموبايل أنني، دون أن أدري، أهمل أسماء كثير من الناس الذين أعرفهم، وأعرف أن الحياة أخذتهم، بيد شقية، إلى همومها، ونقص قراءتها، وضعف جمالياتها.
ثم أدركت، هكذا بلمعة خاطر تجريبي، وقلت: لم لا أدعوهم ليكون في مكتبتهم كتابي هذا؟ لم لا أعتمد على فطرة ذكاء الفضول، وتجربة أن يقرأوك (دون مهابة) فأنت في الرواية، مهما غمغمت كلماتك، لا بد أن تفصح عن شيء مشترك يخصكم معاً وجميعاً، ما دام الزمان والمكان أداة الحيز لقياس منسوب العيش المشترك، والتجربة المشتركة؟
للمفاجأة… جاء هؤلاء العاديون، المتلفتون إلى هيئة المكان ( مكان التوقيع) وإلى كل هؤلاء الذين يعرفونهم من المثقفين والفنانين… جاؤوا واشتروا نسخاً لهم ولأصدقائهم. وللمفاجأة كان، هؤلاء العاديون، هم السباقون إلى الاتصال للقول: قرأناك. وإلى إرسال الرسائل للتعبير عن رأي أو انطباع . المفاجأة…باختصار :
إن الحب في هذه الدنيا…
في آخرها وأولها،
شمالها أو يمينها…
ليس خرافة…
بل هو معجزة
الحياة البشرية!
……………………………
بعد مرور عشر سنوات (الان )2017
على صدور الرواية الأولى “إلى الأبد ويوم”… ها أنا مرة أخرى، أوقع الرواية الاخيرة، التي أظنها الأخيرة :”قطعة جحيم لهذه الجنة”.
وفيما أنا منهمك بإرسال دعوتي إلى الحضور في معرض دمشق للتوقيع… أكتشف نقص حماسي لهذه المناسبة التي كانت طافحة بالفرح، فيما مضى، وأثناء توقيع الرواية الأولى. اكتشفت أن تسعين بالمائة من الأسماء المسجلة في مفكرتي، لم تعد موجودة.
بعضهم في القبور، البعض في المهاجر والمنافي واللجوء.وفي المجهول . بعضهم لم يعودوا أصدقاء… بسبب الاصطفافات ثلاثية اللفظ
“الخنادق
والبنادق
والبيادق”.
وهو الأمر الذي يبدو مؤسفاً وموجعاً، ولأكتشف في هذه اللحظات، كم هو محزن ومدمّر هذه القطيعة القصوى بين بلاد وبشر، بين السلامة والحرب، بين ما كان وما لن يكون.
اكتشفت أيضاً أن نبوءاتي السوداء، ووصفي الذي أستخدم فيه، غالباً، زراعة الاحتمالات، دون إهمال أصغرها، وأقلها حظاً…
كل نبوءاتي السوداء قد تحققت. سواء تلك التي رويتها في الرواية الأولى، أو التي أرويها في الأخيرة..
وهكذا نشأ الفارق بين هذا المدخل لفصل في رواية “إلى الأبد ويوم”:
“الإنسان قادر على صنع كل شيءعدا عش الطائر” وبين هذا المدخل في رواية “قطعة جحيم لهذه الجنة”:
“مهنة الكاتب كمدرب رقص جماعي في مكان ضيق، بلا موسيقى، وفي العتم “.
في الرواية الأولى قصة حروب وهزائم وزلازل وفظائع وانتهاكات وأخطاء وخطايا وأبطال صغار وضحايا… كلها مضت واستقرت في الذاكرة والوجدان الخفي للإنسان. وأصبحت تشبه ندبة لعضة وحش الأيام تميزنا عن بعضنا في أثر الألم.
في الرواية الأولى: الماضي لا يريد أن يمضي.
في الثانية… حرب وليس قصة حرب. كتبتها وأنا أضع على جبيني مصباحاً مربوطاً بمطاط، كمصابيح عمال المناجم، فالكهرباء تأتي نصف ساعة وتمضي ساعات.
في شهر شباط،/فبراير (زمن كتابة الرواية) كان البرد يعلّم الإنسان التدثر بحذائه، واستعارة الدفء من الذاكرة ، والجلوس تحت لحاف فيما أنا أكتب، رواية عن الحرب التي أخذت الكهرباء والنفط والغاز، وفضحتنا أمام حاجات النوم في حديقة الزمهرير.
في الرواية الثانية: الحاضر لا يريد أن يصبح ماضياً.
اكتشفت أخيراً…ورطتي مع يقينياتي التي لا تريد أن تذهب إلى مذاهبها الحرة العصية على التصنيف… سوى حريتها:
“إن أكبر المعارك يجب أن نخوضها، لا بالأسلحة، بل ببسالة الضمير”.
اكتشفت أنني ما زلت أحمل قلماً، لا مطرقة، لأنني من المؤمنين، بأنه “إذا كانت المطرقة هي الأداة الوحيدة معك، فستعامل كل الأشياء على أنها مسامير”.
اكتشفت …ان الرواية نوع مؤلم من النشاط الانساني ، لان التجربة تعاش ، انفعاليا ، مرتين .
مرة … فيها .
ومرة …عنها.