عصر التوحش
“للمرأة حق الترشيح… سواء كانت ذكراً أم أنثى”.
وفي تعداد إنجازات الحكومة (الثورة) خطب الزعيم: ” أيها الشعب… لولا الكهرباء التي أمنّاها لكم لجلسنا نشاهد التلفزة في الظلام”.
هذا خطاب جدّي تفوه به زعيم عربي. وكلهم كذلك، بالمناسبة، إذ يعددون إنجازاتهم بدءاً من تأمين وسائل جمع القمامة إلى جعل الكهرباء منّة وأعطية، كهدية لمنع الظلام من إلغاء التلفزيون.
وفي الحقيقة، قد تكون هذه المقدمة بداية سيئة للحديث عن ثقافة الثورات العربية كلها. قديماً وحديثاً. إذ لم تكمل أي منها مشوارها، بل في ربع الطريق خانت كل ما قالت، من الثورة الجزائرية ضد الفرنسيين، إلى المصرية ضد الملكية والاحتلال البريطاني، إلى ثورة العراق 1958 إلى البعث السوري 1963 إلى ليبيا 1969 إلى أيامنا هذه.
التطور الذي يمكن تسجيله هو تزايد السكان، الذي لا يتوافق مع زيادة الموارد. في الستينات كانت الجملة العربية السائدة كمفخرة هي:”العرب… نحن مائة مليون” “أمة المئة مليون”. وراء هذه المفاخرة فكرة الغلبة بقبيلة أكبر عدداً. ولقد وقعت أفدح الهزائم عندما كان العرب قد تجاوزوا المائة وخمسين مليوناً. والآن، بعد كل الثورات، والزيادات، وحيث أصبحت أمة العرب تفوق الثلاثمائة مليون… نجد أن الوضع العربي قسمان: قسم استهلك ثروته الطبيعية (النفط) وقسم استهلك ثروته البشرية (الحروب). وحين كان بوسع العالم العربي أن يتطور وينافس الدول المتقدمة، في الوفرة ومستوى المعيشة، والتقدم العلمي، فإنه وطن مديون، واكتفى من التقدم بأفضل أنواع القنابل، وأفضل أنواع الموبايلات. وأسوأ أنواع الخيارات.
أما الثورات فقد هيأ الجيل الأول منها أرضاً خصبة للجيل الثاني من الثورات. الجيل الأول طرح موضوعة الاشتراكية، والوحدة القومية، والحداثة. والحصيلة كانت المزيد من الظلم في “توزيع” الثروة، والأفدح “تبديد” الثروة. والمزيد من تقكك الوحدة القومية. وصولاً إلى تدميرالوحدة الوطنية. أما الحداثة فهي كما سماها الكاتب “مارشال بيرمان” ـ حداثة التخلف.
الجيل الثاني من الثورات كانت ولادته سهلة. لأنه يملك مرجعيات حاسمة وغير قابلة للحوار: الدين والسنة. وبهذه المرجعية ينخرط جيل كامل بإنجاز الخراب الواقعي لبناء وهم العالم الإسلامي. وساعد في التجنيد لهذه القوة المسلحة الجديدة، الأنظمة التي بلا شرعية الخدمة العامة، ولا السياسة العادلة، ولا إنجاز مهام وشعارات المراحل الوطنية.
مع الثورة الربيعية تعددت الاتجاهات الإسلاموية، وتسلحت وأنتجت خطاً مرعباً بعنوان مرتفع: “إدارة التوحش”، وهو عنوان كتاب “داعش” المرجعي.
” في أحدى المراحل… ستنشأ فوضى، في مناطق متوحشة، ينبغي، عندئذٍ، على المجاهدين السيطرة على المناطق، وإدارتها، وتوسيعها. وعلى المجاهدين التعجيل بقدوم مرحلة التوحش، عبر العنف، والعمليات ذات الطبيعية التفكيكية، لمراكمة الهلع عبر مراكمة انتصارات سهلة وصغيرة، هنا وهناك في المناطق المنكوبة.
الانخراط الدولي في مناطق وحيثيات الشأن السوري، والحرب السورية أنجز الوصول إلى مرحلة فرز الخيارات. وإلى نقطة اللاعودة عن الحسم. والذي يبدو أنه الطريق الوحيد للعملية السياسية اللاحقة لترتيب ” سورية اليوم”.
الحسم يعني هزيمة المشروع الكبير للإسلام السياسي بتسمية ” مدير التوحش” ـ داعش، ومدير ظل الخليفة على الأرض ـ النصرة… هي موضوع هذه المعركة الكبرى. أو عتبتة الأولى، في إدلب.
إنها أيضاً، مسألة نظام حكم آت أفضل من نظام حكم آفل.
هكذا يمكن فهم إصرار الأطراف، اليوم على حسم معركة إدلب.
ربما كانت أعلى مراتب الحسم… هذه المعركة!